هذا هو فنجان قهوتي الخامس.. بالكاد إستطعت أن أصنع أربعة فناجين بفارق ساعتين لكل منهم.. فالبيت لقبل دقائق أشبه بمغارة عتمة، ما عدا شمعة أضأتها لتنير لي بعض الشيء.. ولأنه بيتي الخاص بي، فالأشياء داخله ساكنه، فأسير حسب تعودي بين ما هو ثابت في البيت.


إنها ليلة كما الصمت الرهيب.. لا حركة في الداخل ولا حتى في الخارج.. الكل نيام هنا في بلدتي الغير هادئة، ما عدا هدير طائرتين عموديتين إسرائيليتين، وربما أكثر، تحلق على إرتفاع منخفض وسط الليل المعتم عندنا، علها تصطاد احد المارة من هنا أو هناك، أو صغيراً أراد شراء حلوة من أحد الحوانيت القريبة من بيته، في ظل إنقطاع التيار الكهربائي المتعمد من قبل إسرائيل لمدننا وبلداتنا معظم الليل.


الغريب أن أطفالي لم ينزعجوا من صوت الطائرات، لربما تعودوا على ذلك، أو أصبح عندهم في المألوف كما تعودت أمهم على شرب القهوة في حلكة الليل دون أن يشعر بها زوجها، لأنه بمجرد دخوله البيت يغص في نوم عميق.. هو بالتأكيد منهك من عمل يوم شاق.. فهو كذلك صحفي يطير وراء الأخبار في غزة.. وما أكثر الأخبار عندنا!؟.


وبين القمر والشمعة أراها علاقة حب وترابط وإنسجام.. فلطالما حدثتني صديقتي ريم في السابق عن حل معظم مشاكلها مع زوجها على ضوء الشمعة التي تنير بيتها، ولطالما حكت لي منال، صديقتي الثانية، عن إنسجامها مع ضوء القمر ليلة الرابع عشر، فالظلمة هنا أصبحت جزءاً من الحياة.. وليالينا كما (هي) لم تتغير عن كونها (هي) في كل مرة!! هي... هي بسكونها وأنينها وشموعها.


أما أنا فمرة أجلس على كرسي الخيزران العتيق في شرفة غرفتي.. وأحياناً أغفو لبعض اللحظات، وأحياناً أخرى أمسك ببعض بألبوم صوري.. فلم يعد لي خياراً آخر.. سوى أن أتصفح ذكرياتي وأمرر شريط طفولتي، علها تؤنس وحدتي بعدما تعودنا على قطع الكهرباء يوميا عن منازلنا لساعات طوال بفعل الإجراءات التعسفية الإسرائيلية التي قررت تقليص تزويد الشركة الكهربائية الوحيدة في قطاع غزة بالبترول اللازم لتشغيل المولدات الكهربائية.


قد تكون نسبة معاناة المرأة هنا تفوق الرجل، سيما أن الأخير يخرج هرباً من الظلمة ليقابل أصدقاءه ويتسامر معهم طوال الليل.. بينما نحن ماذا عسانا أن نفعل سوى النظر بصمت مريب نحو فضاء معتم لتذبل عيوننا.. أو نتطلع لفنجان قهوة أحكي له هموم الماضي وأمل المستقبل المجهول الذي نعيشه هذه المرحلة.
لا أبالغ إذا ما قلت أنني صرت أعشق الليل وأنتظر قدومه حتى أضيء شموع بيتي، وأسترجع شريط أحلامي الوردية.. فهي على الأقل أجمل أيام قضيتها حين كنت أقابل خطيبي quot;زوجيquot; في أحد المطاعم، ونتحاور بهدوء دون أن تزعجنا دانه أو فرح.. أو يزداد ثقل الدين علينا، فتصبح حياتنا فقط.... لسداد الديون.
قديما.. في أول العمر، كنت أتساءل بإستغراب، كيف للفلسطيني أن يعيش في بلده مُشرد.. منهك.. يقتل وتستباح أرضه وعرضه.. وعدما عدت لأرض أجدادي من بلد القذافي، عرفت كيف تنسجم الروح والجسد والدم مع تراب الأرض، وكيف يذهب الشاب لموته مبتسماً وكأنه ذاهب لحياة أفضل... هو كذلك يبدو

نجلاء عبد ربه