لا أعتقد أن الله خلق شعبا أكثر إستعجالا من الشعب العراقي، حتى لأني ظننت أن الآية الكريمة الواردة في سورة الإنبياء بقوله تعالى ( خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون ) تكاد تنطبق عليهم دون غيرهم من عباد الرحمن..
ففي تفسبره للآية المذكورة، يذكر القرطبي نقلا عن سعيد بن جبير والسدي قولهما quot; أنه لما دخل الروح في عيني آدم عليه السلام نظر في ثمار الجنة، فلما دخل جوفه إشتهى الطعام، فوثب من قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان الى ثمار الجنة quot;؟!.
وهكذا لم يكد العراقيون يستعيدون حياتهم بعد زوال دكتاتورية صدام الجاثمة على صدورهم منذ نيف وثلاثين سنة، حتى رأيت بعض ساستهم يستعجلون المغانم وأطايب الطعام، ويلهثون وراء الجاه والسلطان والأموال، كأنهم وحوش برية تجري وراء طريدة مرتعبة، فلم يبالوا بالصبر والتريث الى حين أن يسترد الشعب أنفاسه وعافيته، وتستقر أوضاع البلد بعد أن تتم إعادة بنائه من جديد، ليعم السلام والرخاء أرجاء البلد من شماله الى جنوبه،ثم يكافأ كل من وضع حجرا على حجر لبناء هذا البلد المنهار، فرأيت معظمهم وهم يلهثون وراء المغانم وسرقة الأموال وقضم القطعة اللذيذة من خيرات العراق، وكأن الحياة مجرد ثوان معدودات، فعرضوا البلد بفسادهم الى خراب ما بعده خراب، وشرعوا الأبواب أمام الغرباء ليأتوا الى البلاد من كل فج عميق ليعيثوا فيه الفساد من القتل والتدمير وإغتيال الحرية التي سالت من أجلها أنهار من الدماء!.
دخل الكل في سباق محموم من أجل كسب المصالح، وسرقة المال العام، وتشكيل الميليشات،وسوق البلاد الى شفير حرب طائفية لا تبقي ولا تذر، كاد البلد أن ينزلق معها الى فتنة مدمرة لولا أن وقانا الله نحن العراقيين شرها.
والتاريخ يذكر لنا الكثير من السوابق عن عجالة العراقيين في مواضع عدة من بطون كتب التاريخ. فلم يكد معاوية ينشيء دولته المتنكرة للخلافة الراشدة، وعين إبنه يزيدا وليا لعهد الملك الخليفة، حتى رأيتهم يستعجلون الحسين حفيد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم) ليأتيهم الى العراق ويقود منه ثورة عارمة ضد خلافة يزيد، ولكنهم بنفس درجة العجالة ملوا حسينا، وتركوه يصارع أكبر قوة عسكرية على الأرض بنفسه وعدد قليل من أفراد أسرته، فمات شهيدا مرفوعا الى جنات الخلد، فيما بقوا هم على الأرض ينتحبون لأجله قرونا طوال؟!..
وما كادت الدولة الأموية تستقر أرجائها بعد حملات طويلة من الفتوحات الإسلامية، حتى ملوها وأخذوا يلمون الشمل للإنقلاب عليها ومناصرة العباسيين ضدها؟!.
ولكنهم سرعان ما ملوا العباسيين أيضا، فثاروا ضد المهدي وأبو جعفر والرشيد وغيره من الخلفاء، ولكن خلفاء بني العباس كانوا أشطر من آل بني مروان، فضربوهم بالأغراب من المماليك وصبيان الأتراك؟!.
وفي التاريخ الحديث ما كاد الإنكليز يحتلون العراق في مبتدئات القرن الماضي، حتى ثاروا عليهم أيضا في ثورة العشرين، فقوضوا كل جهودهم منذ البداية لإخراج العراق من دياجير الظلام الى ركب الحضارة والتقدم والرخاء؟!.
وهكذا فعلوا مع جميع الحكومات العراقية في العهدين الملكي والجمهوري، فكانت الوزارات تتشكل في العهد الملكي لأسابيع أو أيام، فيما الإنقلابات العسكرية تتوالى في العهد الجمهوري واحدة تلو أخرى، فوقعت أربعة إنقلابات عسكرية في ظرف عشر سنوات بالعراق؟!..
هذا هو ديدنهم وطبعهم في الإستعجال، لذا ترى أحفاد عراقيي ذلك الزمن، وأبناء إنقلابيي الستينات الذين يحكم معظمهم عراق اليوم يستجعلون بالسيئة الحسنة. فيسعون الى الثراء السريع، سياسييهم وتجارهم وموظفهيم وعمالهم، وحتى حمالهم في سوق الشورجة الذي بات إما قائدا للميليشيات، أو مسؤولا كبيرا في جهاز الأمن الخاص، يسرقون من أموال البلد في صفقة واحدة ما لا يحلم به الكثير من الملوك والرؤساء؟!..
فلا يتحرج وزير الدفاع الذي عين لستة أشهر فقط، أن يسرق مليار دولار بصفقة واحدة، مثلما لم يتحرج مسؤول في وزارة الصحة، أن ينهب عشرات الأطنان من الأدوية المشتراة بأموال العراق ويبيعها في السوق السوداء، كما لم يتحرج قادة الميليشات وزعماء الكتل البرلمانية من أن يكون لهم حصة في كوبونات النفط، أو يطالبوا بجزء من ميزانية دولة العراق؟!.
فما دام وضع الساسة الجدد هكذا في العراق، فلماذا يتحرج تجاره مما لا يستحي منه السياسيين. فما يمنعه أن يبحث في أسواق مدن العالم أو مزابل نفاياتها عن مواد غذائية فاقدة الصلاحية يطعمها لأطفال العراق، أو أن يستورد موادا وسلعا ترمى في الكثير من دول العالم بسلال القمامات، فيوردها للعراق ليبيعها لمواطنيه تحت سمع وبصر شرذمة من الفاسدين والمفسدين من ساسة العراق؟!. فالبلد أصبح مستباحا ليس من قبل جنود الإحتلال وهذه ليست تبرئة ذمتهم مما يجري في العراق، بل أستبيح هذا البلد من قبل أبنائه الذين كان الكثيرون منهم يحلمون بالأمس، بنسمة هواء تهب من العراق نحوهم وهم يعيشون تحت خيم دول الجوار؟!.
يكفي قادة دولة العراق إستحياءا، أن يهرب رئيس هيئة نزاهته بجلده، ويرتعب كل من يترشح بديلا عنه، أو يلبس هذا البديل كفنه وهو يدخل أو يخرج من بوابة مكتبه؟!.
هي لعمري دولة ساقطة في مستنقع عميق، غارقة الى الأذقان في فساد عظيم؟!..
شيرزاد شيخاني
التعليقات