اكثر الفيزياء إثارة هي الفيزياء الحديثة وأحلى مافي الفيزياء الحديثة هي فيزياء الكم، حيث يهيم المتابع بسلوك الجسيمات،المتناهية الصغر، في عالم تحكمه بدقة قوانين صارمة، بشروطها، مثيرة بنتائجها، فيقف الانسان مثلا مذهولا امام اهتزازات المتذبذب التوافقي البسيط وقد حكم عليه الميكانيك الكمي ان يبقى يهتز ذهابا ورجوعا الى، ماشاءالله، لانه يمتلك في ادنى الاحوال طاقة الصفر المطلق والتي لاتساوي باي حال من الاحوال صفرا عدديا، بل تعادل في قيمتها نصف مقدار تردد المهتز مضروبا في ثابت بلانك. ترى هل يصح ميكانيك الكم في السياسة؟!، هذا هو التساؤل الذي ستحاول السطور ادناه الاجابة عليه من خلال ايجاد تطبيق للتجربة الكردية استنادا الى مفاهيم الميكانيك الكمي.
احدى التطبيقات المثيرة لميكانيك الكم هي حالة الجسيم المحصور في داخل صندوق، بمعنى ان لنا ان نتصور جسيما يتحرك في حيز محدود هو عبارة عن صندوق بابعاد محددة ذو جدران صلدة، وهكذا يبقى الجسيم يسبح في هذا الفضاء ويحاول عبثا فيضرب رأسه بجدران الصندوق املا في النفاذ ولكن دون جدوى، فيعود مرة اخرى وهكذا مع الجدار الاخر في عملية متكررة. و استنادا الى قوانين الميكانيك الكمي فان وصف الدالة الموجية لهذا الجسيم وبالتالي كثافته الاحتمالية، اي احتمال تواجده في داخل الصندوق وخارجه، يشير الى استحالة تواجد هذا الجسيم خارج الصندوق طالما ان الشروط العيارية لهذه المسالة تتطلب ان تكون الطاقة الكامنة مساوية الى الصفر في داخل الصندوق والى المالانهاية في اية نقطة خارجه. من جهة اخرى سيمتلك هذا الجسيم مستويات للطاقة تتناسب مع مربع العدد الكمي وكلما زاد عرض الصندوق اصبحت هذه المستويات اكثر اقترابا من بعضها فتكوٍن طيفا مستمرا. تجربة اقليم كردستان في العراق هي اشبه ماتكون بحالة هذا الجسيم المحصور في حيز معين والمسموح له بهامش من الحرية في الحركة في هذا النطاق بما يتيح له تحقيق وبناء مستويات للطاقة ترتفع على شكل بناء مادي، لكن هذا الجسيم يرتطم في كل مرة بالجدران التركية والايرانية والسورية والعراقية كلما حاول الضرب بقوة محاولا النفاذ الى مساحة اوسع، بل ان لوحة التحكم الامريكية لازالت تقف في لحظة الحسم لتوعز لاصحاب الجدران الاقليمية بتصليد طبقة الجدران منعا لهذا الجسيم من اية فرصة للنفاذ.
ان القيادة الكردية تدرك جيدا ان الخطورة بالغة على مصير هذا الجسيم اذا بقي محصورا في صندوقه المحدد هذا، كما ان معطيات الواقع، وخاصة لمرحلة مابعد الاحتلال، تثبت بشكل حاسم ان محاولة القيادة الكردية لتحقيق اختراق في حاجز الجهد باتجاه الجدران العراقية على اعتبار انها اكثر الجدران رخوة ليس الطريق الامن لانجاز معادلة دائمة للجسيم في مناطق جديدة، طالما ان الشروط العيارية لهذه المعادلة ليست مبنية على اسس صحيحة تكفل استمراريتها، بل من المحتمل جدا، و في اجواء عدم الثقة والاستقرار هذه وفي مناخ يتحكم فيه مبدأ اقتناص الفرصة والانتقام للموقف ان تنعكس الشروط العيارية تلك مرة اخرى فتنهي معادلة موجته في هذه المناطق الجديدة، بل تعيده الى الحركة في حيز قد يكون أضيق مساحة من الحيز الذي كان يتحرك فيه قبل اختراقه لحاجز الجدار هذا.
ان الحملة التركية الاخيرة المتمثلة في توغل الجيش التركي في الاراضي العراقية بحجة ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني تؤكد بما لايقبل الشك ان اطرافا دولية وعلى راسها الادارة الامريكية تشترك في النظرة مع الاطراف الاقليمية والمحلية الاخرى، حيث ترى هذه القوى جميعا ان ( ثوب كوسوفو ) لازال في الوقت الراهن، وبالاخذ بنظر الاعتبار جميع الطموحات الكردية المعلنة والمبطنة، لايتلائم مع مقاساته ليكون صالحا ومقبولاعلى جسم اقليم كردستان في العراق. وهكذا تشير وقائع الاحداث الى ان الجسيم الكردي سيقضي، في اكثر النتائج تفاؤلا، فترة زمنية اخرى محددا في حركته دون ان يعني هذا انه سيقضي هذه الفترة بهدوء تام، بل تبدو رائحة الرغبة العنيفة من اغلب القوى السابقة تفوح باتجاه العمل على ضرورة ملاحقة هذا الجسيم وترويض حركته وتقنين دالة موجته وبالتالي كثافة احتمال تواجده حتى في منطقته التي يحاصر فيها، هنا يجب الاشارة في نفس الوقت الى القيادة الكردية تدرك جيدا وتعي هذه الرغبة وتمتلك حاسة شم قادرة على تمييز رائحتها.
لقد اعتقدت القيادة الكردية، خطأ، ان التصرف بدهاء في لعبة السياسة، بهدف اقتناص الفرص فيها، كفيل بان يترك باقي اطراف اللعبة يؤمنون بنتائجها و يتصرفون على ضوء ذلك بما يتيح للجسيم الكردي انسيابية مشروعة، كاستحقاق، في عبور حاجز الجهد، ايا كان حاجز الجهد هذا، لكن هذه النظرة وهذا الاعتقاد تصطدم بخلفية فكرية مترسخة في ذهن اغلب الاطراف الاقليمية ان لم يكن جميعها تتمثل في انكار حق هذا الجسيم الكردي في تحقيق اي اختراق، ان لم يكن الشك اصلا في حقه الاساسي في الحركة داخل صندوقه المقفل، بل ان بعض الاطراف لاترى في الاداء الكردي بعد الاحتلال اكثر من كونه عملية ابتزاز واضحة حينا ومخفية في حين اخر وهي،اي هذه الاطراف، تتحين الفرصة لتمارس الاسلوب نفسه ولكن في الاتجاه المقابل.
ربما تكون الاحداث الاخيرة درسا امريكيا للقيادة الكردية، رغبت الادارة الامريكية ان يتولى ايصاله بالنيابة الوسيط التركي والعراقي، من اجل ان تعيد هذه القيادة النظر في حسابات حركة الجسيم الكردي ومناطق نفوذه ورسم دالة موجته بما يتلائم والخطة الامريكية للمنطقة و يترك الباب مفتوحا للادارة الامريكية لتسوٍق دوليا ( عروسا ) رسمية اخرى الى الامم المتحدة على غرار كوسوفو بعد ان تكون قد ضبطت الى حد الملم مقاسات ثوب زفافها.
د. وديع بتي حنا
[email protected]
التعليقات