على البنوك العربية التوحد والاندماج لتتمكن من المنافسة العالمية

العالم يلفّه خوف متزايد. فلا يمضي يوم إلا وتعلن احدى المؤسسات التجارية او الاستثمارية الكبرى في العالم او البنوك العالمية اخباراً سيئة تتعلق بخسائر ناجمة من الرهونات العقارية، وصار واضحاً الآن ان فقاعة ديون الاسكان قد انفجرت. والواقع انه كان هناك فقاعتان: فقاعة الاسكان وفقاعة التمويل، وكل منهما ألهبت الاخرى، وهو مثال كلاسيكي معروف عن الفقاعات المزدوجة. الفقاعة الاولى تتعلق باصول الموجودات، والثانية تتعلق بالاقراض مقابل تلك الاصول.

وربما تكون السنة الجارية (2008) هي السنة التي نرى فيها ازمة الرهونات العقارية التي ادت الى خسائر فادحة بمليارات الدولارات للقطاع المالي، تجر وراءها ازمة ائتمانية للشركات اكبر بكثير من ازمة الرهونات العقارية، وربما وصل حجمها الى 250مليار دولار. فهناك كثير من القروض العالقة المشبوهة المتعذر اعادة تمويلها، والتي ستواجه مشكلات معقدة، مما يوسع حالات التخلف عن الدفع. ذلك ان المصارف لديها الآن في دفاتر ميزانياتها ما يقرب من 245 مليار دولار من المحافظ الاستثمارية غير القابلة للبيع الى المستثمرين. وقد اعطيت هذه القروض الى شركات عقارية خاصة لتمويل شراء شركات مساهمة عمومية اسهمهما متداولة في الاسواق المالية.

واخيراً، فان شركات التأمين التي تحمي المستثمرين من المقترضين المتخلفين عن الدفع قد تواجه خسائر لا تقل عن 250 مليار دولار، او ما يعادل خسائر الرهونات العقارية الثانوية. وهناك مجالات اخرى تحمل نقاط ضعف محتملة، منها العقارات التجارية حيث يرى بعضهم كارثة تلوح في افقها.
لقد هبطت قيمة سوق العقارات الاميركي حتى الآن بما قيمته تريليون دولار (ألف مليار دولار). وتتعاظم المخاوف من امكانية تعرض اسواق ناشئة كبرى مثل الصين والهند وامارة دبي لمشكلات عويصة.

كان يفترض بأساطين المال الذين جلبوا هذه الكارثة المالية ان يجتنبوا الاستثمارات المحفوفة بالمخاطر. وقد شطبت المصارف حتى الآن ما يزيد عن 100 مليار دولار من الديون الهالكة. وتقدر الخسائر النهائية التي ستتكبدها المصارف وشركات التأمين والمستثمرون الخصوصيون بما مجموعه 400 مليار دولار. لكن الاسهم المالية الاميركية وحدها خسرت حتى الآن 500 مليار دولار.

ان القطاع المالي رتب على نفسه مخاطر عالية من خلال المتاجرة بالرهوناتالعقارية وقروض الشركات ذات المخاطر العالية بشكل سندات او اعادة تشكيل تلك الادوات المالية في غلافات جديدة. وكان واضحاً ان تلك الاساليب الاستثمارية تسير في اتجاه هزات عنيفة ليس للمصرفيين استعدادات لمواجهتها. ويقول المعلق المالي بن ستين في تعليق له في جريدة laquo;نيويورك تايمزraquo;: laquo;ان ما صعقني هو ان مؤسسة laquo;غولدمان ساكسraquo; ظلت لسنوات طويلة تضخ منتوجات مالية خطرة في شرايين العالم التجاريةraquo;. اما المستثمر العالمي الناجح وارن بافيت، فانه يتهم المصارف بأنها خلقت وباعت منتوجات وهمية عبر خلق استثمارات متدنية المخاطر من قروض ورهونات عالية المخاطر. فالمستثمرون الذين اشتروا تلك القروض الموضبة ما كانوا يعرفون ماذا اشتروا لانهم اعتمدوا على وكالات التصنيف الائتماني ليعرفوا ما اذا كانت استثماراتهم هذه محفوفة بالمخاطر أم لا، فكانت تقديراتهم خاطئة بشكل فادح.

ففي نهاية 2007 بدأت وكالات التصنيف الائتماني، مثل laquo;موديزraquo; وlaquo; ستاندارد أند بورraquo; وlaquo;فيتش للتصنيفraquo;، تخفض توقعاتها لسندات سبق لها ان اعطتها اعلى التصنيفات.

والسؤال البديهي الذي يتبادر الى الذهن هو انه اذا كانت المصارف الاستثمارية ومؤسسات التصنيف المالي حاذقة وبارعة الى هذه الدرجة، فلماذا وقعت في هذا الخطأ الفادح؟
ان جحافل حملة شهادات الدكتوراه في العلوم المالية والرياضيات العاملين في تلك المؤسسات، كان يفترض فيهم ان يقيموا تصورات لمناهج مالية هادفة الى خلق شبكة أمان تستطيع التقاط وضبط النزوع او الانزلاق الى المخاطر الكارثية في اللحظات الحرجة. لكن المنهجيات النظرية التي اقاموها ضد النكسات المحتملة لم تكن لها صلة واقعية بحقيقة ما يجري على الارض عملياً. وهكذا، فان ادارات اكبر المؤسسات المالية العالمية سهت او غاب عن بالها ما لادارة المخاطر، والرقابة النشطة، من اهمية حاسمة، وراحت تنتهج سياسات متهورة، في جو من انعدام الكفاءة وسوء الادارة، مدفوعة بالجشع والمزيد من الجشع ليس إلا.

فهذا النظام الذي يشجع المزيد من الاقراض المحفوف بمخاطر عالية، مع تناقص في الاهتمام بنوعية التسليف، لا يمكن ان يدوم. وهذا سبب الخسائر الهائلة التي هزت النظام المالي العالمي.
فقد شطبت laquo;ميريل لينشraquo; مبالغ هائلة من الديون الهالكة قدرت بنحو 25 مليار دولار، وشطبت laquo;سيتي غروبraquo; قرابة 23.2 مليار دولار، وبلغت خسائر laquo;مورغان ستانليraquo; نحو 9.3 مليار دولار، وقام بنك سويسرا المتحد laquo;يو بي أسraquo;، وهو اكبر الشاطبين بين المصارف الاوروبية، بشطب قرابة 18.4 مليار دولار. اما بنك laquo;سوسيتيه جنرالraquo; الفرنسي فقد تحمل خسائر احتيالية بقيمة 7.2 مليار دولار كاشفاً عن مراهنات خاسرة على البورصات الاوروبية بقيمة 75 مليار دولار، مما دفع بجميع الاسواق الاوروبية الى الهبوط. اما المشطوبات التي تكبدها laquo;بنك أوف اميركاraquo; فقد بلغت 8.3 مليار دولار. وسوف تصل مشطوبات laquo;جي بي مورغانraquo; وlaquo;باركليز بنكraquo;، وlaquo;دويتش بنكraquo;، وlaquo;إتش أس بي سيraquo; وlaquo;كريدي سويسraquo; وlaquo;كريدي اغريكولraquo; وlaquo;رويال بنك أوف اسكتلندraquo;، وبنوك صينية ويابانية مختلفة الى ما يزيد عن 30 مليار دولار. ومن الطبيعي ان تؤدي الخسائر المالية الهائلة التي تكبدتها المصارف الى خفض رساميلها، وبالتالي الى خفض قدرتها على الاقراض. فهل يفعل هذا الوضع فعله في الحد من تدفق الاستثمارات الى الصين، ويخفض حجم المستوردات الاميركية من البضائع الصينية؟

ان ما تصدره الصين الى الولايات المتحدة يبلغ 25% من مجموع صادراتها. فاذا تراجع الاقتصاد الاميركي، فان ذلك بدوره قد يؤذي الصين، فيقلص الطلب الصيني على البضائع الاميركية، خصوصاً السلع التكنولوجية ومنتوجات الكومبيوتر المتطورة. ففي هذا النظام المعولم لا توجد حصانة لأحد. ولذلك تبدو صورة الاقتصاد العالمي واسواقه المالية قاتمة تنذر بكارثة. فهل تنفجر الفقاعة الصينية في العام 2008 الجاري؟ وهل تليها الهند، فالبرازيل، وامارة دبي؟ فلننظر في الامر لنقف على حقيقة ما يلوح في الافق.

لقد اجبرت الازمة العقارية والمالية في الولايات المتحدة جميع المستهلكين على شد احزمتهم وتقليص انفاقهم، واضطرت الشركات الى تقليص وظائف العمل والحد من استثماراتها، خصوصاً في قطاعات صناعة السيارات، وبيع التجزئة، والمطاعم، والسفر والسياحة، والبناء، والعقارات، والمصارف. وهذا يسحب اموالاً كثيرة من الاقتصاد العام، مولداً موجة تناقص متفاقمة في النشاط الاقتصادي. او بكلام آخر، موجة من الركود الاقتصادي العام.

وعبر هذا التطور عن ذاته بخسائر خيالية منيت بها البورصات الاميركية في الاسابيع الاخيرة وبلغ حجمها نحو 2.5 تريليون دولار (2500 مليار دولار). وقد لخصت جريدة laquo;نيويورك تايمزraquo; المشهد المالي خلال السنوات الست الماضيات بقولها: laquo;شهدت هذه الفترة اكبر حفلة تسليف في التاريخ، يسّرها ومكّنها بنيان مالي جديد ازاح قدراً كبيراً من النشاط الى خارج المؤسسات المنظمة بقواعد رقابية صارمة ودفعها باتجاه مؤسسات مالية تؤثر الدين والمديونية على الحصافة والسلامةraquo;.

دخلت الازمة اليابانية خلال تسعينات القرن الماضي في الادبيات الاقتصادية على انها أسوأ أزمة في التاريخ الاقتصادي العالمي حيث خلفت خسائر تسليفية بلغت رقماً فلكياً بحدود 770 مليار دولار. وهناك الآن دلائل تشير الى ان خسائر الديون العقارية، وخسائر الديون الاستهلاكية (البطاقات الائتمانية)، والعقارات التجارية، يمكن ان تصل الى ما يتراوح بين 400 و800 مليار دولار، عدا عن ديون الشركات.

ويستقى من دروس التجربة اليابانية ان تدمير الثقة بالنظام المالي اسهل بكثير من اعادة بنائها، وان الاوجاع المالية هي اسوأ مما يتوقعه المصرفيون والاقتصاديون والحكام. والمشكلة الكامنة الآن في اكبر المؤسسات المالية العالمية هي كيفية استعادة الثقة المفقودة. لكن الثقة لا تستعاد بسرعة، لعجز الشركات المالية عن تحديد قيمة حسابية لموجوداتها، لأن تلك الموجودات معقدة وغير مفهومة وتشتمل على آلاف القروض المتفاوتة في مخاطرها.

ان هذه الخسائر التي تكبدتها المصارف حملتها على التجوال حول العالم بحثاً عن رساميل اجنبية. وهذه اول مرة منذ مطلع القرن العشرين تضطر فيها الشركات الاميركية الى البحث عن رساميل كبيرة خارج حدود الولايات المتحدة. فقد جمعت laquo;ميريل لينشraquo; 12.8 مليار دولار من سنغافورة والكويت وكوريا الجنوبية. وتلقى laquo;سيتي بنكraquo; 19.1 مليار دولار من ابو ظبي واليابان وكوريا وغيرها. وحصل بنك سويسرا المتحد laquo;يو بي اسraquo; على 10 مليارات من حكومة سنغافورة، وعلى 1.1 مليار دولار من مصدر آخر. وجمع laquo;مورغان ستانليraquo; 5 مليارات دولار من الصين. وخلاصة القول انه لولا الرساميل العربية والآسيوية التي ضخت في الجهاز المصرفي الاميركي، لكانت الاسواق المالية الاميركية الآن في حالة أعم من الفوضى والتردي.

لقد بلغت الخسائر المالية التي تكبدتها الحكومات العربية، والشركات الخاصة، والمصارف العربية، والمستثمرون العرب الافراد، من هبوط قيمة الاسهم والسندات والعقارات والممتلكات الخاصة في البورصات الاميركية والاوروبية، ومن هبوط قيمة الدولار الاميركي، ما يبلغ تقديره نحو 300 مليار دولار، اي ما نسبته 20% من مجمل موجوداتهم في تلك الاسواق وقيمتها 1.5 تريليون دولار (1500 مليار دولار). وبالنظر الى الاداء البائس الذي اظهرته البنوك العالمية المذكورة، فان السؤال الذي يطل من خلال الازمة الراهنة، هو: لماذا يستمر العرب، مؤسسات وافراداً، في وضع غالبية ثروتهم الوطنية تحت عهدة وتصرف تلك البنوك؟

الحقيقة المؤسفة هي انه لا توجد مؤسسات مالية عربية لديها الرساميل او الخبرات والكفاءات المالية القادرة على منافسة المؤسسات الغربية من حيث تعيين الاستثمارات الجيدة. هناك بنوك مثل laquo;بنك الكويت الوطنيraquo;، او laquo;البنك العربيraquo; في الاردن،، او laquo;بنك عودةraquo; اللبناني، لها سجل ممتاز كبنوك تجارية تقوم بممارسات مصرفية حصيفة ومحافظة. لكن القدرات المصرفية للبنوك العربية المؤهلة للاستثمار العالمي تبقى محدودة، كما ان قاعدتها الترسملية صغيرة جداً بالمقارنة مع البنوك الكبرى في الولايات المتحدة واوروبا واليابان. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يبلغ ترسمل البنوك العشرة الاوائل في العالم العربي ما مجموعة 36 مليار دولار، وهو مبلغ يساوي رأسمال بنك laquo;باركليز البريطانيraquo; وحده.

فلا مناص للبنوك العربية من التوحد والاندماج لخلق بنوك استثمار عالمية حقاً يمكنها المنافسة على الصعيد العالمي، ولديها القدرة على استثمار الثروات العربية. وعلى سبيل المثال لا الحصر ايضاً، فان تحقيق اندماج بين laquo; البنك العربيlaquo; في الاردن مع laquo;بنك الكويت الوطنيraquo;، ومع laquo;البنك التجاري الاهلي السعوديraquo;، ومع laquo;بنك ابو ظبي الوطنيraquo;، من شأنه ان يخلق بنكاً عالمياً بحق وحقيق. فالرساميل المالية وفيرة، لكنه من الاصعب ايجاد العناصر البشرية المؤهلة. لذلك فان مثل هذا البنك يحتاج الى توظيف مصرفيين عرب عملوا في مجال الاستثمار وبلغوا مناصب عليا في الولايات المتحدة واوروبا، واثبتوا قدراتهم على اتخاذ القرارات الاستثمارية السليمة، وامتلكوا مهارات ادارية عالية اثناء عملهم في المؤسسات المالية المرموقة.

ان المؤسسات المالية العربية اليوم تعتمد على مستشارين غربيين عاديين فشلوا في بلوغ مراتب عليا في بلدانهم، ولديهم استعداد لقبول مكافآت مالية متواضعة. فلكي تحصل مصارف الاستثمار العربية على الكفاءات العليا اللازمة، فان عليها ان تدفع مكافآت مالية لكبار الخبراء تفوق المكافآت التي يحصل عليها امثال هؤلاء من البنوك الاميركية.

وهناك اعتقاد في الاسواق المالية الغربية بأن المال العربي غبي وتائه، وان المستثمر العربي اقل شأنا من بقية المستثمرين. فها هي اللحظة المناسبة امام المؤسسات المالية العربية، خصوصاً تلك التي تمتلكها الدول العربية، للدخول في النظام المالي العالمي من خلال خلق مؤسسات خاصة بهم، والتأكيد للعالم بأن المال العربي ليس مالاً غبياً او تائهاً بل قياد. او كما قالت صحيفة اميركية كبرى: laquo;اذا كان العرب اغنياء الى هذه الدرجة فلماذا هم ليسوا على درجة مماثلة من الذكاءraquo;؟

ويبدو ان البنوك الكبرى تمر في مراحل من الاقراض الجنوني تتولد منها مكافآت مالية عالية، بل خيالية، لكبار المدراء والمعتمدين للمتاجرة بالادوات المالية في البورصات العالمية، وخسائر جسيمة، بل فادحة، لملايين المودعين والزبائن الابرياء.
وقد قيل في laquo;الوول ستريتraquo;، في قلب مدينة نيويورك، وهو اكبر شارع مالي في العالم: laquo;ان حكاية هذا المكان تتلخص في كونه مقراً لرجال حاذقين يفكرون ليل نهار بوسائل مختلفة لتحصيل الاموال من رجال اغبياءraquo;.


الدكتور عودة أبو ردينة اميركي من اصل عربي، متخصص في شؤون الشرق الاوسط،

(المقال تنشره quot;ايلافquot; بالاتفاق مع تقرير quot;الديبلوماسيquot; وهو تقرير شهري اخباري يصدر في لندن)