المرة الأولى التي التقيت الشاعر نينوس آحو كانت عام 1991، بعد عودته مع اسرته من الولايات المتحدة الأمريكية الى وطنه الأم (سوريا) التي أحبها وفضل العيش والاستقرار فيها. نينوس من الصنف الذي يرفع الكلفة سريعاً مع الآخر، لهذا شعرت في ذاك اللقاء بأنني أعرفه منذ سنوات،وقد دار بيننا حواراً طويلاً ممتعاً وغنياً امتد لساعات الصباح الأولى. تمحور حول واقع الشعب الآشوري وآفاق العمل القومي،فضلاً عن أن كل منا اراد أن يكتشف الآخر،من حيث السقف السياسي والرؤية الاستراتيجية للقضية الآشورية. نينوس،كما كل الشعراء، يحب الشفافية والصراحة في علاقاته وحواراته،يكره الخبث والمناورة والتصنع.لهذا باشر حديثه معي، من حيث يجب أن ننتهي بخلاف ما هو معتاد، بسؤال كبير،ربما على الطريقة الأمريكية: ماذا تريد للشعب الآشوري؟. اجبته، بسؤال معاكس: وهل ستعطيني ما أريده...: لا... طبعاً....فقط لأعرف من أين وكيف ابدأ معك..... طيب: اريد (دولة آشورية).... كعادته وبلكنة انكليزية: أووووه.... هكذا دفعة واحدة... (دولة آشورية)... غير.... بدل... بالسريانية (ليكو آزولوهت حورو)....: لما لا... أليس هذا من حقنا كشعب مثل باقي شعوب العالم....: نعم.. نعم هذا صحيح من حقنا..لكن هل مطلب الدولة الآشورية هو واقعي وهل هو مشروعكم في المنظمة الآثورية..؟....: طبعاً لا... وهو ليس بواقعي..أنه غير ممكن.... ربما هو حلم ليس أكثر... ثم أنت لم تسأل عن اهداف ومطالب المنظمة الآثورية.... انت سألتني عن ما يريده سليمان يوسف... وليس عما هو ممكن القيام به أو ممكن أن تقوم به المنظمة الآثورية لأجل الشعب الآشوري... رد باستغراب: اليست أهدافك وأهداف المنظمة واحدة...: للأسف لا...: وكيف... اليست هذه مشكلة وتناقض؟...: نعم...حقيقة انها مشكلة...هذه ليست مشكلتي فقط أنها مشكلة عامة مرتبطة بالبنية الفكرية والسياسية للمنظمة... فاذا سالت اليوم ذات السؤال لعشرة آثوريين ستحصل على عشر اجابات مختلفة... هذه معضلة واشكالية كبيرة تعاني منها المنظمة الآثورية... يفترض أنك يا رابي نينوس أن تعرف واقع المنظمة فقد سبقتنا اليها وعملت لعقود في صفوفها... وبهذه المناسبة أسمح لي بسؤال يا أبو ديلمون: لماذا تركت المنظمة الآثورية وأنت من جيل المؤسسين لها وعلى علمي راهن الكثيرون عليك بتطوير عمل المنظمة وتفعيل نشاطها..ويقال كان لك دور هام في احداث حركة اصلاحية داخل المنظمة سنة 1964..أجاب، طبعاً بعد أن سرد بشيء من التفصيل عن تاريخه وتجربته داخل المنظمة الآثورية: تركتها بعد أن تيقنت بأن لا مكان فيها للآشوري الجديد الذي بشرت به وأعمل لبنائه... للأسف المنظمة أضحت مقبرة لكل جديد ومفيد..أنها غدت مجرد (دكانة) للبعض يتاجر بها وباسمها،كما هو حال معظم أحزابنا.... لقد تركتها لكن لم اترك العمل القومي... يمكن للمرء أن يعمل ويعطي لشعبه أكثر حتى وهو خارج التنظيمات والأحزاب...أضاف: لست أول من ترك المنظمة ولن أكون الأخير... لو أحصينا الذين تركوا المنظمة هم أضعاف اللذين استمروا فيها...أتوقع يا أخ (سليمان) أنت والكثيرين من أمثالك ستتركون المنظمة بعد أن تضعوا ايدكم على جرح الحقيقة... وأضاف نينوس: يبدو أننا جميعاً (توما )لا نقتنع ولا نقر بالحقيقة الا بوضع أيدنا على الجرح...وبالفعل صدقت توقعات الشاعر نينوس، فبعد سنوات من هذا الحديث انسحبنا، أنا وقياديين آخرين كثر،ومن مختلف الفروع والمناطق،من صفوف المنظمة الآثورية الديمقراطية...تجدر الاشارة هنا، وانطلاقاً مما قاله نينوس آحو عن المنظمة الآثورية، رفض أن يكرم في احتفال أقامه آثوريون في القامشلي بمناسبة يوبيلها الذهبي تموز 2007 بالطريقة الرخيصة والمستهجنة التي أرادوها له وأبى أن يستغل اسمه وتاريخه النضالي من قبل هؤلاء.
لقد مرت سنوات طويلة على هذا الحوار مع الشاعر نينوس آحو.حصلت خلالها الكثير من الأحداث والتطورات السياسية والأمنية في المنطقة، طالت آثارها الخطيرة شعبنا الآشوري وأثرت سلباً على حركته السياسية.كما أصيب الملفان (نينوس) بمرض اجبره على مغادرة سوريا والسفر من جديد لأمريكا للمعالجة.وقد نشرت العديد من الصحف والمواقع الالكترونية لشعبنا خبراً أعده وأرسله الأستاذ يكدان نيسان عن مهرجان احتفالي كبير أقيم، في الأول من كانون الأول 2007، تكريماً وتقديراً للشاعر الآشوري الكبير نينوس آحو، وذلك بمبادرة من أصدقائه ومحبيه الذين توافدوا من مختلف دول العالم الى مدينة شيكاغو الأمريكية،حيث اقيم المهرجان. وجاء في الخبر: أن كلمات عديدة ألقيت في الحفل ألقت الضوء على المآثر القومية والوطنية للشاعر وأشادت بأعماله وسيرة حياته الزاخرة بالعطاء والنضال وأكد المتحدثون عن المكانة العالية والرفيعة التي يحظى بها الملفان نينوس آحو لدى مختلف شرائح وأوساط الشعب الآشوري(سريان/كلدان). ابرز المتحدثين الأساتذة (أبجر مالول) (يكدان نيسان) ( حبيب أفرام)، رئيس الرابطة السريانية في لبنان، الذي قدم خصيصاً ليقلد الشاعر الكبير نينوس آحو وسام رفيع باسم الرابطة السريانية تقديراً ووفاءً له.وبدوره القى الشاعر نينوس بالحشد الكبير كلمة حب وشكر بليغة ومؤثرة ختمها بقول لرائد النهضة القومية نعوم فائق ((إن وردة واحدة تقدمها للإنسان في حياته، هي أفضل من ألف أكليل ورد تفرشها على قبره بعد مماته، وأنتم الآن بحضوركم وكلماتكم، قدمتم لي تلك الوردة)).
نينوس آحو..غني عن التعريف...شاعر...أديب...وانسان قبل كل شيء... جمع بين عظمة الرجال وبراءة الأطفال...كبير مع الكبار صغير مع الصغار... رفض الذل والعبودية بكل أشكالها حتى للآلهة... غير اسمه من عبدالمسيح الى (نينوس)... انه مدرسة في القومية الآشورية والوطنية السورية وحب الانسانية... تكاد البسمة لا تفارق وجهه حتى وهو في اصعب لحظاته.... بسمته كما لو أنها وردة نيسان في صحراء قاحلة، تتحدى الجفاف والحصار... تراه،كما لو أنه أسد بابل يقف على بوابة عشتار شامخاً صلباً متحدياً آلهة الموت يتطلع الى آلهة الحياة،آلهة الآشوريين، وهي كثيرة(آشور ومردوخ وعشتار وانانا و...)،أملاً بالخلود الذي بحث عنه (كلكامش) وكاد أن يناله لو لا غدر (آلهة الموت) في غفلة خطفت منه سر الخلود.
الشاعر الكبير نينوس آحو، يختزل، بشكله وبمخزونه الفكري والثقافي وبتجربته السياسية، حياة أمة وتاريخ شعب ومسار قضية في مرحلة تاريخية صعبة hellip; تنقل بين معظم أماكن ومناطق تواجد الآشوريين، داخل الوطن وخارجه... زار (كامبات الذل والمهانة) في دول اللجوء التي كانت تأوي مهاجرين آشوريين. أنه شاعراً قومياً بامتياز......تراه ينشد قصائده في المؤتمرات والمهرجانات الآشورية...حتى مهرجان الصين للثقافات الشرقية القديمة لم يغيب عنه... من يشكك بآشورية (السريان) فليأتي ليرى ويسمع الشاعر نينوس وهو ينشد من عبق الحضارة الآشورية ومن أريج التراث السرياني على ايقاع سيمفونية نينوى التي تأخذ السامع بعيداً...الى اعماق التاريخ... وتسمو به الى حيث عروش آلهة الرافدين(آلهة الحياة)....ينشد كما لو أنه آت للتو من أوروك العظيمة... لم يعرف يوماً الراحة والاستقرار... كطائر تائه هارب من الطوفان.... محلقاً في الفضاء لا يجد يابسة يحط فيها...كسفينة في وسط العاصفة تتلاطمها الأمواج لا تجد شاطئ ترسو فيه.hellip; كان بحق سفير أمة(آشورية) منكوبة.... حاملاً في اعماقه أحزان شعب عريق يبحث عن ملاذ آمن... هرباً من القتل والارهاب الذي يلاحقه في كل مكان....بالرغم كل الصعاب والمحن،وخيبة الأمل بكل الأحزاب والتنظيمات والحركات الآشورية، نينوس لم يقطع الأمل بدولة آشورية وباعادة بناء برج بابل وبوابة عشتار وفتح أكاديمية نصيبين من جديد.... مراهناً على ولادة (الآشوري الجديد) الذي بشر به في قصيدة جميلة كتبها بعنوان ( آثورايا خاثا)....
هذا الانسان الذي أحبه واحترمه وصادقه كل من عرفه، الا من لا مكان للحب في قلبه ولا معنى للصداقة والوفاء في قاموسه... نينوس آحو... هذا الانسان الشامخ كالجبل الصامد... منذ أشهر وهو يصارع المرض... يرفض الاستسلام... لا مكان لليأس في حياته... بالأمل يتحدى.... بآلهة الحياة،بآلهة الرافدين(آشور وانانا وعشتار و...) يتقوى.... ليس خوفاً من الموت... فالموت نهاية حتمية لا مهرب منها... وانما لأن بقي الكثير مما لم يقله نينوس بعد... والكثير مما لم يفعله بعد...والكثير مما ننتظره وينتظره الشعب الآشوري منه... له رسالة يريد أن يؤديها حتى النهاية قبل أن يغادرنا الى العالم العلوي... الى حيث الآلهة... نينوس لا يريد أن يودعنا قبل أن يرى الآشوري الجديد (المخلص) الذي بشر به، كما بشر جبرائيل بالمسيح المخلص...
كلما تحدثت اليه بالهاتف للاطمئنان على صحته،يبادر هو للاطمئنان علينا وكأننا نحن المرضى.... يقول: ((أبو شوسين.. هناك الكثير مما تحدثنا عنه مطولاً،فيما يخص قضية شعبنا،أجمعنا واتفقنا عليه... ينتظرنا لننجزه معاً... أطمئن وطمئن الأخوة والأصدقاء... أنا باق... أنا عائد اليكم لنكمل المشوار...نعم أبو شوسين.. أنا على ثقة بأن بقي لي الكثير من العمر سأمضيه معكم لنكمل مسيرة نضال تبدو طويلة... سنبني معاً الآشوري الجديد الذي اراهن عليه... وولادته باتت قريبة..)).....: نعمhellip; يا أبا ديلمون hellip; نحن على ثقة بأنك عائد الينا الى الأرض التي عشقتها... لتسمعنا قصائد وأشعار جديدة بالآشورية المحفورة بالدم على صخور الجبال.... بالسريانية المنقوشة بالذهب على ابراج الكنائس الخاويةhellip; ستعود لتزرع الأمل في نفوس الضعفاءhellip;الى القامشلي التي افتقدتك وتسأل عنك في كل زقاق وحي ومنزل وساحة....حيث صوتك مسموع في كل مكان واسمك على كل لسان... وصورتك في كل قلب hellip; وقصائدك تغنى في كل الأعراس والحفلات...ستعود الى قريتك التي نشأت فيها hellip;الى (كرشامو) الحزينة وهي تتأمل جبال طور عابدين وايزلا المهجورة.. كرشامو النائمة على آلامها وأوجاعهاhellip;. في ربوع سهول الرافدين...حيث هجرها أهلها وتركوها اطلالاً...بعد أن حوصرت بالمستوطنات العنصرية للعربان اللذين جاء بهم البعث الحاكم من محافظات سورية بعيدة وزرعها بين بساتيننا وحقولنا الخضراء لتكتمل فصول الجريمة... محنة قريتك (كرشامو) تلخص اليوم محنة شعب ومأساة أمةhellip;. قلت فيها شعراً وقصائد كثيرة يرددها اليوم كل المطربون.. جئت بصغارك (رومراما، زلكي، ديلمون،إنليل)، من خلف المحيطات والبحار ليشاهدوها وليشهدوا يوماً في المحاكم الدولية وعند الآلهة على آثار الجريمة وعلى غدر التاريخ بموطن أجدادهم وآبائهم.... نعم يا أبا ديلمون عد hellip;نحن بانتظاركhellip; بانتظار الآشوري الجديد( آثورايا خاثا)hellip; انقطع الاتصال...
لن أرسل برسائل الى الله - كما فعل الدكتور طانيوس آيو- أتوسل اليه راجياً شفاء العزيز نينوس ليتمم قصائد لم تكتمل بعد... لا... نينوس أعظم من أن يستنجد بآلهة فاشلة....كم يبدو الله قزماً وبلا فائدة... عندما يقف متفرجاً عاجزاً عن شفاء مريض عزيز.... لم يعد ثمة آلهة تحرس الكون و تهب الحياة وتعشق الانسان... بعد أن غادرتنا آلهة الرافدين...بعد سقوط آشور...وبعد نزول شميرام من عرشها الملائكي... بعد انهيار برج بابل وهبوط بوابة عشتار....لم يعد قيمة للصلاة والدعاء في الكنائس بعد أن توقفنا عن ترديد دعاء (اينموما ايليش) في معبد مردوخ...الآلهة المستحدثة من قبل الديانات السماوية ليست أكثر من فزاعات لتخويف الانسان وسلبه حريته ولانتزاع ارداة الحياة منه.....
قبل ايام، وجرياً على عادات وتقاليد الآباء والاجداد في بلاد ما بين النهرين، منذ العصور الوثنية القديمة ما قبل المسيحية، احتفل الآشوريون المسيحيون (سريان/كلدان) بصوم نينوى- انقطاع عن الطعام والماء ثلاثة ايام بلياليها-. وذلك اعتقاداً منهم بان بفضل هذا الصوم استجابت الآلهة،آلهة الرافدين، لدعاء وتوسل (أهل نينوى) وأنقذهم من طوفان مدمر..في حين منذ أن اعتنق الآشوريون المسيحية قبل نحو عشرين قرناً وهم عرضاً للتهلكة والويلات والمآسي والمذابح الجماعية والفردية باسمها وبسببها وهم يصومون ويصلون حتى حفروا وديان وممرات في صخور المغارات من كثرة ركعاتهم وهم يتوسلون ويتضرعون لله والمسيح لكن من غير أن يستجيبا لدعائهم ولو لمرة واحدة وبقيت المصائب والويلات تلاحقهم حتى اليوم.... أية خطيئة ارتكبها الآشوريون؟.هل حقاً غضب الله عليهم عندما قام الكلدانيون ببناء (برج بابل) الذي لا مس بعلوه السماء وهدد (عرش الله) كما كانت تحكي لي جدتي وأنا صغير...؟.اعتقد بأن خير لنا كآشوريين مسيحيين في هذه المرحلة أن نتوقف عن الصوم والصلاة وعن قرع أجراس الكنائس احتجاجاً على ما نحن عليه ونبدأ بالبحث عن الآشوري الجديد... في معابد الآلهة القديمة.. آلهة الحب والحياة... آلهة سومر وأكاد وبابل وآشور ونينوى... بحثاُ عن الآشوري المخلص الذي بشر به شاعرنا الكبير نينوس آحو....
سليمان يوسف يوسف
آشوري سوري...
[email protected]
التعليقات