تساءلت حقاً فيما إذا كان في كل كاتب عربي شيء من كتابة المناسبة بعد أن هالني أعداد الكتاب الذين كتبوا في مناسبة يوم المرأة العالمي (8 مارس،آذار). كتب الكثيرون وكثيراً كتبوا ينادون بتحرير المرأة من عبوديتها التاريخية لكن أحداً منهم، للأسف الشديد، لم يعرف أو يتعرّف على حقيقة عبودية المرأة، وعليه فشل جميعهم في الاهتداء إلى السبيل الحقيقي الوحيد لتحرير المرأة. أجمع جميعهم على أن السبيل لتحرير المرأة يتمثل في سن القوانين التي تحكم بمساواة المرأة بالرجل. ما على هؤلاء الكتاب أن يعلموا هو أن القوانين ومهما أوتيت من قوة نفاذ لا تغير حقائق الطبيعة. وأول الحقائق الطبيعية التي لا يجوز تجاهلها في هذا السياق تقول قطعاً أن المرأة لا تساوي الرجل إلا في الإنسانية، فكل خلية في جسم أحدهما تختلف جنسياً عن نظيرتها في جسم الآخر ولا يتساويان إلا في كون كل منهما إنساناً مساوياً للآخر في الإنسانية فقط. بالإضافة إلى أن هناك تقسيماً طبيعياً للعمل بينهما، حيث تقوم المرأة دون الرجل بالحمل والولادة والإرضاع والعناية الحثيثة بالأطفال، وهو العمل الأساسي في حفظ وبقاء النوع الإنساني في الحياة قبل أن يشارك الرجل بأي جهد يذكر في هذا الشأن. الإتحاد السوفياتي السابق سن القوانين التي تفضل المرأة على الرجل لكن ذلك قصّر عن أن يحرر المرأة تحريراً كاملاً على مدى سبعين عاماً وأكثر. قيد عبودية المرأة يكمن في مكان آخر غير القوانين والتشريعات. إنه تحديداً quot; قانون القيمة البضاعي quot; (Commodity Value Law) وهو القانون الذي ما زال يحكم مختلف العلاقات بين الأفراد في مختلف المجتمعات منذ آلاف السنين.
في نمط التفكير البورجوازي يتم طرح مسألة تحرير المرأة على مستوى الحقوق تحاشياً لتجاهل الإختلاف البيولوجي والجنسي بين المرأة والرجل فينادي البعض، ومعظمهم من النساء بصورة عامة، لأن تكون حقوق المرأة مساوية لحقوق الرجل وهذا يعيدنا إلى منطلق القوانين والتشريعات التي ثبت عجزها في مضمار تحقيق الحقوق. فالحق، وخلافاً للفكرة العامة الخاطئة، هو دائماً ذو طبيعة فردية بورجوازية لا تمت بصلة إلى دائرة الحس الإنساني أو النوع الإنساني حيث يتواجد المرأة والرجل على قدم المساواة. فنقل قضية تحرير المرأة إلى دائرة الحقوق وكيف يتم توزيعها على بني البشر إنما هو التخلّي المسبق عن منطلق المساواة بين الرجل والمرأة على الصعيد الإنساني دون غيره من الصعد. وأكثر ما يضير في هذا الشأن هو أن النسوة وخاصة العاملات في المنظمات النسوية هن أكثر الناس استعداداً للتخلي عن حقيقة المساواة بين الجنسين على الصعيد الإنساني فقط وليس على صعيد الحقوق إذ كثيراً ما يرددن حقيقة أن المرأة أخذت تغزو كافة دوائر العمل وتعمل في إنتاج مختلف الخدمات. يرددن ذلك دون أن يدركن لبالغ الأسف أن مقاربة قضية عبودية المرأة إنطلاقاً من قاعدة الحقوق إنما هو قبول بالقيد التاريخي للمرأة فالحقوق هي بورجوازية بطبيعة جوهرها ولا يمكن أن تساوي بين الرجل والمرأة. القول بتواجد المرأة في مختلف ميادين العمل كبرهان على المساواة في الحقوق إنما هو إقرار بأولوية الحقوق البورجوازية على الحقوق الإنسانية، الحقوق البورجوازية التي هي دائماً القيد الحقيقي لعبودية المرأة وحيث لا يتساوى الجنسان على الإطلاق بسبب التقسيم الطبيعي للعمل بينهما بالحد الأدنى، فحصة الرجل في الإنتاج المادي هي دائماً أكبر بكثير من حصة المرأة.
ليس الرجل هو من يستعبد المرأة. عبودية المرأة تنبثق أولاً وأخيراً من قانون القيمة البضاعي. على المرأة أن تعي أنه طالما لقانون القيمة البضاعي قوة نافذة في حياة البشرية فلن تتحرر بحال من الأحوال؛ وطالما يتمتع هذا القانون بقوة نفاذ فلن يتم توزيع مجمل الإنتاج العام بين البشر بالتساوي أو على قاعدة quot; لكل حسب حاجته quot; حيث يتحقق إنصاف المرأة الحقيقي والكامل عندئذٍ فقط. قانون القيمة البضاعي يحكم حكماً مبرماً بأن حقوق الرجل في الإنتاج هي أكبر بكثير من حقوق المرأة وعليه تكون حصة الرجل من الإنتاج أعظم من حصة المرأة. الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي لم تتعمق حتى الوصول إلى الإلغاء التام والنهائي لقانون القيمة البضاعي ولذلك ظلت تعاني المرأة من بعض أشكال العبودية بالرغم من كل القوانين التي لا تسمح بذلك. حق الرجل في الإنتاج وبحكم التقسيم الطبيعي للعمل هو دائماً أكبر من حق المرأة ولذلك تكون حصته منه أكبر من حصة المرأة. الفرق بين الحصتين هو ما يسمح للرجل باستعباد المرأة معنوياً وجسدياً. المرأة تحمل وتلد وتربي دون أن تجزى بأية أجور؛ وأما ما ينفق الزوج على عائلته فهو لقاء امتلاك العائلة واستعبادها. عدم مكافأة المرأة لقاء عملها الطبيعي يجب ألا يكافئه إلا عدم مكافأة الرجل على إنتاجه المادي ويتحقق ذلك فقط عن طريق إلغاء قانون القيمة البضاعي. حينئذٍ فقط تتحرر المرأة.
يؤكد علماء الجنس البشري (Anthropologists) استناداً إلى ما تشي به الأثريات (Archeology) أن الإنسان كان قد بدأ حياته على الأرض في مجموعات غير منتجة تسكن الكهوف وتتغذى على التقاط الحبوب وعلى الفرائس. في تلك العصور التي امتدت لملايين السنين كانت المرأة هي من ينتج الحياة من خلال التناسل دون إدراك أي دور للذكور في هذا الإنتاج، إذ لم يكن الرجل يعمل في الإنتاج على الإطلاق فالطبيعة هي التي كانت توفر الغذاء والكساء والإيواء للإنسان بالإضافة إلى أن الإنسان لم يكن يعلم أن التناسل ناجم عن التواصل الجنسي بين الذكور والإناث. لكل هذه الشروط كان حق الأم (Mother Right) في العائلة حقاً مطلقاً لا ينازعها فيه الذكر. كانت المرأة تتصل جنسياً مع جميع الذكور حولها وبذلك تتوسع عائلتها بلا حدود. على هذه الصورة انتظم الناس في عصر الأمومة (Matriarchal Age). وقام مثل هذا التنظيم الإجتماعي في المشاعية الأولى أو الشيوعية البدائية قبل ثمانية أو عشرة آلاف عام.
ويحدثنا الأنثروبولوجيون وعلماء الآثار عن أن المرأة هي من وضع قدم البشرية على أول طريق الأنسنة والافتراق عن مملكة الحيوان وذلك باندفاعها، من باب السعي الغريزي إلى الحفاظ على النوع، إلى إنتاج بعضاً من أود أبنائها عن طريق زراعة بعض البذور في الأرض الصغيرة أمام كهف العائلة. وهكذا ارتقت الحيوانات الشبيهة بالإنسان من إنتاج الحياة والحفاظ على النوع من عملية التناسل إلى عملية الإنتاج، إنتاج الحياة (Sustenance) من خارج الجسم. ولما كان الإنتاج باستخدام الأدوات من خارج الجسم هو ما وضع الحيوانات الشبيهة بالإنسان على طريق الأنسنة فلا بد من الإعتراف دون تردد أو وجل بأن المرأة دون الرجل هي من قدح الشرارة الأولى التي أضاءت مشعل الإنسانية. وما هو جدير بالإشارة إليه في هذا السياق هو أن هناك أبحاثاً حديثة في علم الجينات تتجه إلى تأكيد غريزة بقاء وحفظ النوع في الإناث دون الذكور ويقال في هذا الإتجاه أن الحروب، حيث يباد الجنس الإنساني بالجملة، هي دائماً من صناعة الرجال وأن أوائل المحتجين على الحروب والداعين إلى توطيد السلام الدائم هم دائماً من النساء.
من خلال زراعة الأرض الصغيرة أمام كهف العائلة (Horticulture) اكتشفت المرأة حبوب القمح وما لها من قيمة غذائية كبرى وميزتها في الحفظ والتخزين وتوفيرها عند الحاجة. كان اكتشاف المرأة لحبوب القمح انعطافاً حاداً في تاريخ البشرية لما للقمح من أثر حاسم في حفظ النوع وتكاثر الإنسان. ولما كانت الأم صاحبة الحق المطلق في العائلة فقد رتّب عليها ذلك أن تتجند في زراعة القمح كيما تتمكن من التوسع في حفظ النوع وفي التكاثر وهما ميّزتها على الرجل. تشير بعض المخطوطات الأثرية إلى أن النساء كن قبل عشرة آلاف عام يتطوعن في إرساليات، كما هن الراهبات اليوم، لزراعة الحقول (Agriculture) ويرسلن إلى حقول بعيدة يزرعن القمح ويحضضن على التوسع في زراعته.
لم يكن طبيعياً أن تقوم المرأة بوظيفتين صعبتين هما إنتاج الحياة عن طريق التناسل بداية، ثم إنتاجها عن طريق الإنتاج المادي أو السلعي من بعد، في الوقت الذي لم يكن للرجل أي وظيفة معلومة، ناهيك عن أن الزراعة الحقلية تتطلب جهداً كبيراً ليس بوسع المرأة القيام به على نطاق واسع. من هنا اكتمل التقسيم الطبيعي للعمل بين الرجل والمرأة، بعد آلاف السنين من قيام المرأة بالزراعة الحقلية المحدودة، فجرى مبادلة تاريخية غير عادلة وغير إنسانية إذ قبلت المرأة بدافع غريزتها الجامحة في بقاء النوع وإعمار الأرض بالجنس البشري أن تبادل حقها في العائلة (Mother Right) بما يوفره الرجل من الخبز لأطفالها عن طريق زراعة الحقول بالقمح وبذلك تحول الحق في العائلة إلى حق الرجل (Father Right) وبناء عليه حرم على المرأة أن تعاشر أكثر من رجل واحد وحقََّ للرجل أن يعاشر عدة زوجات.
تلك المبادلة الأولى في تاريخ الإنسان، حق الأم مقابل القمح، أسست لما يعرف بالقيمة البضاعية للسلعة. فالقمح الذي بادلته المرأة بحقها في العائلة إنما هو سلعة تم إنتاجها بجهد الرجل واختزنت كامل العمل (Labour) الذي قام به الرجل حتى إنتاجها. ما كانت المرأة لتتنازل عن حقها في العائلة لولا حاجتها الحيوية للخبز من أجل الحفاظ على أبنائها وبناتها وحرصها الغريزي أساساً على التكاثر وبقاء النوع الإنساني (Survival of Human Race). وحتى في حياتنا الحديثة يقتصر عمل المرأة بصورة عامة على العمل داخل البيت لتعتني بأطفالها ويخرج الرجل للعمل كي يوفر للعائلة كل احتياجاتها من السلع والخدمات. وليس إدعاء العاملات في المنظمات النسوية المدافعة عن حقوق المرأة بأن المرأة أخذت تتعلم وتنخرط في مختلف حقول الإنتاج ولذلك أخذت تستحق مثل حقوق الرجل سوى اعتراف صريح منهنّ بأن المرأة ترضخ لعبودية الرجل مقابل الإنتاج المادي والسلعي الذي يختص ويبرع فيه الرجل دون المرأة ويوفره للعائلة. لا يمكن بحال من الأحوال أن يتساوى المرأة والرجل في حقل الإنتاج المادي والسلعي وحتى الخدمي طالما أن للمرأة وظيفة أولية هي الحمل والولادة والتربية وهي الوظيفة التي تفضلها المرأة على سائر الوظائف الأخرى وتدافع عنها بكل قوتها وهي على استعداد أن تبذل في سبيل الحفاظ عليها الجسم والروح.
في المشاعية الأولى احتفظت المرأة بسيادتها المطلقة في المجتمع والعائلة وكانت الأقوام تنتسب الى الجدة الأولى الأم ـ في موطن العرب الأول، الجزيرة العربية، انتسبت معظم القبائل العربية القديمة لأمها الأولى فكانت قضاعة وخزاعة ومرة ومزينة وباهلة وحنيفة وهاجر وجميلة وبجيلة وحديلة وربيعه وشنئوه وعتيبة وعنزة وغيرها. احتفظت المرأة آنذاك بسيادتها المطلقة لأن الإنسان لم يكن قد اهتدى إلى الإنتاج المادي من خارج جسمه. حاجات الإنسان الأول كانت من الإنتاج المباشر للطبيعة والتي لا يكدح الإنسان في إنتاجها ولذلك كانت بلا قيمة، بلا قيمة بضاعية أو تبادلية؛ لم تكن تستبدل. تشكّل قيد عبودية المرأة حالما كان هناك إنتاج بضاعي، إنتاج من صناعة الإنسان قابل للتداول، وكان القمح هو أول إنتاج بضاعي في تاريخ البشرية استبدلته الأم بحقها في العائلة ـ أقدم الإكتشافات الأثرية هي الجرار الفخارية التي كانت تستعمل في تخزين القمح وشحنه.
لكل ذلك يمكن القول بكل ثقة أن المرأة، ومهما تقدمت شروط حياتها في مختلف الأنظمة الإجتماعية في العالم، لن تتحرر بصورة تامة وكاملة طالما هناك قيمة بضاعية أو تبادلية لكافة السلع والخدمات. عندما تسقط هذه القيمة نهائياً ولا يعود الإنتاج بكل أشكاله بضاعة تجري مبادلتها في الأسواق، عندئذٍ فقط يتحطم قيد عبودية المرأة التاريخي مرة واحدة وإلى الأبد. لن تستعيد المرأة حريتها وسيادتها اللتين تمتعت بهما قبل عشرة آلاف عام في الشيوعية البدائية كإنسانة كاملة الإنسانية إلا في الشيوعية المتقدمة وقد عادت البشرية لتستغني نهائياً عن قانون القيمة البضاعي فيصبح الإنتاج كل الإنتاج مشاعاً بسبب وفرته الناجمة عن تطور أدوات الإنتاج والتعاون الطوعي لكل أبناء المجتمع في عملية الإنتاج. الحقيقة التي يقف إزّاءها الإنسان حتى اليوم في عصر التقنيات الرفيعة (Hi Tech) عاجزاً عن استيعابها هي أنه إذا ما جندت كل قوى الإنتاج في المجتمع تجنيداً طوعياً وتعاونياً في العملية الإنتاجية فسيفيض الإنتاج عن كل احتياجات المجتمع وستكون كل الحاجيات مشاعة بلا أية قيمة بضاعية تبادلية. ما يفوت العامة حتى اليوم هو أن الإنسان سيحقق قفزة كبرى على طريق الأنسنة بالوصول إلى المجتمع الشيوعي وقد تطهّر من كل آثار الوحشية التي تحدّرت إليه من أصوله السحيقة. ليست المرأة فقط مشينة بالعبودية، الرجل أيضاً مشين بالسيادة.
فـؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01
التعليقات