quot;يود أحدهم لو يعمّر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّرquot;

هذه هي صفة الإنسان الظالم، المتحول إلى وحش مفترس لحياة الآخرين. عبد الجسد هو ذلك الكائن الذي يقتل روح الآخرين ليتمكن من التمتع بالشهوات كلها، وفي كلّ آنٍ وزمان.


عبد الجسد لا يفكر إلا في جسده والأقربين منه دماً ولحماً وخدمة. عبد الجسد عدوّ لدود للعقل والفكر، فيركب صهوة القانون والدستور ويشرّع كما يشاء. يقفل الأفواه ويكمّم المشتكين، ويعذب الكاشفين وينفي المارقين من سلطته التي وإن استمرت ألف سنة فلا يغير من جوهرها سبيلٌ في الحياة.
نسبة عبد الجسد إلى البلد كنسبة الملح إلى الطعام، فمن ذا الذي يصلح الملح إذا الملح فسد؟


عبد الجسد زعيمُ شعبٍ، يتاماه يصبغون الأحذية في الشوارع، وفي الطرقات تشحذ نسائه، وأرامل الشهداء قضين عمراً في قبض المعيشة مقابل الملامسة لدى المسئولين سرّاً نعلمه نحن، ويعلمه بعلٌ من اتباع عبد الجسد يخبرونه، فيبتسم ساكتاً، يفكرُ ملياً بأولاده وإخوته مدركاً باعهم في السطو على أجساد الإناث الملساء. وهو زعيمٌ على شبابٍ يمموا شطر الغرب يحلمون بالعيش وتختفي في مرآة وجوههم صورة الأجداد وذكريات البلد.


عبد الجسد يستيقظ صباحاً ويطلّ من شرفة قصره العالي على المدينة التي يغطيها الغبار وِسعة السماء، ينتشي سعادة القوة والملك والمال والرفاهية. يمر بمطبخ القصر فيشم رائحة اللحم، يطبخونه للغداء، فيبتسم للخدم: أسنانه بيضاء تعاني من التسوس لطول الانغراس في لحم الضأن والغزلان. في الصباح يأكل العسل والقشطة ومأكولات جلبت له خصيصاً من عواصم الدول. يتركها كومةً يأنف منها معافى، ويتخلص كل يومٍ من كومة شكاوى الشعب: يحيّيه بيسراه في الاحتفال: اليمنى للضيف مصافحةً كي لا يشمّ ريحة أكوام بقايا الطعام وقذارة الشكاوي.


الجريدة الحزبية تنفي الخبر وتضيف أن الرئيس تسوست أسنانه بالسياسة: ساس يسوس من السياسة، حسب التفسير الفلسفي لكادر الجريدة.
وفي الظهر يستقبل عبد الجسد دبلوماسياً من الدرجة العاشرة، لا يعرفه أحد، يجلس عبد الجسد أمامه مثل تلميذ ابتدائي أمام معلم الصف، وتكبر الصورة وتغطي النصف الأعلى من جريدة الحزب، وعلى شرفه يأكل الضيف من مأدبة الغداء الفاخر والكريستال المزين يشع النور، يضيف البهجة وسط أثاث فاخرة، والشمس تُسقط لهيبها على طابور الناس منذ يومين ينتظرون قنينة الغاز وسط المدينة.


عبد الجسد يعرف شعبه جيداً، فقد تجبنوا له، وعزم إلا أن يركبهم إلى الأبد. عبد الجسد فوق القانون، والمحاسبة لا تشمله: أين يأخذ الأموال، وأين يصرفها، وأسباب قيادته للحرب الداخلية ضحاياها بالألوف، وتخريبه للبلد!


عبد الجسد يقوم ويقعد ويحكم ويسافر ولا يراه أحد. يهيئ منذ أمدٍ إبنه البكر خليفة له بعد فناء جسده، لكنه لم يحرّم أحداً من أقاربه من المُتع والقوة والمال المسروق من خزينة البلد. إلا أنه رحيم وقلبه رقيق: ينوّم أموالنا باسمه في بنوك الغرب كي لا يتعب الشعب في الحساب والعدد.
يتذاكى عبد الجسد، يقول إنه يفتخر بامرأة (والدة كومة شهداء في سبيل القضية) لاقاها عبد الجسد فقالت له انها لا تريد سوى سلامة الوطن وعزته، وتفتدي بالبنين إذا نقص الكيل، فكيف يطلب الشعب العيش والكهرباء والرفاهية؟ يتسائل مستغرباً عبد الجسد الذي يستمد قوته منها كما أضاف في خطابه.


لكن عبد الجسد رام صرف نظره عما يحيط به من رفاه متكدس مقطوع من لقمة الشعب وضروراته. فالشعب عجماوات كما قالها عبر حاجبه وممثله ومسئول أبواقه.


القومية والوطنية خير دابّة سخرها لنا الزمان، نمتطيها نحو الشهوة كلّها وليمت الشعب فماذا يضيرنا، ونحن لوجع خفيف نعالج في مستشفيات الغرب؟


العلاج والسياحة والرفاه متطلبات المرحلة للمحافظة على قوام عبد الجسد المهيب، للمحافظة على منجزات الحزب والثورة.
الوطن قبل العيش والقومية قبل الكهرباء والحزب قبل قنينة الغاز وبطولة عبد الجسد قبل الطبابة، فلماذا يخطئ الكاتب في التسلسل يقدم الهوامش على الأولويات؟


يستدعي عبد الجسد قطيعاً من المزمرين من ذوي الخبرة بضبط quot;العجماواتquot; ويصدر قانون النشر والكتابة، يغلي بجانبه المرجل فمن نكثه رمي به في سوائه. عبد الجسد لا يفكر بالانتخابات ولا هي شغله الشاغل، فالحكم من أملاكه، والسلطة مطية له ورثها من أجداده، وما يقال غير ذلك quot;نعلمه، زمرة من أعداء شعبنا ومنجزاتهquot; يصرح عبد الجسد ملتصقاً بالكرسي إلى الأبد.


عبد الجسد يروض الشعب: سلطتنا رضيعة، وعهدنا جديد في الركوب، والأعداء متربصون، والمؤامرات على الخط، وبعد سنين تتحول المدينة إلى جنة عدن، ويفي بعهده إذا عاهد او وعَد. العوائل لم تزل تختنق بالغاز لا تملك ما تقيها من الثلج والبرد.


عبد الجسد يروض جسده، صورته على التلفاز يستقبل ويستدبر، وعلى الجريدة يستكبر ويستبشر، وفي الليل على الأرآئك يتمدد هانئاً منتعضاً فحولا: يمسك أردافها يعتليها كما يعتلي الوطن يدقُ.. يدقُ حتى يسترخي في نوم عميق في حضنها: لا يبالي بالطفلة التي ماتت من الجوع، والمواطن الفاقد للقمة البقاء، وتلك التي حولها الفقر إلى مومس يزورها المسئولون بين فينة وأخرى يلقونها دروساً في الوطنية، وذلك الذي قضى نحبه تحت التعذيب في السجن. في الصبح توقظه عشيقته تضرب على خلفيته العارية: قم، الأخبار تقول إن الأمطار أغرقت نصف الأحياء في المدينة ليلة أمسٍ، عبد الجسد يشخر، مازال نصف مستيقظ، فيضحك ظاناً أنها تداعبه حيث أصاب وابله ربوتها في الليل. تمسد العشيقة خلفها إذْ تألّمت.


عبد الجسد يحب جسده كثيراً، ويتحسر أنه يتقدّم في العمر بسرعة، فهو يهوي مشدوداً للبقاء ملتذاً بشهوة الجسد: قصرٌ وكرسيٌ وخدمٌ ومطبخٌ وإعلامٌ وسريرٌ ومالٌ أين حلّ وأين ذهب.


لم يُصدر بعد قانون يحاسب عبد الجسد وأزلامه أين أخذوا الأموال وأين صرفوها، لأن عبد الجسد هو نفسه يصنع القانون ويمرره حتى ولو رفضه الشعب.


عبد الجسد ليس قلقاً كثيراً فمسار السياسة لم يزل موافقه، ولو بدى شئ من الضجر لن يبدل النعمة بالنقمة. أفواج من البشر ساكتون خرجوا من السجن وجلودهم أرشيف كبير للتعذيب في الزنزانة، لم يفتحوا بعد أفواههم: غداً سيفتحونها يفاجئون عبد الجسد على التلفاز فيختفي عن الأنظار مثل جرذٍ كي لا يجرّ إلى المحكمة، ويصبح مطلوباً لدى العدالة يبحث عنه الشعب الذي كان يدعي عبد الجسد أن ولائهم رهنٌ لسلطته. عبد الجسد يتكرر في كل زمان ويتقمص من كل جسد ظالم. مازال رغم الافتضاح منصوراً من قبل المثقف الخانع، وهو منه مُسدّد.
عبد الجسد يرى نفسه زعيماً خالداً ليس مثله في القوم أحد. خياله واسع لو حدث الانقلاب، نعود أدراجنا إلى البلد الجار، أو نبحر بعيداً حيث تتكدس الخزائن والأموال والمجوهرات.


عبد الجسد سياسيٌ ماهر، محلياً فقط، فهو خبير بشئون إدارة الأبقار والعجول. خاض عقوداً من الدم والجريمة وشكّل حزبه فروعاً لحقوق الانسان، توزع مبادئ حقوق الجماعات والقوميات على الجماهير وهي تضحك في البيوت على عبد الجسد وحاشيته من الأجساد/الوحوش.
عبد الجسد تخطى القانون وضرب به عرض الوطن وجدار الجماجم (قُتلوا في الحرب الداخلية التي فُرضت على شعبنا، كان قدراً يقولها عبد الجسد بصوت خافت) فعيّن كل قريب وكل عضو جسدي في العائلة حكاماً مطلقين في السلطة والمال والرحلات والرفاه المبدد.
جريدة الحزب تصمت وتلفاز الحزب يصوم وإعلام الحزب يتنصل من الجرائم التي لا تتستر على نفسها من الافتضاح، فالقوة شديدة لا تبالي بمن يعترض، فليمت من لا يرضى بحكمي يعلن عبد الجسد.


منذ عقود وسيادته يجلس على كرسي الزعامة لم تبدله الديموقراطية، لكنه بدل السجناء بالكهرباء، وأقام لهم الزينة والوشم على الأجساد: قلع الأظافر، دروس في تعليم الرقص بالصعقات، ومن ثم اللواطة (شهوة الجسد) يتباهى ضاحكاً حرّاس عبد الجسد.
منذ تسع سنين لم ير نور الشمس تحت أقبية الزنزان، حين زار وفد الصليب الأحمر حملوه بعيداً بسيارة الإسعاف ( مفقود الحرب كما أخبروا عائلته). بعض السجناء خرجوا أشكالاً أخرى غير التي دخلت: يتباهى الإعلام الجسدي، يضيفه إلى قائمة إنجازات عبد الجسد يطلق سراح سجناء سنين طويلة بمناسبة العيد: أيّ عيدٍ والبؤس ينزل على الرؤوس يهدد بالوعيد؟

عبد الجسد وسيم الطلّة منتفخ الوجنتين تحمرّ، وأسنانه تبرق البياض حين يبتسمُ. يطل على شرفة قصره فوق الجبل يرمي الأنظار نحو المدينة، غطاها الغبار وسعة السماء، ينتشي الزهو والسعادة ويمتطي صهوة البلد. يستفيق فوراً كأن سهماً مخيفاً مرّ في خياله السارح: المدينة تئن تحت الكوارث والناس ينشدون الحزن والشكوى فهل يبقى الكرسي سليم القوائم؟ لكنه يتماهى في الجري. الوقت متأخرٌ للتدارك والإصلاح هاجر، لم يعد له مقام. يتحسر الزعيم أن الأمر فلت من عقاله. تذكّر عقله بعد إتيان شهواته.

عبد الجسد يهضمنا جميعاً في ذاته ويقتل الروح والعقل كي لا نستفيق، ليستمر ممتعاً بشهوة الجسد. إتخذ من الإعلاميات والسكرتيرات خليلاته.
يزور البرلمان وحرارة التصفيق تتماوج مع ضحكته، نافشاً ريشه، يتحدث عن قانون التدوين والكلام. عبد الجسد رغم الكوارث يطلب المديح (أناشيد قومية) تلبلب حول جسده.


من قال بغير ذلك سيدخل لا مفر زنزانته. نواب البرلمان الجبناء ململمي الدولار فوق رصيف شهوات عبد الجسد لا يزورون الزنزانة لمعرفة أهوال الشعب. فحظوظ الشعب صارت في حساباته.


ليس فيهم من يقوم لعبد الجسد ليخبره عما ليس خافياً على (جسادته) من ظلم وفحش وجرائم.
لا أحد يبالي، فالكل يعرف المجرم الحقيقي لكن عبد الجسد يزيد سرعة الجري فلا أحد يصده، وطاب له الجري يتقلب بمتعة قليلة في البلد
وجزائه اللعنة ــ كما يفعلها الشعب مع الحكام ــ إلى الأبد...
وتدوم مسرحية البؤس على الشعب وفي ذاته!

علي سيريني