ـ اليسار يقود بطبيعته إلى الخيبة ـ
quot; اليسار والخيار الإشتراكي..quot; إسم لكتاب صدر حديثاً في فلسطين للكاتب الشيوعي المخضرم السيد داود تلحمي، يبحث فيه أسباب انهيار الإتحاد السوفياتي، كما يراها، فيقول أنه بالرغم من النجاحات الكبرى التي حققها السوفييت خلال العقود الخمسة الأولى من عمر الثورة إلا أن ذلك لم يستمر.. quot; حيث شهد الإقتصاد السوفييتي تباطؤاً في الستينيات رافقه جملة من الاحتقانات في مجالات إنتاجية معينة، مثل الصناعات الخفيفة الإستهلاكية، لعوامل وأسباب مرتبطة إلى حد كبير بالمركزية الشديدة لعملية الإنتاج، بما في ذلك من خلال غياب الإستفادة السريعة من التقنيات والاكتشافات العلمية الجديدة.. التي كانت تتم على أيدي علماء في الإتحاد السوفياتي وكانت تجد طريقها إلى التطبيق في الدول الرأسمالية المتطورة quot;. ويقول أيضاً.. quot; هذا التباطؤ في النمو في الإتحاد السوفياتي فاقمته جملة من الظروف الداخلية والضغوط والهجمات الخارجية والتحديات على المستوى العالمي، خاصة مع تصعيد سباق التسلح من قبل الولايات المتحدة في الثمانينيات عبر مشروع تسليح الفضاء المعروف باسم حرب النجوم إلى جانب تبعات وانعكاسات إرسال القوات السوفياتية إلى أفغانستان منذ أواخر العام 1979 وكذلك تراجع أسعار عدد من المواد الأولية وتحديداً النفط.. وهو أحد مصادر العملة الصعبة الضرورية للتجارة الخارجية quot;. ـ إلى هنا نكتفي بالاقتباس من كتاب رفيقنا الشيوعي المخضرم السيد داود تلحمي، وهو ما يهمنا بالدرجة الأولى.
ما كنت لأعلق على هذا الكلام الوصفي الدقيق إلى حد بعيد لو صدر عن صحفي يحاول أن يكتب لصحيفته تقريراً خاصاً عن أسباب انهيار الإتحاد السوفياتي بل لربما أثنيت على مثل هذا الصحفي. أما أن يدبجّه شيوعي quot; ماركسي quot; يبحث في أسباب انهيار مشروع لينين فذلك شيء غير مقبول أبداً ويلحق ضرراً بالغاً بمحاولات إحياء الحركة الشيوعية التي لن تحقق أي نجاح قبل الإدراك التام للأسباب الحقيقية التي كان لها الأثر الحاسم في انهيار الثورة الإشتراكية على الصعيد العالمي وتفكك الإتحاد السوفياتي بالتالي ـ ما يشتت الحركة الشيوعية اليوم ليس إلا الخلاف حول أسباب انهيار مشروع لينين المتمثل بالثورة الإشتراكية وقيام الإتحاد السوفياتي ولذلك ترى التجمعات المختلفة لبقايا الشيوعيين تنأى بنفسها عن البحث عن أسباب الإنهيار حتى وهي، هي نفسها، أسباب استمرارهم. ثمة مجرمون تسببوا بهذا الإنهيار لكن الذين يغطون على هؤلاء المجرمين ويشيرون بأصابع الإتهام إلى جهات أخرى لن يكونوا أبرياء من تبعات تلك الجريمة الكبرى بحق الإنسانية.
كيما يكون المرء ماركسياً حقيقياً عليه بالدرجة الأولى أن يقر مقدماً بالقاعدة الذهبية في علوم الماركسية التي تقول أن محرك التاريخ هو الصراع الطبقي. أعتقد جازماً أن رفيقنا الشيوعي داود تلحمي يقر دون تردد بأن نجاح البلاشفة في انتفاضة أكتوبر 1917 إنما كان وليد صراع طبقي حاد. لكن مثل هذا الإقرار يستتبع بالضرورة سؤالاً على الرفيق داود أن يجيب عليه بعيداً عن تقييم كتابه المشار إليه أعلاه وهو.. كيف تقوم الثورة الإشتراكية في غمرة صراع طبقي حاد وتنهار أخيراً بعيداً عن أي صراع طبقي؟ ألم يعلمنا ماركس أن عربة التاريخ لا تتقدم أو تتراجع بوصة واحدة بغير تشغيل محركها الذي هو تحديداً الصراع الطبقي؟! كيف لرفيقنا، الذي نحب ونحترم، أن يحمل كتابه هذا الذي لم يشر فيه لأي صراع بين الطبقات في المجتمع السوفياتي بيمينه ثم ينظر بعيني المعلم كارل ماركس دون إحساس بالذنب وبالخجل؟! ـ تفادياً لمثل هذا الحرج الذي لن يحتمله ماركسي حقيقي فإننا ننصح الرفيق داود بالإسراع في الإعتراف العلني بالتقصير غير المقصود في تجاهل الصراع الطبقي.
فات رفيقنا داود حقيقة لا مراء فيها وهي أن الإشتراكية لا يتخللها على الإطلاق أية أزمات بنيوية كما في النظام الرأسمالي. فالإشتراكية ليست نظاماً للإنتاج يؤطره علاقات إنتاج ثابتة ؛ الإشتراكية بتعريف لينين إنما هي quot; محو الطبقات quot;، كل الطبقات بما فيها طبقة البروليتاريا، فكيف والحالة هذه تعاني الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي تباطؤاً في الإنتاج واحتقانات في مجالات إنتاجية معينة كالصناعات الخفيفة الإستهلاكية؟! الأزمة الدورية في النظام الرأسمالي تنجم أصلاً عن التناقض بين قوى الإنتاج المتنامية باستمرار وعلاقات الإنتاج الثابتة وغير المتغيرة ؛ أما الإشتراكية ـ ولا أقول النظام الإشتراكي ـ فلا تؤطرها أية علاقات للإنتاج طالما أنها تحديداً محو الطبقات، فقط لا غير. لكن لماذا تعاني الصناعات الإستهلاكية من شح فاضح ويصطف السوفياتيون في مئات الطوابير لاقتناص قطعة من اللحم أو شراء حبات من البطاطا أو في طابور السراويل أو طابور شفرات الحلاقة بينما في المقابل فوق رؤوسهم بعيداً في السماء هناك مئات الأقمار الصناعية من صناعة العمال والمهندسين السوفييت، الجوعى وفي أسمال بالية، تدور في أفلاكها حول الكرة الأرضية. ألا يستحق هذا التباين المريع من الكاتب أن يتساءل حقاً فيما إذا الإشتراكية كانت ما تزال قيد التحقيق في تلك الأثناء؟!
يعتقد السيد تلحمي أن اضطرار الإتحاد السوفياتي إلى الدخول في سباق التسلح مع الولايات المتحدة الأميركية هو ما أفقر الشعوب السوفياتية إلى درجة استغنت عندها هذه الشعوب عن الإشتراكية!! عجيب مثل هذا المنطق المتهالك كيف يمر على أناس ذوي باع ليست قصيرة في البحث وفي التفكير. لنفرض أن هذا السباق كان له ما يبرره، فلماذا تغامر القيادة السوفياتية بمصيرها وقد غدا على حافة الإنهيار بسبب التسلح، باعتراف خروشتشوف، وتستمر مع ذلك في التسلح لحماية المصير إيّاه؟! لا يستوي هذا مع الغرائز الحيوانية عداك عن العقل الإنساني. الطغمة السوفياتية فيما بعد ستالين استخدمت حجة حماية السلم العالمي بوساطة التسلح كستار تخفي خلفه الصراع الطبقي الحاد بين البروليتاريا من جهة والطبقة الوسطى من جهة أخرى، وهو ما اعترف به خروشتشوف بعد إقصائه من الحكم. المقولة الشائعة هي أن الأمريكان أرغموا السوفيات على الدخول في سباق التسلح بهدف وقف التنمية في الإتحاد السوفياتي ويستندون بذلك إلى مقولة بهذا المعنى للسياسي الأميركي الموغل بالحقد على الإشتراكية زبيغنيو بريجينسكي. القادة السوفيات ليسوا قطيعاً من الأغبياء ليسوقهم الأمريكيون إلى حتفهم. هذا ليس صحيحاً على الإطلاق؛ كان الأمريكان يصيحون دورياً بأعلى صوتهم محتجين ضد وتائر التسلح المتسارعة في الإتحاد السوفياتي؛ وكانوا يؤكدون وبحق إلى أن كل الإقتصاد السوفياتي مسخر للتسلح. ما تكشف بعد انهيار الإتحاد السوفياتي أن ترسانة الأسلحة السوفياتية تساوي عشرات المرات لمجمل الترسانة الغربية، ترسانة الولايات المتحدة بالإضافة إلى الحلف الأطلسي. وهذا ما تكشف عنه بوضوح اتفاقيات نزع أسلحة الدمار الشامل والحد من الأسلحة التقليدية. ثم لو اقتصر الأمر على مجرد مسابقة الولايات المتحدة كما يزعم لما رأينا الأسلحة السوفياتية تملأ العالم وتبيع الطغمة الحاكمة السوفياتية في السبعينيات أسلحة بعشرة مليارات دولاراً سنوياً، وتتبرع بمليارات أخرى بحجج سياسية. لقد باعت هذه الطغم كل عشرة بنادق بدولار واحد فقط!! إزاء مثل هذه الصورة غير الإشتراكية بل وغير الإنسانية، لماذا لم يتساءل الكاتب حول طبيعة النظام الذي ينتج كل هذه الأسلحة، هل هكذا هي الإشتراكية؟! وللمقارنة ليس إلاّ، نشير إلى قيام ستالين كل عام ما بين 1933 ـ 1937 بشطب كل زيادة في موازنة القوات المسلحة، وكان يعلق مبرراً الشطب أن كل كَبيك يصرف على التسلح يعيق التقدم الإشتراكي. إصرار ستالين على الحد من الإنفاق العسكري دفع بالماريشال توخاتشيفسكي وعصابته من الضباط في القيادة إلى محاولة القيام بانقلاب عسكري ضد الحزب والدولة في العام 1937.
من أغرب ما أتى به الرفيق تلحمي في استعراض أسباب انهيار الإتحاد السوفياتي هو إدعاؤه بأن ما سماه الاحتقان في الصناعات الخفيفة الإستهلاكية إنما عائد للمركزية الشديدة في عملية الإنتاج وهي ذات الحجة التي يسوقها أنصار النظام الرأسمالي وأعداء الإشتراكية بالزعم أن افتقاد المبادرة الحرة (Free Enterprise)هو ما سينهي الإشتراكية، ولا أحسب الكاتب انزلق واعياً في هذا المنزلق. منطق الأشياء يقول العكس تماماً حيث أن المركزية في التخطيط الإقتصادي من شأنه تلافي أية احتقانات بين فروع الإنتاج. لماذا لم يشطب أولو الأمر في الخطة الإقتصادية الجزء الأعظم من موازنات التسلح المتورمة طيلة فترة التراجع الطويلة (1954 ـ 1990) ليخصصوها بالمقابل لإنتاج المواد الإستهلاكية؟ المسألة ليست ناجمة عن سوء تخطيط بل العكس هو الصحيح. كان التسلح هو المركب الوحيد الذي يحمل أعداء الإشتراكية من الطبقة الوسطى، والعسكر في الطليعة، من شاطئ الإشتراكية إلى الشاطئ المقابل، شاطئ إقتصاد الطبقة الوسطى غير الإقتصادي وغير الإنتاجي، شاطئ العداء للإشتراكية. وليس أدل على ذلك من أن الحثالات في قيادة الحزب quot;الشيوعيquot; السوفياتي هي نفسها التي فككت الإتحاد السوفياتي واستقل كل فرد فيها بإحدى جمهورياته الستة عشر دون أن يخجل بعدئذٍ من إطلاق مقولات معادية للشيوعية من مثل غورباتشوف وهو قائد الحزب الشيوعي المعادي للشيوعية كما عبر عن ذاته فيما بعد، ويلتسن رئيس روسيا، وشفرنادزه رئيس جورجيا، وعلييف رئيس أذربيجان، ونزارباييف رئيس كازاخستان، وكريموف رئيس أوزبكستان، ونيازوف رئيس تركمانستان. جميع هؤلاء كانوا قادة الحزب quot; الشيوعي quot; السوفياتي؛ وإزّاء مثل هذه الحقيقة القاطعة لا يسعنا إلا التسليم بأن من فكك الإتحاد السوفياتي هو قيادته، قيادة ما كان يسمى بالحزب الشيوعي، وليس ما قد يتبادر لذهن البعض بأن الشعوب هي التي نهضت ضد الإشتراكية. لو كانت الشعوب هي من نهض ضد النظام المتراجع عن الإشتراكية لما رأينا هؤلاء الحثالة هم الذين ظلوا رؤساء جمهورياتهم بعد الإنهيار. وأكاد أكون على ثقة تامة بأن المخابرات السوفياتية هي من كان وراء الإنهيارات المتلاحقة في ألمانيا الديموقراطية وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا وبلغاريا وبالتالي وراء انهيار الإتحاد السوفياتي. وليس ثمة من شك في أنها هي التي كانت قد قامت بانقلابين رجعيين قبل ذلك بسنوات طويلة، في الجزائر عام 1964 بقيادة بومدين ضد الماركسي آنذاك بن بلاّ، وفي سوريا عام 1970 بقيادة حافظ الأسد ضد الجناح الماركسي في حزب البعث.
شكا خروشتشوف في الفقرة الأخيرة من مذكراته(Khrushchev Remembers) من سطوة العسكر، وأكد أن أكبر رأس في الحزب لا يستطيع الوقوف بوجه العسكر وتجاهل أوامرهم، وأنه إذا ما استمر الحال على ما هو عليه فإن الإتحاد السوفياتي سيفقد سرواله وتتكشف عورته في وقت قريب، وهو ما حدث فعلاً. ما لم يقله خروشتشوف هو أنه ما كان ليقول هذا لولا أنه هو نفسه كان قد تواطأ مع العسكر وخضع لأوامرهم وقام بانقلابي قصر الأول عام 1954 حيث أزاح مالنكوف ليحل محله والثاني في عام 1957 حيث قام بطرد جميع البلاشفة من المكتب السياسي للحزب ـ في العام 1954 طالب مالنكوف الذي شغل مركز ستالين بعد وفاته، طالب بخفض النفقات العسكرية فكان أن تعاون خروشتشوف مع العسكر وأزاحوا مالنكوف ليحل محله خروشتشوف نفسه. وفي حزيران 1957 سحب المكتب السياسي للحزب الثقة من خروشتشوف الذي كان عليه أن يستقيل من كافة مناصبه لكنه بدلاً عن ذلك استنجد بالمارشال جوكوف رئيس الطاقم العسكري والمرشح لعضوية المكتب السياسي؛ فكان أن أمر المارشال جوكوف بإحضار مئات الأعضاء في اللجنة المركزية، خلافاً لقواعد الحزب التنظيمية، بالطائرات الحربية خلال 24 ساعة. اجتمعت اللجنة المركزية دون دعوة من أحد وأبطلت قرار المكتب السياسي وأسقطت عضوية جميع البلاشفة من المكتب السياسي (مالينكوف، مولوتوف، كاغانوفتش، شبيلوف، فورشيلوف، بولغانين) وثبتت خروشتشوف في مركزه. كل ذلك تم في اجتماع غير شرعي للجنة المركزية وبتآمر مفضوح من العسكر. في نوفمبر من ذات السنة طرد خروشتشوف المارشال جوكوف من جميع وظائفه في الجيش وفي الدولة (وزير دفاع) وفي الحزب (عضو مكتب سياسي ـ تم ترفيعه مكافأة على المؤامرة) وقد خشي أن يقوم جوكوف بالتآمر عليه وإزاحته كما فعل مع رفاقه وفق ما أعلن رسمياً. وفي العام 1964 وإزاء مطالبة خروشتشوف أخيراً بخفض نفقات التسلح من أجل معالجة quot;التباطؤ الإقتصاديquot; المشار إليه بعد أن لم يعد يحتمل التأخير، ومن أجل استعادة الحزب للقرار الوطني من العسكر، قام العسكر بإنقلاب سريع عليه متعاونين هذه المرة مع شريكه في التآمر بريجينيف وأزاحوه من كل مناصبه ـ كيف لأمين عام الحزب أن يزاح بدون اجتماع للجنة المركزية التي انتخبته!! ألم يغدو الحزب ألعوبة بأيدي العسكر وأزلامهم في قيادته؟ وهل يمكن القول بعد كل هذا أن القرار الوطني كان ما يزال في يد الحزب؟ أو أن الإتحاد السوفياتي كان يسابق الولايات المتحدة في التسلح؟؟
ويتوقف رفيقنا الكاتب في محطتين أخريين باعتبارهما من محطات انهيار الاتحاد السوفياتي أولاهما هي التدخل المكلف في أفغانستان. وللإيضاح نقول أن الإتحاد السوفياتي الذي كان يجيّش أكثر من مائتي فرقة ما كان ليتأثر بإرسال فرقة واحدة إلى أفغانستان حتى وإن تكبدت الفرقة حوالي عشرة آلاف قتيل خلال أكثر من عشر سنوات أنفقت خلالها السعودية وحدها أكثر من 50 ملياراً من الدولارات أي أنها كانت تنفق خمسة ملايين دولاراً بالإضافة ربما إلى مقتل خمسين إرهابياً لتقتل جندياً سوفيتياً واحداً. ما كان ذلك ليؤثر في الدولة السوفياتية التي كانت قد خسرت في معركة واحدة، هي تحرير وارسو من الهتلريين، حوالي نصف مليون جندياً سوفييتياً دون أن يفتّ ذلك في عضدها وتستكمل انتصاراتها حتى في برلين ذاتها. غير أن الحرب في أفغانستان لم تكن تتسق وطبيعة الثورة الإشتراكية المفترضة. الحكومة الأفغانية الجمهورية الأولى برئاسة محمد تراكي لم تكن بحاجة لأية مساعدة عسكرية للحفاظ على أمنها الداخلي إلا أن الصينيين تواطئوا مع الضابط حافظ الله أمين الموالي لهم في قيادة الجيش الأفغاني وقاموا بإنقلاب عسكري بقيادته فكان أن تدخلت عصابة بريجينيف ليس لحماية الثورة بل للانقلاب عل حكومة أمين وقتله وتنصيب أحد الموالين لها وهو بابراك كرمال وقد حدث ذلك مباشرة بعد وصول القوات السوفياتية إلى كابل. لذلك كانت الحرب في أفغانستان التي تنفخ فيها القيادة الصينية ولو من بعيد مرهقة لأنها بلا معنى بالإضافة إلى التراجع الإقتصادي المعروف.
أما المحطة الثانية التي توقف فيها الكاتب فهي انخفاض سعر البترول الذي يوفر لخزينة الدولة حاجتها من الدولارات كما يقرر الكاتب. لا أدري كيف لكاتب ماركسي أن يفترض مثل هذا الإفتراض الغريب تماماً على الفكر الإشتراكي. صحيح أن الحكومة السوفياتية في العشرينيات والثلاثينيات كانت تصدر القمح لأوروبا من أجل استيراد المصانع والتكنولوجيا الغربية نظراً لأن روسيا القيصرية كانت أضعف المراكز الرأسمالية، لكن الإتحاد السوفياتي في الخمسينيات أضحى يسبق أوروبا الغربية وإنكلترا في الصناعة وفي التكنولوجيا. بل إن الصناعات والتقنيات السوفياتية كانت متقدمة على الصناعات والتقنيات لألمانيا النازية في معترك الحرب عندما كانت جيوش هتلر على بعد 20 كيلومتراً من موسكو. استطاعت الشعوب السوفياتية من سحق ألمانيا النازية المسلحة حتى الأسنان (1941ـ1945) وأن تعيد إعمار بلادها إلى أفضل مما كانت عليه قبل الحرب (1945ـ1950) وأن تسبق الولايات المتحدة الأميركية في قمة الصناعات التكنولوجية وهي غزو الفضاء (1957) وقد تم كل ذلك وهي في حالة حصار تام كما يكون الستار الحديدي ودون أن تصدر البترول أو الفحم الحجري إلى البلدان الرأسمالية. ثم محظور على الدولة الإشتراكية أن تصدر أي شكل من أشكال الطاقة حيث أنها الدعامة الرئيسة لتطوير قوى الإنتاج ووسائل الإنتاج. لم يصدر الإتحاد السوفياتي النفط والغاز والفحم الحجري قبل الستينيات إلا إلى الدول الإشتراكية في أوروبا الشرقية وبأسعار رمزية مساعدة لها في تطوير إقتصادها ـ ولنا أن نذكر في هذا السياق مطالبة نقابة عمال الفحم الحجري في بريطانيا بقيادة الشيوعي آرثر سكارغل للحكومة السوفياتية بوقف صادراتها من الفحم الحجري إلى بريطانيا (1984) مساعدة للعمال في الانتصار لإضرابهم وتحقيق مطالبهم في عدم الصرف من العمل. لكن العصابة الحاكمة في الكرملين زادت من صادراتها ومكنت المرأة الحديدية، مسز ثاتشر، من تجاوز الإضراب وبالتالي تحطيمه كما كانت قد وعدت بلؤم رأسمالي متوحش وإنزال أقسى ضربة بالطبقة العاملة البريطانية التي ما زالت تعاني منها حتى اليوم ـ وقد عوضت الزمرة الحاكمة السوفياتية عائلات العمال المطرودين من أعمالهم برحلات ترفيهية في الإتحاد السوفياتي لتنسيهم فقدانهم لخبزهم اليومي!!
لاحظ الكاتب بحق الفجوة الواسعة بين المستوى العلمي للعلماء السوفييت وإبداعاتهم المتفوقة من جهة وما تعانيه الصناعات المدنية من تخلف تقني من جهة أخرى. لكن الكاتب لأسفنا الشديد لم يعلل ذلك على الرغم من أنه كان يجب أن يكون بقعة الضوء في نهاية النفق المظلم الذي وجد الكاتب نفسه فيه. كان على الكاتب أن يتساءل.. لماذا تتقدم الصناعات العسكرية السوفياتية متفوقة على الصناعات العسكرية في العالم بما في ذلك الولايات المتحدة بينما تعاني الصناعات المدنية من تخلف ملحوظ؟ ليس لمثل هذا التساؤل من جواب سوى أن القرار الوطني في الإتحاد السوفياتي كان قد أمسى بيد العسكر وأن حصة البروليتاريا من الكعكة الوطنية باتت حصة هامشية، وهذا هو الدلالة الواضحة على الصراع الطبقي الحاد وقد أخذ يميل لصالح العسكر منذ رحيل ستالين. والسؤال المفصلي والحاسم الذي على الكاتب وكل الذين يحارون في مسألة انهيار الإتحاد السوفياتي أن يجيبوا عليه هو.. هل يجوز تصور العسكر، مجرد التصور، يقودون رحلة عبور الإشتراكية نحو الشيوعية؟؟ ـ ما زال العسكر هم الذين يمسكون بالسلطة في روسيا حتى اليوم، وقرارات الحكومة الحالية الأخيرة حول تجديد الترسانة الروسية وتطوير التقنيات العسكرية والانسحاب من معاهدة الحد من الأسلحة التقليدية إنما هي خير دليل على ذلك. روسيا اليوم لا تصادق إلا من يشتري سلاحها. باع العسكر بنات روسيا الجميلات إلى أمسخ العلوج في أسواق الرق وما زالوا يصرون على التنمية العسكرية دون أن يجرؤوا مع ذلك على الدخول في أية حروب تقليداً لعساكر أمريكا على الأقل!!
لا أختلف مع رفيقنا الشيوعي المخضرم داود تلحمي في أسباب انهيار المشرع اللينيني فقط بل إن خلافنا يتعدى ذلك بكثير حتى يصل إلى أسس العلوم الماركسية مثل المادية التاريخية والإشتراكية العلمية، اشتراكية ماركس وإنجلز. فها هو يتحدث في نهاية الكتاب عن.. quot; آفاق اليسار في القرن الجديد والسمات التي يفترض أن تتوفر لديه من أجل توفير شروط بناء اشتراكية من نمط جديد (!!) ذات طابع ديموقراطي شعبي فعلي وليس شكلياً، اشتراكية تجمع ما بين الحقوق والضمانات الإجتماعية، والحقوق والحريات الديموقراطية بالمفهوم الشامل والعميق لهذه الكلمة quot;. ليس للمرء أن يستغرب المفاهيم السابقة لماركس وإنجلز لدى رفيقنا الشيوعي المخضرم غير الماركسي فبالأمس فقط قابلت أحدهم وهو الأقدم والأعرق في الحركة الشيوعية العربية ومن قادتها سابقاً وإذ به ما زال يخطب خطاب حركة التحرر الوطني، لا يختلف عن خطاب حركة فتح الفلسطينية، وليس له أدنى علاقة بماركس والماركسية بل أكثر من ذلك فإنه يجهل تماماً التاريخ الأعرض لمشروع لينين والحزب الشيوعي البولشفي. وهنا أقول لرفيقنا المحترم داود تلحمي أنه لا يجوز بحال من الأحوال أن يتنطح أحدهم لنقد التجربة السوفياتية دون أن يدرس بدقة تاريخ الإتحاد السوفياتي والحزب الشيوعي السوفياتي، وإلا فكيف لامرئ أن ينتقد عملاً لم يدرسه مقدماً؟
كثيرون من أمثال الكاتب داود تلحمي وابراهيم نقد الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني يعودون اليوم وبعد أن أحبطوا كليّاً من خلال انهيار المشروع اللينيني ـ وقد ساهموا هم أنفسهم في الإنهيار ولو بمقدارـ يعودون إلى اشتراكية ما قبل ماركس الذي أخذوا يشكون فيه وفي القادة السوفييت الذين اهتدوا بهديه وخاصة ستالين والبعض منهم مثل كريم مروه يجرّم لينين. يعودون اليوم لبرودون وفورييه ولاسال وأوين ويتجرأ المدعو ابراهيم نقد على اعتبار ماركس مثله مثل هؤلاء الإشتراكيين السابقين له! ونحن الآن أمام كاتب يعلق آماله على اليسار العالمي ليحقق له اشتراكية ليست كالاشتراكية التي عرفها في الإتحاد السوفياتي، quot; اشتراكية من نمط جديد quot; quot; ذات طابع ديموقراطي شعبي quot; quot; اشتراكية تجمع ما بين الحقوق والضمانات الإجتماعية والحقوق والحريات الديموقراطية quot; ـ إنني إزّاء مثل هذا الكلام الرث أبدي أسفي الشديد وأعتذر مقدما من الرفيق المخضرم داود تلحمي فأقول له بأنه وابراهيم نقد لم يدركا بعد خمسين عاماً من الإلتزام العلني بالنهج الماركسي الأعمدة الأساسية من العلوم الماركسية، كما لم يفهما بعد أي مفردة من مفردات الاشتراكية، الإشتراكية العلمية الماركسية التي لا اشتراكية غيرها.
أقول لرفيقنا المخضرم بداية أن الإشتراكية ليست نظاماً إجتماعياً على الإطلاق إنما هي مرحلة قصيرة نسبياً تعبر خلالها الأمة من النظام الرأسمالي إلى الشيوعية. النظام الرأسمالي هو آخر نظام تعرفه البشرية فلا الإشتراكية نظاماً ولا الشيوعية نظاماً طالما لا يؤطر أياً منهما علاقات إنتاج ثابتة. الاشتراكية وهي مرحلة عبور إلى الشيوعية يتم فيها محو الطبقات كما أكد لينين، أي إلغاؤها نتيجة لإلغاء نمط الإنتاج الخاص بكل منها. ولذلك فالديموقراطية الإشتراكية ليست كالديموقراطية البورجوازية التي في مخيلة السيد تلحمي وهي أرفع أشكال الديموقراطية وآخرها أيضاً. ليست هناك اشتراكية بدون دولة دكتاتورية البروليتاريا التي تتعمق في ظلها الديموقراطية بمقدار ما تنجح البروليتاريا بإلغاء الطبقات غير البروليتارية بل وإلغاء البروليتاريا ذاتها في نهاية المطاف. وهنا أستطيع أن أطمئن الكاتب وكل المشككين في التجربة السوفياتية بإدارة ستالين أن الديموقراطية حينذاك لم يعرف العالم مثيلاً لها في العمق وفي الرقي. يتوقف المشككون بتلك الديموقراطية عند محاكمات الخونة أعداء الاشتراكية آنذاك، لكن هذا دليل على عمق الديموقراطية وليس على غيابها كما يزعم البعض. الديموقراطية البورجوازية تسمح بحدود ضيقة للبروليتاريا أن تعبر عن ذاتها لأنها بدون ذلك تعدم النظام الرأسمالي نفسه وهو النظام الذي يقوم أساساً على استغلال البروليتاريا؛ فكيما يكون هناك رأسماليون لا بد أن يكون هناك بروليتاريا متعايشة معهم أيضاً. بخلاف الاشتراكية الشيوعية حيث لن يكون هناك اشتراكيون طالما هناك رأسماليون وبورجوازيون وحتى فلاحون.
يلاحظ المرء شيوع التعبير بمفردة quot; اليسار quot; بعد انهيار المعسكر الإشتراكي الذي عكس ظاهرياً خللاً في مفهوم الإشتراكية. ولما كانت الإشتراكية هي أسلوب حياة البروليتاريا حصراً وهي المعبر الذي لا تعبره إلا البروليتاريا وهي تقود شعوبها؛ فلا بدّ والحالة هذه أن يكون لليسار المختلف الدلالة عن البروليتاريا أن يكون له إشتراكية مختلفة عن الإشتراكية البروليتارية التي بناها ستالين في الإتحاد السوفياتي، بل ثمة من يوغل في الانحراف فيدعي أن الإشتراكية الستالينية ليست هي الاشتراكية الماركسية. الذين يستخدمون مفردة quot; اليسار quot; معنيون بداية بتغييب طبقة البروليتاريا عن موضوعهم وهم يستدلون باليسار على البورجوازية الوضيعة وخاصة طبقة الإنتلجنسيا التي تخطب دائما في موضوع ما يسمى بالعدالة الإجتماعية مستثنين البروليتاريا دائماً. اليسار في أمريكا اللاتينية هو من هذا الصنف، ومثل هذا اليسار لن يقود شعوبه إلا إلى الهاوية.
اليساريون يتقدمون صفوف أقرانهم من الإصلاحيين البورجوازيين ويعلو صوتهم لأن مجتمعاتهم ليس فيها بعد طبقة بروليتاريا متطورة وذات وزن. الإشتراكية الشعبية التي يتصورها داود تلحمي لا تتعدى بعض الإصلاحات في توزيع الخدمات العامة وخاصة في التعليم والصحة. لكن الخدمات بصورة عامة لا يمكن إنتاجها بصورة كافية وبسويّة مقبولة دون اعتماد واسع على دعامة قوية من الإنتاج السلعي الذي هو إنتاج البروليتاريا. الأزمة الحادة التي تمسك بخناق الإقتصاد في كوبا منذ سنوات ناجمة عن الفجوة العريضة ما بين الإنتاج الخدمي من جهة والإنتاج السلعي من جهة أخرى. تطوير الإنتاج السلعي لا يتم بحال من الأحول في ظل دولة غير بروليتارية، دولة من البورجوازية الوضيعة كشريحة الإنتلجنسيا وما يسمى باليسار الثوري. تطور الإنتاج السلعي يتم من خلال نمطين من الإنتاج، النمط الرأسمالي والنمط الإشتراكي وهما مستحيلان ليس فقط بسبب علاقات الإنتاج الشاذة السائدة في العالم اليوم بل قبل ذلك بسبب غياب الطبقتين المختصتين بهذين النمطين في مختلف المجتمعات في أمريكا اللاتينية، النمط الرأسمالي الخاص حصراً بطبقة الرأسماليين والنمط الإشتراكي الخاص بطبقة البروليتاريا حصراً. لقد أكد ماركس في كراسته القيمة جداً quot; نقد برنامج غوتا quot; على أن عبور الإشتراكية لا يتم إلا بقيادة دولة دكتاتورية البروليتاريا. وقد تأكد ذلك عملياً فحال أن أعلن خروشتشوف إلغاء دكتاتورية البروليتاريا عام 1959 بدأ البنيان الإشتراكي بالوهن والتراجع حتى انتهى إلى الإنهيار عام 1991. ويجدر في هذا السياق التأكيد على القانون العلمي الذي اكتشفه ماركس ويقول أن عبور فترة الإشتراكية القصيرة بكاملها يقتضي إلغاء الطبقات بما في ذلك طبقة البروليتاريا؛ ولذلك يتعارض تعبير الإشتراكية الشعبية التي يطمح إليها التلحمي مع هذا القانون حيث ينطوي تعبيره على افتراض تواجد طبقات مختلفة في ظل تلك الإشتراكية الموهومة.
وأخيراً نؤكد مرة ثانية وثالثة على أنه لا يجوز لأحدهم أن يتنطح لنقد مشروع لينين بمختلف مندرجاته وانعطافاته دون أن يكون متفقهاً في علوم الماركسية من جهة وعالماً بكل جزيئات وتفاصيل تاريخ المشروع منذ يومه الأول في نوفمبر 1917 إلى يومه الأخير في يوليو 1991 من جهة أخرى.
فـؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01
التعليقات