أخطأ بعضهم في قراءتي عندما كتبت عن quot; تقادم أحزاب الأممية الثالثة الشيوعية quot; في ديسمبر الماضي وفهموا أنني أدعو لتشكيل حزب شيوعي جديد مختلف متسائلين عما هو مختلف في الحزب الشيوعي الجديد العتيد!! إزّاء سوء الفهم هذا وما انتهى إليه من تساؤل خطير أرجو أن يمنحني القراء فرصة لأن أشرح ما ذهبت إليه وهو التأكيد بأن التقادم قد جرى فعلاً على الأحزاب الشيوعية القائمة اليوم التي كانت قد تشكلت كأذرع لأممية لينين التي قامت في العام 1919 من أجل استكمال المشروع اللينيني في الثورة الإشتراكية العالمية التي كان كارل ماركس وفردريك إنجلز قد تنبآ بها في العام 1848، وهي الأممية التي انهارت قبل انهيار مشروع لينين نفسه.

لا يمكن بحال من الأحوال أن تموت جذور الشجرة ويموت جذعها وتبقى الأغصان حيّة وتزهر وتثمر. انهار مشروع لينين المؤسس على ثورة أكتوبر وقيام الإتحاد السوفياتي كقاعدة قوية للمشروع، فكيف للأحزاب الشيوعية المتفرعة عن المشروع أن تبقى قائمة؟ كانت وظيفة هذه الأحزاب الوحيدة هو إنجاز المشروع اللينيني، فأي وظيفة يبقى لها بعد زوال المشروع وفقدانها أي طريق للوصول إلى الشيوعية؟ كل الأحزاب الشيوعية التي ما زالت قائمة ـ وتحتفظ بكنية الشيوعية ـ تهرب بجبن معيب من مواجهة هذا السؤال المفصلي. كيف لقادة هذه الأحزاب أن يسكتوا على أن يُعزى مثل هذا الجبن المخزي من خلالهم لآباء الشيوعية ماركس وإنجلز ولينين وستالين الذين واجهوا أعقد المسائل وأصعب العقبات بكل الشجاعة اللازمة؟؟ كيف يقبل قادة هذه الأحزاب أن يحولوا أحزابهم إلى أحزاب بورجوازية تنهمك في الدفاع عن أسباب العيش لجماهير البورجوازية الوضيعة؟؟ من يستعرض اليوم استراتيجيا أي حزب شيوعي في العالم لن يجدها مختلفة في الجوهر عن استراتجيا أحزاب يمينية في نفس البلد. كيف لأحزاب تسقط من برنامجها الخيار الإشتراكي اتساقاً مع منطق الأمور الجارية وتظل مع ذلك أحزاباً شيوعية؟! على أي شيوعي ما زال يحتفظ ببعض الوفاء لماركس ولينين ألا يقبل بهذا الصغار والمهانة بل بهذه الخيانة المفضوحة للطبقات العمالية بصورة خاصة وللإنسانية بصورة عامة.

في البلدان النامية كحال البلدان العربية انحصرت مهام الأحزاب الشيوعية في تطوير ثورة التحرر الوطني وفك الروابط مع مراكز الرأسمالية الإمبريالية. كانت البورجوازية تقود ثورة التحرر الوطني بهدف عزل البلاد عن السوق الرأسمالية الدولية كيما تتمكن من تحقيق برنامجها التنموي على الطريقة الرأسمالية لفائدتها؛ إلا أن اشتراك الشيوعيين بالثورة الوطنية جاء إدراكاً منهم أولاً أن المشروع البورجوازي الرأسمالي التحرري لم يعد يمتلك أي نصيب من التحقق، ثم إن فك الروابط مع مراكز الرأسمالية العالمية من شأنه الإجهاز على النظام الرأسمالي العالمي كخطوة لازمة نحو الدخول في مرحلة التنمية الإشتراكية. وقد ظهر ذلك جليّاً في الانحياز للتنمية الإشتراكية في بلدان كثيرة قطعت بقيادة البورجوازية إيّاها كل الروابط مع السوق الرأسمالية الدولية مثل مصر والجزائر وسوريا في العالم العربي وفي بلدان أخرى مثل فيتنام واللاوس وتشيلي ونيكاراغوا. اليوم استحال كل من المشروعين، البورجوازي الرأسمالي والبروليتاري الاشتراكي ؛ بل حتى مجرد الانفصال عن السوق العالمي لم يعد ممكناً في حال من الأحوال في ظل شروط منظمة التجارة العالمية. فأية مبررات تبقى إذاً لاستمرار الأحزاب الشيوعية كما كانت في السابق؟!

لن يجدي هذه الأحزاب أن تستغل جهل العامة بعلوم الإقتصاد السياسي لتحافظ على استمراريتها بحجة النضال ضد الإمبريالية الأمريكية تحديداً علماً بأن هؤلاء العامة يعلمون جيداً أن النظام الأمريكي قد غدا ينتج من الخدمات العامة لصالح الشعب ما يساوي ربما عشرة أضعاف ما ينتجه النظام في الصين quot; الشيوعية quot; وأن الإنتاج السلعي على الطريقة الرأسمالية في الصين ربما يفوق مثيله في الولايات المتحدة، ومع ذلك ليس ثمة من يتحدث عن إمبريالية صينية! ولا حتى عن إمبريالية يابانية والإنتاج الرأسمالي في اليابان يساوي ضعفي الإنتاج الرأسمالي في الولايات المتحدة الأميركية! quot; التفشير quot; لا يقيم حزباً شيوعياً ؛ هذا ما على الأحزاب الشيوعية العربية على الأقل أن تتعلمه وهي تخون التراث الماركسي اللينيني كيلا تضطر مثلما اضطر أحدها إلى استعطاف الماركسيين وغير الماركسيين من خارجه إلى التسجيل، فقط مجرد التسجيل في جداوله الرسمية، لئلا تضطر السلطات إلى إلغائه بمقتضى القانون نظراً لقصوره في اجتذاب الحد الأدنى من الأعضاء!! يصلون إلى مثل هذا الدرك من الهبوط مصرين على ألا يراجعوا الدور غير الأممي وغير الوطني الذي يقومون به!!

خلافاً لما فهمني البعض فإنني لا أدعو لتشكيل حزب شيوعي جديد مختلف، بل يكاد العكس تماماً هو ما أدعو إليه. وللدقة فإنني أدعو كافة الشيوعيين في العالم إلى البحث الجاد عن الطريق التي توصل إلى تشكيل حزب شيوعي ماركسي لينيني كتلك الأحزاب التي كانت قد تشكلت استجابة لنداء الأممية الثالثة 1919 الذي دعا كل الشيوعيين في العالم إلى تشكيل أحزاب شيوعية تشارك في إنجاز مشروع لينين في الثورة الإشتراكية العالمية. إنني أدعو بقوة إلى البحث عن الطريق المؤدية لتشكيل حزب شيوعي كحزب موريس توريز في فرنسا وحزب بالميرو تولياتي في إيطاليا، هذين الحزبين اللذين كانا يحتلان نصف مقاعد البرلمان في كلا البلدين في مطالع الخمسينيات ـ الشيوعيون اليوم في فرنسا لا يحتلون عشرة مقاعد، وفي ايطاليا ترك الشيوعيون البرلمان ليضاربوا في البورصة. الشيوعيون اليوم ليسوا شيوعيين لأسفي الشديد وحزني العميق.

لكن كيف نبحث عن الطريق المؤدية لتشكيل حزب شيوعي جديد مختلف، مثيلاً للأحزاب الشيوعية قبل ظهور سيء الذكر والسيرة المتآمر على حزب لينين وستالين، نيكيتا سرغيفيتش خروشتشوف؟

إكتشاف مثل هذه الطريق أمر في غاية الصعوبة بل يكاد يكون مستحيلاً وذلك لأن صورة المجتمع التي تبدّت لكل من ماركس وإنجلز ولينين ليست هي الصورة البادية اليوم. كان جيورجي بليخانوف يراهن في العام 1917، في معارضته لمشروع لينين، على أن أعداد البروليتاريا في القارة الأوروبية على الأقل ستزيد عن نصف عدد السكان في وقت قريب وعندئذٍ ستتمكن الثورة الإشتراكية من الإنتصار الساحق في العالم كله. اليوم وبعد تسعين عاما يخسر بليخانوف الرهان ؛ فالإنتاج السائد اليوم على صعيد العالم هو الإنتاج الفردي غير الرأسمالي الذي يتركز في الخدمات وينكمش بالمقابل الإنتاج الرأسمالي حتى إلى ما دون ربع مجمل الإنتاج الكلي في العالم مع ما يترافق ذلك من تراجع مساحة طبقة البروليتاريا في مختلف المجتمعات إلى ما دون الربع. بالطبع لم يخسر بليخانوف رهانه بسبب قصر نظره بل لأن الحزب الشيوعي السوفياتي بقيادة خروشتشوف وعصابته من الطغم العسكرية خانت الثورة وتنكرت لقضية البروليتاريا في الإتحاد السوفياتي وفي العالم وأعلنت جهاراً نهاراً في شباط 1959 إلغاء دولة دكتاتورية البروليتاريا التي هي الشرط الوحيد لنجاح الثورة الإشتراكية. خيانة الثورة الإشتراكية من قبل الحزب الشيوعي السوفياتي بقياد خروشتشوف وعصابته هو ما منح أساطين الرأسمالية الإمبريالية (G5) الفرصة للاستسلام في رامبوييه 1975 للطبقة الوسطى وليس للبروليتاريا وفق المسار الطبيعي للتاريخ ومقتضيات مشروع لينين ـ ويستذكر في هذا المقام استسلام الجيوش الألمانية الفعلي للجيش البريطاني الذي لم يكن له أي وزن في الحرب العالمية الثانية واستسلام الجيوش اليابانية إلى الجيش الأميركي علماً أنها لم تنهزم إلا أمام الجيش الأحمر في منشوريا وشرق آسيا.

السياسة هي أدب الصراع الطبقي ؛ والأحزاب هي الفصائل الطليعية في جبهات الصراع ؛ والحزب الشيوعي هو الفصيل الطليعي في جبهة البروليتاريا المسلح للاشتباك مع الطبقة الرأسمالية بصورة رئيسية قبل كل الطبقات الأخرى. اليوم وبعد الأزمة القاتلة المصيرية التي أمسكت بخناق النظام الرأسمالي في العام 1971، وبعد إعلان الكبار الخمسة (G5) في رامبوييه الذي هو بمثابة صك استسلام النظام الرأسمالي، بدأ هذا النظام بالانهيار وليس بالتراجع فقط. ما يسترعي الإنتباه هنا هو أن الرأسماليين لم يجدوا منتصراً على الساحة الدولية ليستسلموا إليه حيث كانت جبهة البروليتاريا قد بدأت بالتفكك والانهيار قبلئذٍ بعشرين عاماً. استسلم أساطين النظام الرأسمالي الدولي للطبقة الوسطى الخدماتية التي بدأت حالاً ببناء الاقتصاد الإستهلاكي (Consumerism) وتفكيك الإقتصاد الجمعي الرأسمالي(Associated Production) واستبداله باقتصاد فردي (Individual Production) لارأسمالي (Non-Capitalist) يسمونه اليوم باقتصاد المعرفة(Knowledge Economy) المقتصر على إنتاج الخدمات. وتحت تسلط الطبقة الوسطى أمست شروط الإنتاج الرأسمالي في غاية الصعوبة فهاجرت المؤسسات الرأسمالية إلى ما وراء الحدود فيما يسمى بالعولمة وهاجرت من جهة أخرى رؤوس الأموال إلى المضاربة في البورصة مما عمل على التضييق على النظام الرأسمالي والإسراع في الإجهاز عليه.

الذين صفقوا لخيانة خروشتشوف عالياً بكل وقاحة الخيانة يشيحون بوجوههم اليوم عن هذه الصورة الحادة بكل خطوطها وألوانها وذلك لأنها تدينهم وتدمغهم بالخيانة. لهذا السبب تحديداً يسكتون عن حقيقة كبرى تؤكد أن تراجع نمط الإنتاج الرأسمالي لصالح نمط الإنتاج الفردي اللارأسمالي يستبطن بالضرورة إنكماش كمي ونوعي في طبقة البروليتاريا. والسؤال المفصلي الذي يفرض نفسه تبعاً لذلك هو.. لماذا على طبقة البروليتاريا أن تفرز فصيلاً طلائعياً (حزباً شيوعياً) طالما أنها تعاني من الإنكماش الحاد؟ ثم من هو العدو الطبقي الذي على الطليعة البروليتارية أن تقاتله طالما أن الرأسمالية العالمية والغربية تحديداً هي اليوم في مجرى الإنهيار؟ وهل للبروليتاريا أن تطرد النظام الرأسمالي خارج المسرح لحساب المنتجين الفرديين من الطبقة الوسطى، وهو ما يتسبب مباشرة بانكماش حاد في طبقة البروليتاريا؟! وهل لطبقة تعاني من أنيميا حادة أن تفرز طليعة حزبية صحيحة؟! على كافة الأحزاب الشيوعية القائمة اليوم أن تجيب على كل هذه الأسئلة كيما تبرر شرعية بقائها واستمرارها إن كان ذلك ممكناً، وهو غير ممكن.

المأزق الذي تعاني منه اليوم الحركة الشيوعية هو أن المثقفين الشيوعيين من أدعياء الماركسية لا يميزون أبداً بين نمط الإنتاج الجمعي الرأسمالي من جهة والإنتاج الفردي اللارأسمالي (الطبقوسطي) من جهة أخرى، حيث الأول يحمل في رحمه بالشيوعية وأما الثاني فإمرأة عاقر. قيام حزب شيوعي اليوم هو تماماً كما الحمل الكاذب الذي تفاخر به المرأة العاقر.


لاحظ كارل ماركس في المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية أن الصراع بين النقيضين في الوحدة الواحدة لا ينتهي دائماً بالحسم كي يتحقق بفعله التحول النوعي في الوحدة إياها إذ ثمة إمكانية لأن ينهك النقيضان أحدهما الآخر ويموتا سويّاً دون أن يكون هناك حسم في الصراع بينهما، وقد مثل ماركس سقوط روما عام 476 م وانهيار النظام العبودي فيها دون أن تستطيع أي من الطبقين المتصارعتين، الأسياد والعبيد، حسم الصراع. ماتت الطبقتان سويّاً ومات بموتهما النظام العبودي وبدأ النظام الإقطاعي.

لا أعتقد أن العالم اليوم في حالة كحالة روما جوهرياً ولو أنه في حالة مشابهة إلى حد بعيد. فالثورة البروليتارية التي فجرها لينين في العام 1917 وقادها ستالين حتى العام 1953 بدأت بالخمود والتحلل بقيادة خروشتشوف وخلفائه من بعده. بدأت البروليتاريا بالتراجع إلى الخلف لتخلي المقدمة للطبقة الوسطى. بل إن خروشتشوف نفسه هو من أعلن نهاية دكتاتورية البروليتاريا في مؤتمر الحزب شباط 1959. أما النظام الرأسمالي، ولأنه كان قد فقد كل محيطاته ((Peripheral من الدول المستعمرة والتابعة خلال فترة ثورة التحرر الوطني 1946 ـ 1972 ، فقد دخل في أزمة مصيرية قاتلة منذ العام 1971. الإنهيار الواضح إذّاك للثورة الإشتراكية العالمية مكن أساطين الإمبريالية في مؤتمر رامبويية (G5) من توجيه انهيار النظام الرأسمالي إلى الإقتصاد الإستهلاكي وهو quot; إقتصاد quot; بالمعنى المجازي ذو غطاء زائف هو الإنتاج الخدمي الخاص بالطبقة الوسطى.

أمام مثل هذه الحالة العامة يمكننا القول أن كلتا الطبقتين المتصارعتين، العمال والرأسماليين، قد أنهكتا إن لم نقل ماتتا بذات الوقت وتراجعتا إلى مؤخرة المسرح ليسود في العالم كله الإشتراكي سابقاً والرأسمالي سابقاً نظام الطبقة الوسطى المعتمد على الإنتاج الخدمي وما يسميه المزورون quot; إقتصاد المعرفة quot;. يزورون الخدمات بسعر الذهب مقابل السلع بسعر الفضة ويتم التبادل بين خدمات الطبقة الوسطى الذهبية وسلع الطبقة العاملة الفضية بصورة وحشية حيث تستنزف الطبقة العاملة حتى الثمالة.

مثل هذا النظام، نظام الطبقة الوسطى الخدمي، ليس نظاماً قابلاً للحياة، فالمجتمعات لا تستقر أبداً إلا على فراش الثروة؛ والخدمات بحد ذاتها ليست ثروة على الإطلاق. قد تكون في حالات خاصة كالتعليم والصحة والأمن وسيلة لتحقيق الثروة والحفاظ عليها لكنها ليست الثروة نفسها في نهاية المطاف. بدأت الإنسانية بإنتاج الخدمات لخدمة الإنتاج السلعي حصراً وتسهيل دورته الإنتاجية؛ لكننا اليوم نلمس العكس تماماً إذ تقوم الطبقة الوسطى بتسخير الإنتاج السلعي وهدره للتوسع في إنتاج الخدمات العبثية التي لا طائل منها. وإزاء مثل هذه الحالة الشاذة نرى كثيراً من المؤسسات الرأسمالية الإنتاجية تهاجر إلى خارج حدود المراكز الرأسمالية، إلى الأطراف السابقة فيما بات يعرف بالعولمة كما تهاجر من جهة أخرى رؤوس الأموال من دائرة الإنتاج الرأسمالي إلى التوظيف في الأسواق المالية. كل هذه الأنشطة غير الإنسانية التي هي بالتالي إنزلاق خارج مسار التاريخ لن تستمر طويلاً وسوف تعود المياه إلى مجاريها خلال وقت قصير.

في منتصف القرن التاسع عشر حدق الشاب الذكي كارل ماركس بالنظام الرأسمالي وهو في ريعانه فرأى فيه خاصتين جديدتين لم تمتلكهما أنظمة الإنتاج السابقة وهما: العالمية (Universality) والإنتاج المجتمعي الكثيف (Associated Mass Production) ورأى أن هاتين الخاصتين أبديتان من شأنهما الاستمرار في أنظمة الإنتاج اللاحقة لكنهما تحملان تناقضين مصيريين في بنية النظام الرأسمالي أولهما هو التناقض مع السوق الخارجية وثانيهما هو التناقض بين نمط الإنتاج وعلاقات الإنتاج، بين تعميم الإنتاج وإلغاء تقسم العمل من جهة وبين تخصيص أدوات الإنتاج لأفراد بعينهم من جهة أخرى. إنطلاقاً من هذا التناقض تنبأ ماركس بانهيار النظام الرأسمالي والإنتقال إلى الشيوعية الموائمة لنمط الإنتاج المجتمعي وإلغاء تقسيم العمل. مثل هذه الحالة الرأسمالية لم تعد موجودة حيث يسود اليوم في العالم كله، باستثناء شرق وجنوب شرق آسيا، الإنتاج الخدمي غير الرأسمالي وغير المجتمعي وغير القادر على حمل أي مجتمع على أي شبكة من شبكات الأمن الإجتماعي. وهكذا فإن التناقضات التي رآها ماركس تطيح بالنظام الرأسمالي قبل أكثر من قرن ونصف وظلت عاملة حتى ستينيات القرن الماضي لم تعد موجودة وحلت محل علاقات الإنتاج الرأسمالية علاقات إنتاج أخرى مختلفة بتناقضات مختلفة وحلت الطبقة الوسطى محل الطبقة الرأسمالية في امتلاك السلطة والسيادة المطلقة على المجتمع.

لكن كيف يعود التاريخ إلى مساره الطبيعي؟ هذا سؤال كبير جداً حيث الإجابة علية تكتنفها احتمالات كثيرة. ومقابل كل احتمالات العودة إلى المسار الطبيعي ثمة احتمال خطير جداً ويتمثل في أن تقود البورجوازية الوضيعة العالم كله إلى التهلكة من خلال حرب نووية تبيد الحياة على الكرة الأرضية. الطبقة الوسطى من البورجوازية الوضيعة ليس لديها أية قيم وقد تغامر بمصير البشرية جمعاء من أجل استمرارها في استنزاف الطبقة العاملة بل وحتى من أجل مصالح وضيعة ضعة البورجوازية نفسها.

في مثل هذه الظروف الصعبة حيث تنكمش الطبقة العاملة وتتراجع إلى كواليس المسرح وحيث تتم مبادلة خدمات الطبقة الوسطى الذهبية بسلع الطبقة العاملة الفضية في سوق quot; حرّة quot; لم يقل عنها أحد بعد أنها غير ذلك وأنها الغابة حيث تفترس فيها ذئاب الطبقة الوسطى المسعورة حملان البروليتاريا الوديعة، تفترسها ليس بوساطة quot; فائض القيمة quot; كما كانت تفعل الطبقة الرأسمالية إنما بوساطة quot; المعرفة quot; التي لم تكتشفها الطبقة العاملة بعد بأنها أكذوبة وقحة تؤذي أضعاف أذى فائض القيمة. في مثل هذه الأجواء الضبابية لا تتمكن الطبقة العاملة بحال من الأحوال أن تفرز طليعة تحارب بها أعداءها الذين لم تحددهم بعد ولم تحدد أساليبهم في الحرب. ولنا بكارل ماركس مثال يحتذى حين شكل في العام 1864 الأممية الأولى للقيام بثورة اشتراكية عالمية تنقل العالم دفعة واحدة للإشتراكية والشيوعية. لكنه بعد أن تحقق من ضعف البنية الطبقية للبروليتاريا كما اتضح ذلك في كومونة باريس عام 1971 قام بحل الأممية في شيكاغو عام 1974 ولم يشكل بعدها أي منظمة أخرى حتى وفاته عام 1983. ليس ثمة من شك في أن ماركس لم يعد يرى أي فرصة للقيام بثورة اشتراكية خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته.

ليس لدي أدنى شك في أن دور البروليتاريا في نمط الإنتاج السائد اليوم هو أضعف بكثير من دورها في تلك السنوات العشر الأخيرة من حياة كارل ماركس 1873 ـ 1883 إذ كان يسود في تلك الفترة نمط الإنتاج الرأسمالي في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية بخلاف ما عليه الحال اليوم في مواجهة إدعاءات إقتصاد المعرفة غير الرأسمالي وغير البروليتاري بالطبع. لذلك يتوجب الإعتراف دون أدنى تردد بأن الطلائع البروليتارية اليوم ليست ثورية وأكثر إقداماً من كارل ماركس نفسه، ليست أكثر إخلاصاً منه لقضية البروليتاريا لتشكل حزباً شيوعياً طالما أنه لم يشكلْ.

الإحجام عن تشكيل حزب شيوعي لا يعني بأي حال الإستغناء عن علوم الماركسية، وهي أغلى ذخر للبشرية جمعاء، أو عن تراث الحركة الشيوعية العالمية وخاصة المشروع اللينيني للثورة الإشتراكية العالمية والإتحاد السوفياتي. أفضل الخدمات التي يمكن تقديمها سواء للعلوم الماركسية وسبل تطويرها أم لتراث الحركة الشيوعية والمشروع اللينيني لن يكون عن طريق تشكيل حزب شيوعي كطليعة للطبقة العاملة، وقد غدا أمراً مستحيلاً، بل عن طريق تشكيل إتحاد جامع لكل الماركسيين بمختلف ألوانهم وأصولهم الطبقية. ليس أقدر من مثل هذا الإتحاد للطبقات الماركسية على إكتشاف أقصر وأسهل الطرق لاستحضار ماركس من جديد ومعه المشروع الشيوعي. مثل هذه الوظيفة التاريخية هي دون شك أصعب الوظائف ولا توازيها صعوبة إلا تلك الوظيفة التي أنجزها كارل ماركس بنجاح منقطع النظير. ليس حقيقاً بهذه الوظيفة الصعبة اليوم بعد الإنهيار الكارثي لمشروع لينين غير اتحاد جامع لمختلف الماركسيين.

هيّا نكون شيوعيين حقيقيين مخلصين لماركس ولينين فنستبدل الأحزاب الشيوعية القائمة، التي لن تعمل سوى على تأخير الحركة الشيوعية، باتحادات جامعة للماركسيين تتوظف في اكتشاف خارطة الطريق إلى الشيوعية!

فـؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01