صورة من صور الواقع العراقي


على الرغم من السنوات الخمس التي مرت على العراق، وقد حملت اليه قسوة هي الاشد (ربما) في تاريخه كله، لكن الروح العراقية ظلت مفعمة بالمشاعر، وان حاولت الاحداث ان تثلمها او تستبيح رهافتها، فالحزن بكل سيوله الجارفة وفيضاناته الشديدة الهول، الا ان الوجد العراقي لم يفقد احساسه وحبه للحياة، وتلك العلاقات الانسانية الحميمة، وان كنا قد قرأنا في تاريخنا العربي رثائيات الاباء للابناء، فما سأنقله هو رثاء غير عادي ويمثل حالة عراقية لا يمكن للدموع ان تتكفكف ولا تجف، ولايمكن للوعة الا ان تضع نفسها فوق اعلى ميادين الحكايات، معبرة عن وجع رثائي اقوى من أي رثاء ولوعة.


في تفجيرات حي الكرادة الشرقية (وسط بغداد) الاخيرة سقط عشرات الشهداء، وكان من بينهم الشاب (قصي بن علي حسين السراج)، الشاب الكادح من اجله اسرته، ومع الحزن الذي عم على الشهداء وعلى قصي تحديدا من ناسه واهل مدينته، تم التسبيح بحمد الله الذي لايحمد على مكروه سواه على ما جرى،لانه تعبير عن الواقع العراقي الاليم الذي يذهب ضحاياه العراقيون على مختلف اعمارهم وطوائفهم، واقيم مجلس الفاتحة على روح المرحوم قصي بحزن فائض، وكان ابوه واخواه الاثنان يتلقون التعازي وتشعر بملامحهم تتفجر احزانا اسطورية، فقد رحل الابن الاكبر لابيه، الذي كانت سيماؤه تتهدج وتتصابر وتكابد رحيلا مفاجئا، ومضت ايام المجلس قاتمة، ولكن ما انتهى اليوم الثالث من مجلس الفاتحة، الذي طالما يكون قبل صلاة المغرب، حتى حملت ساعات المساء خبرا هز الجميع، وارتعدت له المهج، حملت خبر وفاة (ابو قصي) بالسكتة القلبية كمدا على قصي، الشاب الجميل الخلق والاخلاق، كبير ابيه وحامل مسؤولية البيت، جاء صوت الناعي ليشعل حرائق الحزن في بيوت المدينة، وخيم الاسى، اعلن ذلك امام المسجد القريب بصوت متهدج يرتجف وجعا فوق طيات المساء، وتراكضت الناس الى بيت الفقيد،كان الجميع يردد: ( اي قلب تحمل يا أبا قصي، اي فزع راودك ليلة وجدت نفسك من دون قصي، اي دم كان يركض في عروقك، ليفجر قلبك الانساني الطيب)، قيل: ان في تلك الليلة خلا الرجل الى نفسه بعد تفرق المعزون من الابعدين والاقربين، ليلة لاتقاس بليالي الفراق الطويلة المعروفة، كان الرجل صامتا لايتكلم سوى وجهه الباذخ بالوجع، كنت اسمع البكاء والعويل يتصاعدان الى عناء السماء، يتطلعان الى وجه الرجل، تارة رثاء له وتارة رثاء لولده الذي كان سببا في اعلان رحيل والده.


وسرعان ما استبدلت قطعة النعي السوداء التي حملت اسم الابن بقطعة اخرى تحمل اسم الاب، وليس هنالك من كلام.


انه الكمد العراقي السخي بمشاعره، انه صورة من صور الواقع العراقي التي ارتضيناه، انه رثاء لا اعظم منه، رثاء الاب للاب رحيلا.

عبد الجبار العتابي
بغداد