كلمة صغيرة في هذه المعمعة لا بد منها. الكلمة التي تفترضها أننا مازلنا في نفس المعمعة. هي معركة أم خصومة سياسية، هي اصطفاف نهائي أم اجتهادات متحركة، بتحرك هذا الواقع اللئيم الذي يحيط بنا جميعا، ولكن كيف؟ من هو الذي يحدد معايير القياس والاجتهاد عندنا في سورية التي أكلت من لحمنا، وإذا أردنا القياس على ماذا نقيس ومن هو النبراس والمعيار؟

أن يقتنع المرء أنه لا يمثل الكمال ولا يمثل المعيار الصافي النقي، أمر يبدو أنه في غاية الصعوبة، خاصة عند مثقفين كبار أو صغار أو عند معارضين كبار أو صغار. مهما فعلت، يجب ألا تخرج عن معايير القياس، السلطة أبدا ليس من مصلحتها تصديق نوايا أي معارض ومختلف معها في الرأي. دوما المعارض هو خائن بالضرورة. مبنى أحادي في معنى ثنائي، أما معي أو أنت خائن. وإذا كان هنالك من هامش ما فأنا الذي أقرر مساحته، وأنا الذي يعطيك الحق في استخدامه. هذا المبنى ملك لي، ومن يتحرك في داخله مهما كان يجب أيضا أن يتقيد بقواعدي. هذا حال سلطتنا. وهذا ما يجعلها ترفض أي حديث عن ديمقراطية، أو عن تداول آراء، فما بالنا بالحديث عن تداول سلطة.مطلوب منك أن تقف في الحيز الذي ترسمه لك. هذا مفهوم من قبل سلطة أحادية أو واحدية لا فرق! ولكن يبدو أن الأمر الذي اتضح جليا بعد الاعتقالات الأخيرة في صفوف إعلان دمشق، وكان بدايته الواضحة، أن السلطة وبعضا من المعارضة، بات لديهم خطوط حمر، وأول هذه الخطوط، هي أمريكا و جبهة الخلاص الوطني في سورية. ولكل توليفته الخاصة في المساعدة على تثبيت خط السلطة الأحمر، توليفة تتكثف في أن خدام فاسد، وهو من يتحمل مسؤولية ما جرى داخل النظام السوري لأنه كان نائبا للرئيس.

وتوليفة أخرى ذات ملمح علماني فيه من الزيف أكثر ما فيه من الحقائق، أن جبهة الخلاص فيها الإخوان المسلمين. وأي اجتهاد آخر يتحول أيضا إلى خط أحمر، كما هي حال أمريكا.كل خطوط السلطة الحمر في الواقع لا تترك أثرا في النفس، رغم الخوف. ولكن ما يترك أثرا في النفس أن الخطوط الحمر ترسمها المعارضة لنفسها، ومن يتجاوزها، تنهال عليه التوصيفات من كل حدب وصوب، أمريكي، طائفي، فاسد، غير مستقر سياسيا..الخ المعزوفة التي لا نجد منها غاية إلا هدف واحد وهو البقاء قربا من قياسات محددة وكأننا أمام قياسات سلف صالح! سلف لغيفارا، أو للراحل جمال عبد الناصر، أو لستالين،أو للينين، أو لماركس، أو لابن تيمية، أو للعلمانية الفرنسية، أو لليبرالية ( دعه يعمل دعه يمر) الغالية على قلب العزيز أصلان عبد الكريم- المعتقل السابق والمثقف المهم الذي ضمر قلمه) هنالك مقياس الأمور. يجب أن تقيس بناء على الذين سبقوك..لا مكان أبدا لأن تخرج خارج هذه العباءة مهما كان لونها حمراء أو خضراء أو صفراء الآن بالقياس إلى لون علم حزب الله. من جانب آخر أيضا جبهة الخلاص لها خطوط حمراء، الجميع- بالهوى سوا- كما يقال بالعامية. بالطبع لن أصدق مهما حدث من خلافات أو شقاقات داخل صفوف المعارضة من أننا أبناء شرعيين أو غير شرعيين لهذا الاستبداد المزمن، والذي فرض معاييره علينا في ثنائيات قاتلة لأي عمل سياسي، وكما قال لي أحدهم ( إن الراحل حافظ الأسد ربانا، وباتت معاييره في خلايانا). ثنائية تتعامل مع الشخصي قبل السياسي. في نقاش مع أحد الأصدقاء على الهاتف، قلت له: ربما بالمعنى الإنساني والصداقي لا أحتاج سوى لعدد من الأصدقاء لا يتجاوز عدد أصابع اليدين، أما سياسيا وفي سياق سوري خاص كما أراه يحتاج إلى التعاطي مع كل سوري بمعزل عن الموقف الشخصي* إنه كفيل وسبب من جملة أسباب تجعلنا نقبل بعضنا بعيدا عن حالة القياس التي على ما يبدو قد ورثناها عن الاستبداد المزمن الذي أحاط أعناقنا. سبب كتابتي لهذه الكلمة الصغيرة، أنني لمست أن هنالك ما نحتاج التركيز عليه في المعارضة وهو التمييز أيضا بين الاختلاف مع، عن الاختلاف عن.

هنالك فارق علينا أن نأخذه دوما بعين الاعتبار، وهو في أن خلاف أي كائن عن كائن آخر لا يعني الخلاف معه. أنا كردي، إذا بالضرورة أختلف عن آخر عربي، ولكن عندما يتحدثون عن خلافات مع الكردي أو مع العربي، هل يأخذون بعين الاعتبار أنهم يختلفون عن! وهذا بالضرورة له ملحق واضح وبين، فالاختلاف عن- الذي يتعلق بالجانب التكويني الثقافي والوجداني واللغوي، يلحقه اختلاف مع- الذي يتعلق بالجانب السياسي، والعلاقة مع الآخر ومع المستقبل- أو يفرضه في غالب الأحيان. هل الاختلاف عن، له مساحة لا شعورية لدى الكردي والعربي عندما يجلسان معا لمناقشة القضية السورية مثلا؟ لكوني اختلف عنك اسمح لي أن اختلف معك في أي اجتهاد أراه. وهذا الاختلاف لا يعطيك الحق بأنني أختلف عنك لأنني إما عميل لأمريكا أو عميل للسلطة أو طائفي أو شوفيني أو يريد التقسيم. وهذا ينطبق أيضا على السلطة التي لو أدارت وجهها صوب المجتمع، وبدأت بإصلاح جذري وحقيقي، يجعل من الهوية السورية نموذجا كما كانت في خمسينيات القرن العشرين قياسا بما حولها، لأراحت نفسها وأراحت الجميع، وانكشف حالة المعارضة أيضا، ومدى وزنها في الشارع، عبر صندوق الاقتراع.


يبقى أن نسطر مثالا لكي لا نبقى في تجريد اللغو:إذا ركبت موجة المشروع الإيراني وصنوه القطري، فهذا موقف مبدئي، أما إذا تعاطيت مع الأطراف الأخرى فتلك خيانة، أو العكس، لا يمكن أن يكون هنالك خيار ثالث لتجسير الهوة سوريا. لا مجال للاجتهاد السياسي في ثقافة الثنائيات الشخصانية، إما معي أو ضدي.


* هذا أمر طالما كان ولازال مقتل لأي فعل معارض، عندما يتقدم الشخصي على السياسي، أليس هذا ملمح استبدادي بامتياز، من المفترض أن الثقافة الديمقراطية، والتي ندعي كل منا بدوره وعلى حده إيمانه بها، قد تجاوزت هذا المعيار؟
الشخصي الذي هو أطار يرسمه الفرد لنفسه، في ظل ثقافة الاستبداد، بطريقة لو جردته من عداءه للآخر، لوجدت أن هذا الإطار هش ويعبر عن عقلية أحادية أو واحدية! ويعبر عن نخبة تجاوزها الشارع، والديمقراطية التي تدعيها، فيما لو أتت تكشف عن هزال هذه النخب التمثيلي بمعناه السياسي. لهذا تجد في صفوف النقد تعرض للشخصي ولحياة العدو المفترض الشخصية، حيث أصبح لدينا في المعارضة السورية، ثقافة أخرى تحت السطح تتماثل مع ثقافة، النميمة وهتك عرض الآخرين، بمناسبة وبغير مناسبة. هذه الثقافة التي تفترض دوما تماما كحال السلطة، أن الآخر لديه مؤامرة، والنمامون يتبرعون في اكتشافها، وكأنهم أجهزة استخبارات.كما يلحق بهذا الأمر الميل للشللية، والمعايير الضيقة.
غسان المفلح