فى العراق، وعلى ما أظن أيضا، فى البلدان الاسلامية الأخرى تتكاثر المدارس الدينية بشكل مذهل. هذه المدارس يتخرج فيها طلاب علوم الدين كل حسب طائفته التى ينتمى اليها. ليس هناك مشكلة فى ذلك، ولكن الخوف كل الخوف هو أن يكون الطلاب قد درسوا فيما درسوه الحقد والكراهية للطائفة الأخرى. والأمر الثانى هو هل نحن فى الحقيقة نحتاج الآن الى علماء دين أم علماء دنيا؟ لقد تأخرنا نحن فى العراق عن ركب الحضارة منذ انقلاب البعثيين فى عام 1963. حيث كان التركيز على دراسة مبادىء حزب البعث وفوق كل ذلك على سيرة صدام حسين. أنفق الحكم السابق اموال النفط على مشاريع الحروب والتجسس والمحافظة على كيانه مبالغ مذهلة، وما تبقى أنفق فى النواحى الأخرى ومنها العلمية التى حصلت على النزر القليلر منها. وانهارت الصناعة المحلية كما انهارت الزراعة، وأصبحنا نستورد كل شيء.

نستيقظ فى الصباح، ندخل الحمام ndash;ولا ننسى ان نقدم الرجل اليسرى- فنجد كل ما فيه مستورد من الخارج، من فرشة الأسنان الى الأمشاط وانابيب الماء وكل باقى وسائل الراحة. ندخل المطبخ، حيث الثلاجة وكل الأجهزة الكهربائية مستوردة، وكذلك قنانى الغاز (حلم ربات البيوت فى هذه الأيام). نفطر وربما نستعمل الملعقة والشوكة والسكين والصحون الخزفية (الصيني) وكلها تقريبا مستوردة أو من اختراع أجنبي. حليب الأطفال مستورد، وكذلك حفاظاتهم، و (المحارم) النسائية.

نغادر المنزل ونستقل الباص او السيارة - مستوردة طبعا- ونصل الى محل عملنا، فان كان مكتب فى دائرة فان كل الاجهزة فيه مستوردة كالتلفون والكومبيوتروالاضاءة والتدفئة والتبريد، والأقلام والورق. واذا كان معملا فكل المكائن والأدوات والعدد مستوردة، واذا كان حقلا فالجرار (التركتر) والبذور ومواد مكافحة (الآفات الزراعية والحشرات الضارة) مستوردة ايضا. واذا كان محل العمل حانوتا فأكثر المواد المعروضة فيه مستوردة.

اذا مرضنا (لا سمح الله) ودخلنا المستشفى فالأجهزة الطبية والأدوات الجراحية وسيارات الاسعاف كلها مستوردة، وكذلك معظم الأدوية وحتى المحارير والحقن والكراسي المتحركة والعكازات. اذا اردنا الترويح عن النفس فنذهب الى (السينما) ـ مغلوقة فى بغداد حاليا ndash; فهي اختراع أجنبي وسنرى على الأكثر فلما أجنبيا، وطبعا ان أجهزة العرض والانارة مستوردة أيضا، واذا اصبنا بالزكام نستعمل (الكلينكس) المستورد طبعا.

اذا كان بامكاننا السفر الى الخارج، فالطائرة هي اختراع أجنبي (المرحوم عباس بن فرناس حاول ان يطير بجناحين من ريش ولم ينجح وقتل فى المحاولة)، والمضيفات محجبات بحجاب اسلامي، اذا كانت الطائرة مسلمة.

اذا كانت هذه اول سفرة لنا لأوروبا، فسنبقى وقتا طويلا مذهولين مما نرى ونتحسر على العمر الذى أضعناه، ونتذكرباستغراب ما كان يقوله لنا المعلمون فى المدارس من ان بلدنا هو الأحسن ماضيا وحاضرا، وان تأريخنا حافل بالبطولات والغزوات والغنائم، واننا أول من اخترع العجلة والكتابة وسن الأنظمة والقوانين والسمك المسكوف وتشريب الباميا وعرق أبو الكلبجة!!. ولو لم يقيض لنا رب العزة هؤلاء العلماء، علماء الدنيا، فيخترعون ويكتشفون، كيف ياترى كنا سنعيش فى هذا العالم المعقد؟ هل كنا سنستطيع العيش بدون الكهرباء والماء الصالح للشرب؟ هل كنا نستطيع تبادل المعلومات المتنوعة عن الماضى والحاضر وما قد يجود به المستقبل بدون كومبيوترات؟ تخيل لو أن مخترعات القرن الماضي وحده اختفت فجأة فما الذى سيحصل لنا؟

ما ذكرته هو جزء يسير مما نستورده من الخارج ومعظمه يأتى من بلاد الغرب، واخترعه او اكتشفه علماء الدنيا فى الغرب من فيزياويين وكيمياويين واطباء ومهندسين من كل الاختصاصات، ولم يقرأوا القرآن الكريم ولا سمعوا الأحاديث النبوية ( أكثرها ملفق)، ولا يلبسون (البازبند) وادعية الشيخ ( ابن ملا كمر)، ولم يسمعوا عن لبن اربيل او كباب الفلوجة والكاظمية والسليمانية، ولم يتذوقوا الباسطرمة والكبة الموصلية أو شربت الرمان من محلات جبار ابو الشربت، ولم يأكلوا فى مطعم ابن سمينة، ولم يتذوقوا طرشي حنانش او كعك السيد او باجة الحاتي، وحتى لم يسمعوا أغانى صديقة الملية. (عمرهم خسارة فى خسارة)!!!.

فى بلادنا لا نهتم ب(سفاسف) علوم الغرب واختراعاتهم التى لن تفيدنا فى آخرتنا حسبما يحدثنا علماؤنا الأعلام، فان كل شيء ظهر بعد النبي (ص) يعتبر بدعة والبدعة ضلالة والضلالة فى النار. نحن نعانى فى بلادنا من شدة حرارة الشمس صيفا، فكيف ستكون حرارة جهنم التى ستحرقنا اذا لم نتبع المشايخ الذين يعدوننا بالجنة والحور العين والغلمان المخلدين والخمر اللذة للشاربين؟ ويعدوننا بأنهم سوف لاينسوننا فى دعائهم وصلاتهم خاصة اذا ما أطعناهم وسلمناهم النذوروقبلنا ايديهم ولحاهم!!. ويحثنا علماؤنا الأبرار على العيش كما كان يعيش الرسول (ص) وصحبه الكرام، فلا نأكل الآيس كريم او نشرب الكولا ولا نستعمل الثلج لتبريد الماء، ولا نأكل الكفتة ولا البقلاوة ولا الزلابية ولا الشلغم ولا اللبلبي!!. اما الحلاقة فعلينا ان نكتفى (بتشذيب) لحانا، فان أجدادنا الصالحين قد أطلقوا لحاهم على الطبيعة كما أراد لها الخالق!!.

اما بالنسبة للنساء فانه من المعصيات ان تخرج المرأة من بيتها وعلى ذلك فهى لا تذهب الى صالونات الحلاقة. واذا خرجت لحاجة ضرورية فيجب ان (تتغلف) بالسواد من قمة الرأس الى أخمص القدمين. وبنات المدارس والجامعات يفعلن الشيء نفسه والا فان الضرب بالعصي أقل ما سيلقينه. فى بغداد وغيرها لم نعد نجد صالونا واحدا للحلاقة لأن معظم الحلاقين قد نفذ حكم الله فيهم وفيمن حلقوا لهم وقتلوهم جزاء عصيانهم واصرارهم على حلق اللحى أو (حف) الوجوه بالخيط او حلق الرؤوس على الطريقة الأمريكية المحرمة شرعا!!.

وبعض مشايخنا قرروا قتل المرأة والطبيب الذى (يكشف عليها) لفحصها، وبما ان الشفاء هو من عند الله تعالى والقتل هو من عند الناس فقد فضلت المرأة عدم الذهاب الى الطبيب ndash; الذى أصبح وجوده نادرا فى بغدادndash; والاكتفاء باستعمال الأعشاب التى يحتفظ بها الباعة فى (قواطى مزنجرة) علاها الصدأ والتى قد ورثوها بمحتوياتها عن آبائهم قبل سنين طويلة. كانت المرحومة جدتى وجدتك ترفضان الذهاب الى الطبيب وتقولان ان الله تعالى هو المشافي بدليل الآية (واذا مرضت فهو يشفين). ولكن بعد ذلك تغيرت الأمور وفهمنا بان الاطباء هم ممن خلق الله تعالى وأعطاهم العقول التى أهلتهم لتعلم الطب وممارسته، فهو يشفي المرضى عن طريق الطبيب. وبعد عقود نسينا ذلك وعدنا الآن نتطبب على ايدى السحرة والمشعوذين، وربما بسبب شحة الأطباء فى هذه الأيام. أما الرياضة البدنية ومنها كرة القدم فيقول بعض علماؤنا الأجلاء انها مضيعة للوقت وتلهينا عن عبادة الله، واذا كان لابد من ممارستها فيطلب من اللاعبين تغطية سيقانهم!!!.

بعض مشايخنا ابتكروا الكثير من الأحاديث لحماية أنفسهم فلفقوا حديثا عن الرسول (ص) يقول: (من اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد). وهذا يعنى ان نطيعهم ونتبعهم سواء أكانوا على حق أم على باطل. ثم ان بعضهم ndash;وهم كثرـ يحرمونا من نعم قد أنعم الخالق العظيم علينا بها، وحللوها لأنفسهم.

كنت أتساءل لماذا يسافربعض المشايخ بالطائرات للعلاج فى البلاد البعيدة الكافرة، وهم الذين يقولون بأن الطائرة بدعة، وان الأعمار بيد الله، وان الله هو المشافي المعافي، ومع ذلك يتقبلون (مساج) الأيادى الناعمة جدا لأجسامهم الخشنة جدا؟

لماذا يسافربعض المشايخ الى شمال العراق أو الى لبنان أو الى اوروبا (كل حسب ما قسمه الله له من رزق!!) لغرض الأصطياف أو شهر العسل، ويدعون الناس الى الزهد والتقشف وتسليم امورهم الى الواحد القهار؟ واذا كان الشيخ طاعنا فى السن ويتزوج من مراهقة بأعتبار انها هدية له من ذويها، يبرر ذلك بانه يقلد الرسول (ص) فى ذلك، ولا يعبأ بتغير الزمن ولا تبدل الأحوال، وان هذه المراهقة المسكينة ستدرك فيما بعد شرما وقعت فيه، ولكن بعد فوات الأوان.

منذ سنين طويلة كنت أستمع لأحد المشايخ -وهذه حقيقة واقعة- وهو ينتقد رواد السينما، وخصص حديثه على فلم (وداد) بطولة ام كلثوم، الذى كان يعرض فى ذلك الوقت، وقال للحاضرين أن أهل الجنة لن يفوتهم شيء من المتعة حتى مشاهدة أفلام أهل الدنيا السينمائية، وانه فى الآخرة سيخرج شعاع من جهنم الى الجنة يعرض فيها فلم (وداد) وغيره عليهم، فلا يستعجلون بالذهاب الى دور السينما فى هذه الدنيا الفانية وينسون ذكر الله!!!.

قرر الكثيرون من الناس ادخال ابناءهم الى المدارس الدينية ليتعلموا على أيدي المشايخ اصول الدين والتدين فيتخرجوا بدرجة (دكاترة) دينيين، ويتخرجون علماء دين يحرضون الناس بعضهم على البعض الآخر، ويأمرونهم بالمعروف وينسون أنفسهم، ويغترفون المال اغترافا، بدلا من (ضياع) مستقبلهم -كما يقولون- فى دراسة الطب والهندسة ومختلف العلوم والمعارف الحديثة المفيدة التى نحن بأمس الحاجة اليها، واذا ما أكملوا دراساتهم وأصبحوا علماء دنيا فلا يحصلون الا على النزر القليل من المال. ويقولون لأبنائهم انظروا الى علماء الدنيا من العراقيين وهم يتسكعون فى شوارع عمان ودمشق وغيرها ولا يحصلون على لقمة الطعام الا بشق الأنفس، بينما البعض من علماء الدين يكدسون الثروات الطائلة من تهريب النفط، وتعيين الأقارب فى المناصب العالية، وحتى تعيين اشخاص وهميين فى مختلف المصالح الحكومية ليستلموا رواتبهم، او يصبحوا اعضاء فى البرلمان ويستلموا الرواتب والمخصصات الضخمة حتى وان لم يداوموا على حضور الجلسات، ويحجون كل عام مع ذويهم على نفقة الدولة. أما الفقراء الجائعين والمشردين واليتامى والثكالى والعاطلين والمعوقين
فان أجرهم على الله الكريم. ثم ان الفقراء هم أحباء الله، فلا يأخذنهم خوف ولا هم يحزنون، والأجر على قدر المشقة كما يقولون ويزعمون.

عاطف العزي