يقول المفكر اللبناني مهدي عامل في مؤلفه الذائع الصيت quot; مقدمات نظرية quot;، ص 31 { فثورة الفكر ليست ~ شطحة فكرية ~ بل تخضع لمنطق خاص يجد شروطه في حركة التاريخ نفسه وفي منطق تطوره....... فعزلة الفكر عن التاريخ موت له، وموت الفكر أن يعجز الفكر عن القيام بثورته، أي أن يظل سجين بنيته، حين يفرض عليه التاريخ الأجتماعي كسرها }..


ويقول فيصل دراج في مقال له عن مهدي عامل ~ مجلة النهج، العدد 58 { رأى مهدي عامل دائماً في الأجتهاد أثراً لبنية فكرية طبقية تتجاوز الأفراد. وما قال به ينطبق عليه، وما يؤخذ عليه يؤخذ على البنية الفكرية التي أخلص لها، وإن سعى دائماً إلى أن يكون وجهاً من وجوه البنية الواسعة، لاقناعاً عادياً بين أقنعة أخرى }.....


فإذا كان ركن ~ القكر ~ هو تاريخانيته، ألا يكون ركن ~ السياسة ~ أيضاَ هو تاريخانيتها، لاسيما إذا تعلق الطرح بالمعارضة السورية في أهم اطروحاتها ووظائفها، بل سبب وجودها ~ مهمة التغيير ~ وذلك مهما كانت طبيعة ونوعية هذا التغيير( التدرجي، السلمي، الديمقراطي، الشامل، اللاأنتقامي، التخمري،القطعي، اللاقسري ). ومهما كان مستوى ذهنية وتصور ومنهجية أطياف هذه المعارضة، بل كل طيف على حدة. فالمعارضة ( على حد تعبير كلاو ) تخضع في تعريفها لوظيفتها التاريخية الأولية الملقاة على كاهلها، وفي معناها للأداة التاريخية المكرسة ~ والمرهونة ~ لتحقيق تلك الوظيفة..


بيد إن هذه القضية في عمقها وأبعادها ومرتكزاتها ~ وخاصة لأننا إزاء المعارضة السورية ~ بحاجة ماسة إلى تبيين بعض الأشكاليات التي قد تعيق ميكانيزم التحليل، وتفسد بالتالي الولوج إلى ~ المقصود ~ المرتقب.


الأولى. نحن هنا لاننتقد ولانطعن في المعارضة، ولا في أي طيف من أطيافها. فالقضية غير مرهونة بالأجزاء ولاتقتفي أثرها الخاص، إنما تتجاوز ~ الواقعي ~ إلى ~ الموضوعي ~، أو ( الفيزيائي ) إلى ( الميتافيزيائي )..
الثانبة. نحن هنا لاننتقد ولا نطعن في خصائص فصائل هذه المعارضة، ولا في كينونة أي فصيل من تلك الفصائل. فهذه المسألة أضحت ( لقمة ) سائغة لبعض ( الساسة والمتعلمين )، ولأن معيارنا، من جانب آخر، بات مألوفاً وصارخاً، ويخضع طواعية لجوهر المعادلة التالية ~ تناقضنا الرئيسي هو مع النظام ~. أما أختلاف الرؤيا أو نقاط الخلاف فيما بيننا فينبغي أن نحتسبها ~ في هذه المرحلة تحديداً أي مرحلة ما قبل التغيير ~ ضمن التناقضات الثانوية ( على حد تعبير أنجلس، لينين، لوكاتش، كالينين، ماو تسي تونغ ) التي ستحضع في ترويضها وتدجينها ل (صناديق الأقتراع ) حصراً، كيلا تقف عقبة عثرة كأداء أمام العملية السياسية ( جورج بوليتزر )..


الثالثة. أننا إذ نلوذ بالظاهرة في تثليثها { الثقافة والحضارة، الطبائعية والشخصانية، الدور والتاريخ }، نعقل أنفسنا في هذا التشخيص ضمن مقولة ~ الدور والتاريخ ~ موضحين العلاقة / الخلل مابين طبيعة المعارضة وفحوى هذه المقولة.
الرابعة. أطرح سؤالاً حرجاً ودقبقاً. هل ندرك معنى ~ الحرية ~!! هل نحن أحرار أن نتصرف بالطريقة التي نشاء!!! هل نحن أحرار أن نتفوه بما هب ودب، أو بما يقشعر الأبدان و يهشم الخواطر!!! ألسنا أظلم من الظالم في الوقت الذي نزمع ونزعم إننا ننافح ونذود عن الحرية!!! ثم هل نحن على دراية أكيدة و معرفة صادقة بمحتوى العلاقة الجدلية مابين الحرية ووعي الضرورة!!!
الخامسة. أطرح سؤالاً آخراً حرجاً. هل نعي مضمون ~ السياسة ~!! هل هي مناورة، أم فن المخاتلة والخداع، أم كتابات تلفيقية، أم أحبيلة، أم فن المراوغة!!! أم هي علم، ودراية، ومعرفة، وموقف، واستراتيجية!!! هل نحن نمارسها حينما نتشدق ~ ساعات وبأسلوب أرعن ~ بموضوعاتها الأساسية!!! أم أنها قبل كل شيء وعي الذات!!!..


السادسة. أطرح سؤالاً ثالثاً حرجاً. هل نتلمس محتوى ~ المسؤولية ~!! هل شخصيتنا تابعة لها!! أم أنها ذليلة راكعة ساجدة أمام ظلنا، يوم لاظل إلا ظلنا!!! ثم ماهي درجة المسؤولية في وعينا!!! أم إن القضية أمست تجريدية ما بين المنطوقين المسؤولية والظل!!! وبتنا في ذواتنا خارج الأثنتين!!!
السابعة. أطرح سؤالاً أخيراً حرجاً ومربكاً. هل نطيع الحدث والظرف لذواتنا!! كي تكون المعادلة سلبية في العلاقة ما بين ~ الدور والتاريخ ~!!!! أم ينبغي أن نرتقي بها ( أي بذواتنا ) إلى مستواهما!!! كي تكون المعادلة إيجابية ليست فقط في تلك العلاقة، إنما في التكافل ما بين النسقين ~ الدور والتاريخ ~ كحدث!!!.


أأمل ألا تكون هذه الأشكاليات استفزازية بقدر ما تكون موضوعية، نبحث من خلالها عن ذواتنا في رحلة شائكة عسيرة، نبحث عن مقدمات أولية حسابية، راسخة في أذهاننا وسلوكنا، ماثلة أمام أحداقنا، كي نحلم أن ندرك القطع ( الكامل، الناقص...) الهندسي فيما بعد.
ومن هذه المقدمات الحسابية، نذكر الأساسية والجوهرية، على شكل النقاط : الأولى. إن أطياف العملية السياسة{ إعلان دمشق، جبهة الخلاص الوطني، التجمع القومي الموحد، الحركة الكوردية السياسية، والبقية } تحتسب أنفسها منضوية تحت سقف ~ واحة ~ ( المعارضة ) وتثبت إنتماءها إلى شرطها التاريخي. الثانية. كما تؤكد تناقضها الرئيسي مع النظام، وحصراً معه، لتأصيل العملية السياسية، والنشاط النضالي الأبداعي المرادف لها. الثالثة..إنها ~ ودون أن تحجب إرادنها، أو تحجم عن موقفها ~ إلتزمت يشعار استراتيجي ألا وهو ( التغيير ) بعد أن أخضعته ل ( السلمي، الديمقراطي ) كتدارك أحترازي موضوعي. الرايعة. ثم اعتبرته ( أي التغيير ) ~ دون تلعثم أو تأتأة ~ مهمة أولى في غاية الأستعجال، مهمة لها الأفضلية المطلقة والقصوى. مهمة تجبٌ كل الوظائف الأخرى دون أن تلغيها وشريطة أن تهبها الدفق وإكسير الحياة.


من خلال هذه النقاط المؤطرة نستنبط البعد الميكانيزمي، وفقط البعد الميكانيزمي، في الربط ما بين المقولتين ~ الدور والتاريخ ~ وكأن هذا الأخير نسق ( حدثي، ذاتي، شخصي ) يفتقر إلى ( الموضوعي )، إلى قواعد تطوره، إلى قوانينه الخاصة وظروفه المستقلة، أي كأنه فطم عن ذاته ( مهدي عامل ) وعٌزل عن مكنوناته. فأغتال مقوماته ومعها الحرية التي غدت، هي الأخرى، نسيجاً سقيماً، وحالاً عقيماً، ولم تعد كما كان يتشهى ~ يرتراند رسل ~ في مؤلفه الموسوم ( الحرية ) أن تكون ~ ليست الحرية في شيء أن أتمتع بتصرفاتي الشخصية، إنما هي في حقيقتها أن أدرك القيمة الموضوعية لتلك التصرفات ومسوغاتها التاريخية ~ وكأنه لايشير فقط إلى استقلالية الحرية، بل يغمز إلى الأرتباط التصاعدي والمتنامي ما بين الحرية ووعي الضرورة. ذلك الأرتباط الذي كشف عنه أيضاً ( فرانسوا كلاو ) بصدد حديثه عن الدالة الممتلئة. إذن لماذا هذه الفجوة لدى المعارضة؟


يٌعاب على المعارضة بصورة جروسومودية، وعلى أطيافها إنها لاتسعى ~ بكل همة و إلحاف ~ إلى تدارك ذهنية، مقومات، شروط، مفهوم المعارضة. فكل طيف ما برح ينهل ويغرف من ذاتيته الجزئية، من أجندته الخاصة. ولا يسعى إلى إدراك التغيير إلا من خلال أطروحات معادلته السابقة الأولية، تلك التي لاتعبر ~ بالضرورة ~ عن مطامح وأماني الشعب السوري. وكذلك يٌعاب على معظم هؤلاء السادة إن قرارهم السياسي النهائي لم يرتق بعد ~ للأسف ~ إلى مستوى منظومة ( التاريخي )، وكأنه ثمة شرخ سياسي ابستمولوجي إدراكي ndash; باشلار، فوكو، دولوز ndash; في ثنابا ديالكتيك المحمول والموضوع، الغاية والوسيلة، الشكل والمضمون. ويٌعاب على تلك الأطياف إنعدام البرنامج السياسي والطرح المنهجي لملئ وظيفة ~ المعارضة ~ التغيير، وعدم امتلاكها الخطاب السياسي التاريخي الموازي، فما يتم طرحه ينحصر في الآتي : خطاب شديد الخصوصية منقوص ومنقوض، ذو ذهنية منغلقة وخلفية عاجزة وآراء جافة، خطاب في حدود الفئة و استطالاتها لايكترث بآفاق ( الشرائح، التيار، القوة العائمة )، ولا يتجاوز عتبة الأدراك التجريبي ( هربرت سبنسر، هيوم )، ويلتزم بخطه البياني الخاص به دون أن يرتقي به إلى مستوى ( الخطاب السوري العام ). يٌعاب على تلك الأطياف ( بما فيها الطرف الكوردي ) إنها لاتعالج (المسألة القومية الكوردية ) بروح موضوعية و بحرص إئتلافي مصيري، فهكذا مسائل لاتؤرجأ إنما هي بحاجة ماسة إلى قرار سياسي، صريح، قطعي. يٌعاب على تلك الأطياف ( بأستثناء جماعة أخوان المسلمين، خطاب السيد علي صدرالدين البيانوني في المؤتمر الثاني لجبهة الخلاص الوطني ) إنها لاتبت يصورة نهائية في موقفها من الشرط الدولي. يٌعاب على تلك الأطياف ( يشكل متباين قليلاً ) إنها تنتهج أسلوب الإقصاء الذي تحاربه، وتمارس ( قواعد في الفكر ) هي لاتؤمن به..


بيد أن هذه التصورات وتلك النقاط السابقة ترغمنا أن نستنتج ~ على مضض ~ وكأن ( الأنا ) في مجتمعنا لاتتوزع على مستوى الوعي الجمعي ( على حد تعبير آدلر )، ولا تكتسب أبعاداً طبائعية موضوعية ( على حد تعبير أرسطو )، بل تتكثف بشكل أنجذابي حول الشعور الفردي، الفردي الخاص، مما يحرمها من التفاعل الحضاري في المجنمع والثقة به، فكأن الفرد يغدو خارج إطاره، ويستميت ~ بشراسة ~ في استقطاب المجتمع إلى بؤرته، لتصبح المعادلة معكوسة ( المجتمع هو جزء من الفرد ).


هكذا، إذن، نحن نستشف التباين والتفارق ما بين الثالوث الجديد ( التغيير، الدور، التاريخي )، بل نستشف التعاكس ما بين ( الدور والتاريخي ) وكأن الأول شخصي ذاتي والثاني موضوعي مستقل في قوانينه وقواعده. وهما كذلك في واقع الحيثيات من حيث المبدأ، لكنهما يتقاربان إلى حد الأندماج لدى الآخرين ( عمر المختار، البارزاني، سبارتاكوس، واليس، جان دارك، هنيبعل...) بحبث يذوي ( الدور ) وتنحصر العلاقة يصورتها الساطعة ما بين المهمة والتاريخي.


هكذا، ربما، بتنا ندرك فحوى الإحراج في تلك الأسئلة السابقة، فالحرية ( من هذه الزاوية ) ليست معيارها تصرفاتنا، (مفهوم الرغبة ) إنما هو إدراكنا للعلاقة مابين التغيير والتاريخي وبالتالي التطابق المسوغ ما بين الأثنين، كالأرتباط العضوي ما بين أعضاء الجسد الواحد، أو مابين السفينة والغرق ( الحرية ووعي الضرورة ). وكذلك الأمر يالنسية للسياسة، فليست قدرتنا على التحرك هي المعيار، إنما هو وعي ميكانيزم التاريخي كأنتصار لهذا الأخير، وأنتصاراً لوعي الذات. ثم تجسيد المحتوى ما بين الأثنين، كيلا يغدو التاريخي مجرداً ووعي الذات منغلقاً، تماماً مثل تجسيد المحتوى ما بين ( أعضاء ) رقعة الشطرنج. أما بالنسبة للمسؤولية، فكلما قرب ودنا ( الدور ) من ( التاريخي ) كلما رسم منطوق ( المسؤولية ) خطه البياني تصاعدياً بنفس الوتيرة والتوتر ( كوحدة فيزيائية )، وأنكفأت الشخصانية تعاكسياً بنفس الدرجة لفائدة ( المهمة، التغيير ). أما بالنسبة للعلاقة ما بين ( الظرف ) و ( الذات ) فقد أتضحت بما فيها الكفاية، إذ كلما خضعت الذات للظرف، كانت تلك العلاقة إيجابية. وكلما تمردت عليها، كانت الأخيرة سلبية.
هكذا، إذن، كلما دنت المعارضة من ( التاريخي )، اقتربت من المنعكس الأول، وبان التآلف ما بين المهمة الأولى والتغيير، وأقتربت الضرورة من وعيها، وتطابقت الحرية مع دالتها، وأكتست السياسة لبوس العلمية، وأضحى وعي الذات محركها وجوهرها، وأصبحت ( الذات ) التابع الرياضي للمسؤولية و ( للظرف الموضوعي ) وتطابقت مع الظل. وكلما أبتعدت المعارضة من ( التاريخي )، أقتربت من المنعكس الرابع ( الأخير )، وحصلنا، نحن، على هذا الوضع المزري، وأقتربنا من الفشل ( التاريخي )....

هيبت بافي حلبجة