ما لا تدركه تركيا في صراعها مع كُردستان

السياسة التركية واضحة، واضحة جداً ولم تترك الباب نصف موارب. والسياسة التركية ليست ذات فلسفةٍ غامضة، فالوضوح فيها أكثر جليّاً من حقيقة الساسة الأتراك الحاليين الذين يريدون تثبيت الهوية (الإسلامية) لتركيا، التي خلعها أتاتورك (أبو الأتراك) بدافع عَلماني متغرب، ملقّح بجذور (ماسونية) لسيرة شخصية ذات أصول غامضة.

مايريده الأتراك من الأكراد واضح جداً و(بسيط)، وهو أن يتخلّى الأكراد عن كُرديتهم ونسيان أن هناك شئ إسمه كُردستان، والكفّ عن المطالبة بالحقوق القومية. هذا الطلب لا يقتصر على أكراد تركيا فحسب، بل يتعداه إلى الأكراد في شتى أنحاء العالم أينما كانوا. تركيا لم ترفض الحقوق القومية لأكرادها فقط، وإنما ناضلت كثيراً من أجل منع العراق وإيران من الإعتراف بالوجود الكُردي.


حسب زعم الأتراك ليس هناك شئ إسمه الشعب الكُردي أو قومية كُردية، لا في تركيا ولا في العالم كلّه. ولكن إنشغال دولة تركيا كلّها لمدة ما يقارب قرناً من الزمان بكل إمكانياتها وطاقاتها، في سبيل إثبات نظريتها هذه حول الوجود الكُردي أعاد إلى ذهنها هي، سؤالاً طبيعياً عن مدى صحة إنشغالها بشئ معدوم، وجدوى ذلك وهي تحصد فشلاً بعد فشل: إذا كان الأكراد فعلاً غير موجودين فما كلّ تلك الطاقات التي تهدر من أجل إثبات ذلك؟!
نعم تركيا اليوم لا تقدر إنكار أن هناك أكراد وأنّ لديهم هوية متميزة عن هوية الأتراك. نعم لقد ولّى ذلك الشعار التافه أن الأكراد هم أتراك الجبال، لكن الممارسة السياسية الحالية للأتراك هي امتداد عضوي لجوهر تلك الأمنية التي تختلج في صدور الساسة الأتراك، وانتقلت عدواها إلى الأتراك البسطاء. فالمواطنة التركية التي تدعيها الدولة التركية، على أساس أن الأكراد والأتراك متساوون كمواطنين للدولة التركية، يدحضها الواقع اليومي لممارسة عنصرية شديدة ضد الأكراد من قبل الحكومات التركية كلّها. ولا أدلّ على ذلك تميّز مناطق الأتراك عن مناطق الأكراد بفارق شاسع كالفرق بين دولتين مختلفتين. تتذرع تركيا بحربها ضد ما تسميه بـ ( الإرهاب) في تبريرها لإهمال المناطق الكُردية المحرومة من نبض الحياة ونفخة الحضارة. لكن المناطق الكُردية عاشت الهدوء والسكون منذ أربعينيات القرن الماضي وحتى منتصف الثمانينيات، فماذا قدّمت تركيا للمواطنين الأكراد غير الحرمان والتخلف؟


للمسألة أبعاد وجذور عميقة، منها تأريخية، ومنها إجتماعية وسياسية ذات اتصال وتناغم مع سياسات عالمية في هذه المنطقة.
للأسف غلب العنف والشدة، لأسباب كثيرة منها الصراع الداخلي ومن ثم الإقليمي والعالمي، التأريخ التركي، ليس في مرحلة الجمهورية فحسب بل في التاريخ العثماني بأكمله منذ البدايات الأولى.


قد لا يعجب إخواننا الإسلاميين إستقراء تأريخ المسلمين، لكن الحقيقة لا تبالي إذا كان هناك من يتجاهلها.
توطدت أركان العثمانيين بقانون عرفي يقضي بقتل الإخوة والأقارب خشية النزاع على السلطة. لكن (محمد الفاتح الثاني) حوّل هذا القانون العرفي إلى قانون رسمي وقتل أخاه الرضيع عملاً بالقانون نفسه. وحين ورث (محمد الثالث) السلطة لم يتورع في قتل تسعة عشر أخاً له من لحمه ودمه حفاظاً على أمن الدولة!


هذا النوع من الحساب الأمني، المتصل بعوامل السلطة، ظل قائماً على كل الأصعدة في الدولة، في المرحلتين العثمانية والجمهورية العَلمانية التي أسسها (أتاتورك).
في ما يتصل بكُردستان والأكراد لم تكن علاقة المركز العثماني مع الكينونة الكُردية علاقة رفض، كما كانت الحال في المرحلة الثانية.
العثمانييون حافظوا على علاقة إعتراف بالوجود الكُردي، المتمثل في أماراتٍ كردية بلغ عددها خمسة عشر أمارة.
لكن الصراع بين المركز العثماني مع تلك الأمارات تراوحَ بين المدّ والجزر حسب الظروف الداخلية والإقليمية. والعلاقة نفسها كانت قائمة مع العناصر الأخرى كالألبان والعرب والآخرين.


كان العثمانييون يخافون من (النزعات الكيانية القومية) داخل الدولة. لذلك حين همّ بديع الزمان سعيد نورسي بفتح (جامعة الزهراء) في كُردستان منعه السلطان عبدالحميد الثاني من ذلك.


بعد حوالي قرن من ذلك، وبالتحديد في عام 2002 قامت أجهزة المخابرات التركية باغتيال إثنين وعشرين شخصية قيادية كُردية من جماعة النور، الذين كانوا قد أسسوا مشروع (جامعة الزهراء) لدعم حركة الثقافة والعلم في كُردستان عبر توظيف كافة الإمكانات للطلاب الفقراء من الأكراد. في العام المذكور قضت الدولة التركية على مشروع الزهراء باغتيال هؤلاء القادة رغم أنهم كانوا بعيدين من الكفاح المسلح بل وحتى من العمل السياسي في العموم!


في عام 1984 حين كان السيد جلال طالباني زعيم الاتحاد الوطني الكُردستاني في بغداد يفاوض الحكومة العراقية على مسألة الحكم الذاتي لكُردستان، عاد إلى الجبال فاشلاً في تحقيق ذلك. بعد سبعة أعوام من التأريخ المذكور، أي في عام 1991، حين عاد طالباني إلى بغداد للمفاوضة ثانيةً، أخبره السيد طارق عزيز، وزير الخارجية آنذاك، أن وفداً تركياً حكومياً بقيادة الراحل (توركوت أوزال) كان في بغداد آوان المفاوضات، قادماً من تركيا (لغرض التدخّل بقوّة: التي ضمنياً تلقى القبول من لدن مراكز القوى الإقليمية لمواجهة طموحات الأكراد، وكان ذلك المشترك النادر بين دول الطوق الرباعي: تركيا، العراق، سوريا وإيران!) للحيلولة دون نجاح مفاوضات الحكومة العراقية مع الأكراد.

الوجود الكُردي مخيف حقاً بالنسبة للأتراك. فكُردستان أرض واسعة، وعدد الأكراد ضخم جداً. وباعتبار أن الأكراد شعب مسلح ويتمتع بكفاءات قتالية وعسكرية، فإن قيام دولة لهم في مناطق كُردستان يشكّل رعباً كامناً للأتراك، لا سيما إذا كانت تلك الدولة تشمل المناطق الكُردية داخل تركيا الحالية. وليس هناك فرق كبير بين دولة مستقلة، وسلطة فيدرالية في هذا المضمار.


ولأن تركيا تعلم علم اليقين أن مستقبل كُردستان سيكون بعيداً عن أمنيتها، بعدما فشلت في إذابة الأكراد في كينونة الدولة القومية، فإنها تعيل على عامل الوقت في تأخير صيرورة المجهود الكُردي وتضليله وإعاقته إعاقة شلل، للحيلولة دون بلوغه أفقه المنشود. لكن عوامل السياسة العالمية لا تساعد دوماً رغبة الأتراك هذه. فحرب الخليج الثانية وعواقبها ولّدت كياناً كُرديا يرتبط بالعراق على أساس فيدرالي. وكان الواقع الجديد قد أحدث شرخاً كبيراً في الجدار الذي بنته تركيا بين الأكراد وآمالهم منذ عقود طويلة.


إن أفضل تيار يتفهم القضية الكُردية في تركيا هو التيار الإسلامي. لكن هذا التيار مولود مشوّه سياسياً في صيرورته التأريخية.
التيار الإسلامي ظل مقموعاً في تركيا بيد سلطة قومية عسكرية على الدوام. وهذا الواقع أعطى إنطباعاً عن الإسلاميين بتضادهم مع مشروع الدولة القومية والنظام المدني. وفي الأثناء، وبمرور الزمن، وكما في بلدان ودول أخرى خلقت الحال عند الإسلاميين عقدة النقص والتقزم، جعلتهم ينشغلون لآماد طويلة باثبات عذريتهم السياسية وبرائتهم من الإنتماء المدّعى من قبل النظام العلماني/القومي أنهم ضد الدولة العلمانية/المدنية.
وعلى هذا الأساس أمسى التيار الإسلامي أسيراً ذليلاً لنتائج سياسات آنية مفروضة من قبل تيارات أكثر قوةً وسلطة، رسّخت قواعد العمل السياسي كقوانين ثابتة، تعرّض مخالفها لعقوبات شديدة.


لهذا فأردوغان وغول الإسلاميّين وهما يشنّان حملة عسكرية على الأكراد، ليس مرد ذلك إلى سياسة إستراتيجية حكيمة لديهما. بل الأمر مفروض ضمناً من قناتين:
الأولى: عنف تأريخي مستمَد من جذور تكوين السلطة التركية، يعود إلى المرحلة الأولى (العثمانية) التي أمدت المرحلة الثانية (الجمهورية) بالمضمون جوهرياً في بلورة تأريخية باتجاه تحديث أعرج عبر عملية دموية ذات أصل ثابت في جذور السياسة/السلطة التركية.
الثانية: عقدة النقص الإسلامي تجاه العَلمنة والعسكر. فالإسلامييون يؤشرون بهجماتهم على الأكراد إلى إثبات وطنيتهم، وإخلاصهم لمبادئ الجمهورية التي قضت بحذف الأكراد. وأحد المقاصد من وراء ذلك هو الحصول على شهادة حسن سلوك من قبل العسكر المستحكِمين والعلمانية المهيمنة على تركيا بالقوة/ وأو إبعاد الشكوك عن السلطة (الإسلامية) بالتراخي تجاه القضايا الأساسية، منها الهوية الكُردية الممنوعة من الصرف تركيّاً.


فحتى لا يكون مصير أردوغان وغول مثل مصير (عدنان مندريس) الذي أعدم في منتصف القرن الماضي بتهمة خيانة مبادئ الجمهورية، يتكلّف كلاهما بالظهور بمظهر الوطني القومي المخلص، في حال تبدو شاذة حتى بالمقاييس التركية الداخلية.


فحزب العمال الكُردستاني لم ولن ينته بهذه الحملة وعشرات أخرى أمثالها، اليوم أو غداً. هذا ما يعرفه الجميع. ولكن ما تكوّن كمقدّسٍ في بناء الدولة، في تراكمٍ ثقيل، يُصعب التخلص منه على المدى القريب. لذلك فإن الطلب الجوهري للأتراك من الأكراد هو السكوت عن رضى بعدميتهم، في وجود مقبول ضمن هويات أخرى كالعربية: سوريا وعراق، وكالفارسية: إيران، والتركية: تركيا.


لن يحدث ذلك على الإطلاق. فالقضية الكُردية تقدمت كثيراً اليوم على الصعيد الإقليمي والدولي. وما لا يحسبه الأتراك من مخاطر عظيمة، غير مدركين، هو دفع دول الغرب وجْهة القضية الكُردية، ببطء، نحو كسر رقبة تركيا على المدى الأطول.
والمفارقة الكبرى والأغرب أن تركيا التي تحاول الضغط على إقليم كُردستان بغية السيطرة على قراره وإستقلاله، ستفاجأ في المستقبل أن الدولة الكُردية ستقوم أولاً في تركيا الحالية بمباركة الغرب نفسه الذي يصفق يوماً للأكراد وآخر للأتراك. ولكن المسألة في الوقت الراهن معلّقة بمدى توسيع الأكراد رقعة نضالهم على الأصعدة كلّها نحو الهدف المنشود. وما يحدث الآن من حرب شرسة بين الطرفين الكُردي والتركي هو الحجر الأساس لبناء دولة كُردستان داخل تركيا وقد تطول المدة حسب مشيئة القوى الغربية!


ونجح حزب العمال الكُردستاني باستراتيجيته الماكرة وخبراته الميدانية لأكثر من نصف قرن، في جرّ تركيا إلى مستنقعٍ ستندم عليه مستقبلاً بعد الإفاقة من غفلة طويلة!

علي سيريني