تبقى قضايا الأقليات المسيحية في العالمين العربي والإسلامي على رأس الموضوعات التي تقلقني وتشغل تفكيري ووقتي. فما من يوم يمر إلا وتنقل لنا وكالات الانباء خبراً من هنا أو هناك يحمل في طياته مآسي وضيقات واضطهادات يندى لها جبين الإنسانية تتعرض لها الأقليات المسيحية، حتى أصبحت أشعر بأن اليوم المشئوم الذي لن يجد فيه مسيحي موطئاً لقدم في وطنه يدنو منا بخطوات متلاحقة وسريعة تبدو لي أسرع كثيراً مما يتخيل الكثيرون... فالضغوط تتزايد والألام تفوق الطاقة البشرية للاحتمال والعيش المشترك يرفضه الكثيرون من الطرف الأخر وحملات التهجير القسرية وشبه القسرية تسير على أشدها في العراق والسودان وفلسطين ومصر ولبنان وأندونيسيا وباكستان وتركيا... والمصير أصبح مجهولاً وغامضاً وداكناً.
كانت أخبار عن حلقة جديدة من مسلسل الآلام التي تتعرض لها الأقليات المسيحية في العالمين العربي والإسلامي قد طيرتها وكالات الأنباء قبل أيام قليلة تضمنت خبر مقتل المطران بولس فرج رحو راعي الأقلية الكلدانية في الموصل بعد نحو اسبوعين من عملية اختطافه الإجرامية التي راح ضحيتها أيضاً ثلاثة من مساعديه. كان في اختطاف واغتيال المطران رحو رسالة ذات مغزى واضح موجهة من فئة الأشرار الإرهابيين للشعب المسيحي البسيط فحواها أنهم جميعاً ليسو بمأمن من الأيادي الإجرامية، وأنهم جميعاً غير مرحب بهم في بلدهم، وأنهم جميعاً مهددين من كبيرهم إلى صغيرهم بالخطف والقتل إن لم يرحلوا أو يتركوا عقيدتهم.
لم يكن مقتل المطران رحو عملاً استثنائياً أو فردياً أو عشوائياً، ولكنه كان عملاً روتينياً وجماعياً ومرتباً يتحمل مسئوليته أرهابيون إسلاميون لم يستطع أحد تحديد هويتهم أو عددهم، وإن كانت دلائل حكومية عراقية قد أشارت بالإسم إلى تنظيم القاعدة في العراق الذي تقدر مصادر عدد أفراده بعشرات الألاف. وإذا كان تنفيذ العملية الإجرامية قاعدياً، فإن مسئولية مقتل المطران رحو، برأيي، لا تتوقف عند منفذي العملية فحسب، بل تمتد إلى كل من ساهم في إيجاد المناخ الفاسد الذي يعيشه العراق على المستويات الأمنية والسياسية والفكرية والدينية ومنها القوات الامريكية التي لم تسع لتوفير الأمن للمسيحيين خوفاً من اتهام البعض لها بمحاباة المسيحيين، والحكومة العراقية التي تركت الأقلية المسيحية، مثل غيرها من الأقليات، دون حماية، إضافة إلى آلاف السياسيين والكتاب والصحفيين والمفكريين من مؤيدي الإرهابيين أو من يطلقون عليهم زوراً quot;المقاومةquot; العراقية.
في الوقت ذاته فإنه لا يمكن فصل المحرقة التي يتعرض لها المسيحيون في العراق عن الألام التي يعيشها المسيحيون في كافة أنحاء العالمين العربي والإسلامي، فمخطط الترهيب والتهجير يبدو واحداً والغاية تبدو أيضاً واحدة. نعم لقد أصبح مخطط التطهير العرقي في البلدان العربية والإسلامية التي تحوي أقليات مسيحية واضحاً ويسير على قدم وساق، وأصبح التخلص التام من المسيحيين هدفاً جلياً ويجري تنفيذه بهمة ودون تسويف بأيدي متطرفين ومساندة مسئولين محليين ودعم جهات ومنظمات دولية. فما من بلد مسلم حول العالم من أندونيسيا الأسيوية إلى نيجيريا الأفريقية مروراً بتركيا شبه الاوروبية وجميع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلا وتعاني أقليته المسيحية الأمرين بدءاً بالتمييز وعدم المساواة أمام القانون وانتهاءً بالترهيب والتصفية الجسدية.
لا شك بأن هناك الملايين من المسلمين الذين يغفلون الواقع المر الذي يعيشه مسيحيو العالمين العربي والإسلامي. بل أن هناك الملايين ممن يلوون الحقائق بادعائات باطلة بأن المسيحيين يحظون بكامل الحقوق وكافة الحريات في اوطانهم. ولكن هؤلاء مثلهم كمثل مطلقي الإشاعات الذين سرعان ما يبدأوا في تصديق الأنباء الوهمية التي يروجونها. فالمسيحي لا ينجح مطلقاً في اجتياز العوائق الموضوعة أمامه في البلاد الإسلامية إلا بحسابات دقيقة تقوم بها الحكومات وجماعات اللوبي الإسلامية؛ وهي حسابات تخضع لاعتبارات سياسية بغرض حفظ ماء وجه الأنظمة الحاكمة في هذه البلاد أمام العالم الخارجي. على المستوى السياسي أصبح تقوقع المسيحيين أمراً شائعاً في جميع الدول العربية والإسلامية باستثناء لبنان. وغالباً ما تجيز الأنظمة هنا مسيحيين بعيدين تماماً عن كنائسهم بحيث لا يمثلون الأفليات التي ينتمون إليها وحتى يكون ولاؤهم المباشر للأنظمة. وعلى المستوى الاجتماعي ظهرت في العقود الثلاثة الأخيرة حدود ومتاريس تكاد تفصل بين المسلمين والمسيحيين. أما على المستوى الاقتصادي فنادرة هي حالات الصعود بسبب موانع النجاح التي تضعها الحكومات والمجتمعات أمام رجال الأعمال المسيحيين.
ولعل ما يفزعني حقاً هو الغياب شبه الكامل للوعي الحضاري والضمير الإنساني عن الشارع الإسلامي، حتى أن أدنى درجات التعاطف التي يتوجب على المسلمين إظهارها نحو المسيحيين في محنهم تبدو غائبة تماماً. فالأعمال الوحشية التي يقوم بها المتطرفون ضد الأقليات المسيحية هنا وهناك تقابل بصمت مخزي ومريب من قبل المسلمين. الجميع يعلم أن المظاهرات الدموية تندلع في الشارعين العربي والإسلامي فور مقتل فلسطيني في فلسطين أو مسلم في البلقان على سبيل المثال لا الحصر. ولكن لم تصل إلى مسامعي، على سبيل المثال، أنباء مظاهرة سلمية واحدة قادها مسلمون معتدلون في أية دولة احتجاجاً على مقتل رمز مسيحي كبير كالمطران حمو وغيره. وكأن اغتيال قادة المسيحيين أصبح أمراً مألوفأ أوكأن دماءهم أصبحت رخيصة لا تستحق التنديد باستباحتها.
لست أدري لماذا لا ينفعل المسلمون احتجاجاً على اضطهاد المسيحيين. فأعمال الإبادة المنظمة التي يتعرض لها المسيحيون العراقيون على سبيل المثال لا تقل خطورة بحال من الأحول عن المأساة التي يعيشها الفلسطينيون في غزة، وهي تستحق من العرب والمسلمين جميعاً التصدي لها بكل القوة والحزم وليس فقط عن طريق بيانات الإدانة الهزيلة التي يكتفي بإصدارها الجميع.
إن الآلام التي يتعرض لها المسيحيون في العالمين العربي والإسلامي لهي وصمة عار ليست فقط على جبين الإرهابيين الإسلاميين، بل هي وصمة عار على جبين المجتمعات الإسلامية بما تضم من شعوب وسياسيين وحاملي أقلام ورجال دين يقبعون في مرفأ الصمت تأييداً أو خجلاً أو خوفاً. فبعيداً عن مقالات إدانة العمليات الإرهابية الموجهة ضد المسيحيين التي يخطها بعض الليبراليين العرب تكاد لا توجد ردود أفعال أخرى تستحق الذكر.
الوقت يمر والنزيف المسيحي مستمر دون انقطاع. لذا فإنه اليوم أو لا إلى الأبد يا شعوب العالمين العربي والإسلامي... فإما أن يهب المسلمون اليوم ويستيقظوا من غفوتهم العميقة لنزع وصة عار الناجمة عن ما يتعرض له المسيحيون عن جباههم، ولتبرئة أنفسهم ودينهم من الأعمال الإجرامية التي ترتكب ضد المسيحيين باسمهم وباسم دينهم ورسولهم، وإما فلنقل وداعاً إلى الأبد للوجود المسيحي في دول العالمين العربي والإسلامي. فالوجود المسيحي بهذه الدول مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى صلابة وقفة المسلمين في وجه الإرهاب والتطرف.
لقد تجرع المسيحيون العلقم والمر حتى يحموا عقيدتهم ويحفظوا إيمانهم ويظلوا على ثوابتهم منذ قرون طويلة ولكن طريق الآلام أصبح اليوم أكثر صعوبة وعسراً من أي يوم مضى أو حقبة انقضت. لقد ضاقت بنا بلادنا، وأصبحنا مضطهدين، منبوذين، مرفوضين، ومستعبدين في أوطاننا. أصبحت مسيحييتنا جريمتنا، صليبنا ذنبنا، وكنيستنا دليل إدانتنا. واحسرتاه لقد ضاقت بنا أوطاننا...
جوزيف بشارة
التعليقات