لكل دولة من دول العالم اليوم ثلاثة رموز وطنية تُميّزها عن غيرها من الدول كونها تستوحى من طبيعة هويتها التأريخية والجغرافية والإجتماعية وهي النشيد الوطني واليوم الوطني والعلم الوطني والتي تم إعتمادها عالمياً لتمييز هوية دول العالم عن بعضها البعض بعد تبلور مفهوم الدولة الحديثة في بدايات القرن العشرين.. ورغم أن هذه الرموز الثلاث يُفترَض أن تُحترَم وتكون من الثوابت لهذه الدولة أو تلك وهي كذلك بالنسبة للكثير من دول العالم التي تحكمها نخب سياسية تحترم نفسها وشعوبها ودولها إلا إننا نرى أنها تتغير في بعضها بتغير أهواء وإنتمائات النخب السياسية التي تطرأ بين الحين والآخر على واقعها السياسي بفعل الإنقلابات العسكرية التي تعصف بها بين الحين والآخر كما في العراق.. فلقد كان العراق دولة قانون ملكية دستورية يُميّزها نشيد وطني ويوم وطني وعلم وطني وتحكمها نخبة واعية متنورة من عام 1921 وحتى عام 1958 حينما قامت فئة من الضباط المغامرين بإنقلاب دموي على نظام الحكم الملكي لتدخل البلاد بعدها في فوضى سياسية كانت نتيجتها سلسلة من الإنقلابات الجمهورية الدموية المتلاحقة وكلما جائت فئة لعنت التي قبلها وغيرت ومسخت كل ماقامت به من أعمال ولم تَسلَم من بعضها حتى دوائر الدولة ومؤسساتها الأمنية والخدمية بل وصل الأمر الى أسماء الشوارع والأحياء العراقية التي يصل عمر بعضها لمئات السنين وكان أول وأبرز ماتسعى هذه الفئات الإنقلابية لتغييره قبل أي شيء آخر هو رموز البلاد الوطنية الثلاثة التي ذكرناها في محاولة منها لإلغاء ملامح الفئة التي سبقتها ظناً منها أن لسابقتها وجوداً رمزياً في تركيبة ومعالم هذه الرموز.. لذلك فقد مرت على العراق منذ تأسيس دولته الحديثة وحتى الآن سلسلة من الأناشيد والأيام والأعلام الوطنية كان أولها نشيد موطني وتأريخ 3 تشرين الأول الذي يمثل تأريخ إستقلال العراق وقبوله عضواً في عصبة الأمم والعلم الملكي والتي كانت تمثل رموز الدولة العراقية الملكية تلتها مجموعة من الأناشيد والتواريخ والأعلام التي أريد لها أن تكون رموزاً وطنية للدولة العراقية بحسب أهواء أصحابها لكنها لم تكن تصمد أمام الإنقلابات المتكررة التي كانت تأتي ببدائل جديدة لها.. ولكن بعد 9 نيسان 2003 وسقوط فئة إنقلاب 17 تموز 1968 الشمولية التي ظن الكثيرون بأنها ستكون آخر هذه الفئات الإنقلابية التي عرفها العراق فكّر العراقيون في إعادة أو وضع رموز وطنية عراقية تتلائم بالفعل مع طبيعة العراق وليس مع طبيعة وأهواء النخبة السياسية الحاكمة فيه..وبعد شَد وجَذب وأخذ ورَد تم إقرار بعض هذه الرموز ولايزال البعض الآخر ينتظر نتيجة للتجاذبات السياسية بين تيارات النخبة الحاكمة الحالية التي تغني كل منها على ليلاها.
كان أول هذه الرموز الوطنية التي تم إقرارها بعد 9 نيسان 2003 هو النشيد الوطني.. فنتيجة لتصرف جماهيري عفوي غير مقصود ولم يكن مخطط له على الإطلاق من بين كل ماخطط له سلفاً من خطط جهنمية مِن قبل أحزاب المعارضة السابقة إختار الشعب العراقي إعادة الإعتبار لنشيد (موطني) الذي كان نشيد العراق الوطني في العهد الملكي كنشيد وطني للدولة العراقية الجديدة التي كان من المنتظر ولادتها بعد ذلك التأريخ إلا أنها قبرت في مهدها.. ورغم أن حكومات الأنظمة الجمهورية التي تعاقبت على العراق بعد 14 تموز 1958 دأبت على تغيير النشيد الوطني كلما إنقلبت على بعضها البعض ليتلائم مع توجهاتها العقائدية والحزبية إلا أن (موطني) هو النشيد الوحيد الذي ظل عالقاً في قلوب وأفئدة العراقيين جيلاً بعد جيل وبالتالي وفي خضم الفوضى التي تلت 9 نيسان وإنشغال أحزاب السلطة بتوزيع الحصص والمغانم فيما بينها رضخت لإختيار الجماهير العراقية الذي فاجئها حينها وأصبح اليوم واقعاً مفروضاً عليها رغم إن الكثير منها سبق وأن إبتدع وهيأ أناشيد حزبية روج لها بين أتباعه في الخارج قبل سقوط النظام وكان يخطط لتمريرها على العراقيين بعد أن تستتب له الأمور كنشيد وطني للعراق إلا أن لحمة ويقظة وأصالة العراقيين كانت لهم ولمخططاتهم بالمرصاد
وفي الوقت الذي لم يأخذ فيه موضوع النشيد الوطني كثيراً من الوقت وحسم الأمر بعد 9 نيسان 2003 بسرعة وبأغلبية جماهيرية ساحقة لعودة نشيد (موطني).. خضع موضوع إختيار يوم العيد الوطني للعراق الذي كان طوال عقود حكومات الإنقلابات الجمهورية هو نفس تأريخ اليوم الذي يتم فيه الإنقلاب وتسيل فيه دماء العراقيين للكثير من الجدل وتدخلت فيه أهواء البعض وإنتمائاتهم الحزبية فهذا يريده يوم 14 تموز وذاك يريده يوم 9 نيسان ولكن قبل فترة صدر قرار يمكن وصفه بالتأريخي من قبل ما يسمى مجلس النواب العراقي بإلغاء إعتبار تأريخي 9 نيسان و 14 تموز الإشكاليين كعيد وطني وإعتبار تأريخ 3 تشرين الأول هو العيد الوطني للعراق لأنه يمثل يوم إستقلال العراق رسمياً من الإنتداب البريطاني ودخوله كدولة مستقلة في عصبة الأمم وهي بادرة توحي بأن في الفئة الحاكمة الحالية رغم كل مساوئها التي لاتعد ولاتحصى مَن فيهم أمل ولديهم وعي يُبشّر بخير.
أما موضوع العلم العراقي فهو أكثر هذه المواضيع إشكالية حتى هذه اللحظة.. فإذا كان العراقيون وسياسيوهم قد تمكنوا حتى الآن من الإتفاق على موضوع النشيد واليوم الوطني فإنهم قد إتفقوا في موضوع العلم على أن لايتفقوا فهنالك من يرفض الإعتراف بالعلم الذي كان معتمداً قبل 9 نيسان 2003 كونه يعتبره علم صدام بعد أن خط عليه بيده عبارة الله أكبر ويريد تصميم علم جديد أو إعادة علم إنقلاب 14 تموز وهنالك من يرغب ببقاء هذا العلم مع عبارة الله أكبر وهنالك من يرغب ببقائه من دونها أو من دون النجمات الثلاث وذهبت محاولات تصميم علم جديد أدراج الرياح بعد أن رفضت بعض الأحزاب تصميماً أعده قبل أربع سنوات أحد الفنانين فيما وافقت عليه أحزاب وأخيراً وليس آخراً وقبل أيام وفي خطوة خجولة الهدف منها كسب الوقت وترضية أطراف سياسية معينة أقر مايسمى بالبرلمان العراقي علم غريب لاهوية له اللهم إلا الهوية الدينية التي يراد صبغ العراق بها بالقوة بعد 2003 وذلك لمدة سنة واحدة هو نفس العلم الذي كان في زمن صدام مع رفع النجمات الثلاث وإبقاء عبارة الله أكبر مع تبديلها الى الخط الكوفي رغم إن النجمات الثلاث التي تم رفعها كانت موجودة أصلاً في العلم العراقي قبل مجيء صدام حسين الى السلطة في حين أن عبارة الله أكبر وضعها صدام بنفسه وبيده في العلم فإذا بسياسيينا الأشاوس من حيث يعلمون أو لايعلمون يُبقون ماكان صدام حسين قد أضافه بسُلطته الى العلم العراقي ويزيلون ماكان فيه أصلاً قبل وصوله الى هذه السلطة.. وهي كلها بالنتيجة محاولات فاشلة لا ولن ترضي الشعب العراقي ولكن من بين كل هذه الأطراف المتنازعة وضوضائها المزعجة هنالك أغلبية صامتة ترى بأن العقل والمنطق والشرعية الدستورية تقول بحتمية عودة علم العراق المشار إليه في الأسفل والذي كان يرفرف في سماء العراق أبان العهد الملكي لشرعيته القانونية والدولية أولاً ولأنه كنشيد موطني وكتأريخ 3 تشرين الثاني كان لكل العراقيين.. لذا ياحبذا لو إمتلك السياسون العراقيون الجرأة لحسم هذا الموضوع وإنهاء الجدل والنقاش العقيم الدائر بحقه بإعادة علم الدولة العراقية الشرعي والذي أقر دستورياً عند تأسيس الدولة العراقية الحديثة مع تبديل النجمتان السباعيتان اللتان رمزتا حينها الى ألوية العراق الأربعة عشر الى نجمتين بتسعة رؤوس إشارة الى محافظات العراق الثمانية عشر الحالية.. وقد يقول قائل بأن هذا العلم الذي نعنيه والمشار إليه في الأسفل هو علم الثورة العربية الكبرى أو أن شكله وألوانه مستوحاة من ذلك العلم وهو ماسيزيد من محبتنا لهذا العلم وتمسكنا وإعتزازنا به فشرف لنا بأن يكون علم دولتنا الحديثة مستوحى من علم الثورة العربية الكبرى التي لولا مفجرها وقائدها الشريف حسين بن علي وأولاده الأبطال فيصل وعلي وعبد الله وزيد لما إستقل العراق بشكله الحالي وحدوده الحالية ولما تأسست دولته الحديثة ولبقي العراق حتى اليوم محتلاً وعبارة عن ثلاثة ولايات هي بغداد والبصرة والموصل تابعة للدولة العثمانية.
منذ سقوط النظام الملكي في العراق قبل نصف قرن من الزمان وكلما جاء نظام جديد على أنقاض الذي سبقه قام بتغيير كل شيء في البلاد ولو كان بيد بعض هذه الأنظمة لقامت بتغيير سكان البلاد أنفسهم بل وحتى إسم البلاد وتركيبتها الجغرافية والإجتماعية وهذا ماتحاول بعض أحزاب السلطة الحالية بالفعل القيام به في العراق اليوم.. إلا أن عودة رموز العراق الوطنية التي كانت أيام النظام الملكي من جديد الآن رغم مرور نصف قرن من الزمان على مسخها من قبل من جائوا بعد ذلك النظام لهو دليل قاطع على أصالة هذه الرموز الوطنية وعلى تمسّك العراقيون بها وبذلك النظام الذي لايزال حاضراً في ذاكرتهم ولازالوا يَحِنّون إليه ويتمنون عودته بدلاً من النظام الجمهوري الذي أثبت فشله في حكم العراق منذ عام 1958 وحتى هذه اللحظة والذي تُصِر عليه النخبة الحاكمة الحالية إما لأنها مؤدلجة ضد النظام الملكي أو خدمة لمصالحها الحزبية والفئوية وخوفاً من ضياع السلطة والجاه والهيلمان التي تتمتع بها اليوم على حساب معاناة أبناء الشعب العراقي.. فالنظام الملكي سيبقى بذكرياته ورموزه وشخوصه حبيب العراقيين الأولِ وحاضراً في نفوسهم الى أن يشاء الله ربما في يوم من الأيام عودته لحكم العراق.. وهنا تحضرني أبيات الشاعر العربي الذي قال..
نقّـل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأولِ
كم منزل في الأرض يعشقه الفتى وحنينـه دومـاً لأول منـزلِ
مصطفى القرة داغي
التعليقات