لقد قرأنا في الفترة الأخيرة تصريحا لرئيس الكنسية الأنغليكانية مفاده أنه لا بأس من تبني بعض أحكام الشريعة الإسلامية في المنظومة القانونية البريطانية، لتطبيقها على المواطنين البريطانيين من أتباع العقيدة الإسلامية. وقد قامت ضجة كبرى بين مؤيد ومعارض لهذه التصريحات، لذلك رأيت باعتباري مواطنا أوروبيا مسلما أن أتناول هذا الموضوع الشائك، لمحاولة فهم هذا التصريح وما يستتبعه من نتائج، ولإلقاء الضوء على ما سوف يحدث في أوروبا إذا ما تبنت دولها مثل هذه الإجراءات التي يطالب بها رئيس الأساقفة في بريطانيا.

لا أعتقد أن هذه المطالبة بتبني بعض أحكام الشريعة الإسلامية في القوانين الأوروبية تشمل أحكام الشريعة فيما يتعلق بالقوانين الجزائية، أي تطبيق الحدود كقتل المرتد(أي المسلم الذي يغير دينه) وقطع يد السارق، أو تطبيق حد الحرابة (الإفساد في الأرض) بقطع اليد والرجل بخلاف، أو رجم الزاني حتى الموت، أو جلد شارب الخمر في محل عام مفتوح للجمهور، أو قتل المثليين برميهم من مكان عال، أو تنازل الدولة عن حقها في محاكمة المجرم القاتل لولي الدم (أقرباء المجني عليه).
ولكنني أتصور أن ما يقصده رئيس الأساقفة هو تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في ما يتعلق بالأحوال الشخصية. لذلك وجب علينا تصور هذه الأحكام مطبقة في المحاكم الأوروبية. أولا من الناحية الإجرائية، يجب أن تقوم محاكم إسلامية داخل هذه الدول الأوروبية للبت في كل النزاعات المتعلقة بمواطنين أوروبيين مسلمين، أو إيفاد عدد كبير من القضاة الأوروبيين إلى الطالبان ليتفقهوا في الشريعة حتى يحسنوا تطبيق أحكامها. وعلى الدول الأوروبية التي تريد أن تطبق الشريعة أن تتحفظ على المواثيق الدولية التي وقعتها، لأنّ عليها :
أولا أن تسمح للمواطن المسلم الأوروبي بتعدد الزوجات، وعدم عقابه على هذا الفعل المجرم في القوانين الأوروبية.
ثانيا، أن تقر للمواطن الأوروبي المسلم بضرب زوجته لتأديبها، كما يحث على ذلك القرآن.
ثالثا، أن تمكن الرجل وحده من تقرير الطلاق، دون الرجوع إلى المحكمة، فهذا حق تكفله له الشريعة.
رابعا، أن تمنح البنت نصف حق الابن من الميراث، وتمنح ثمن ميراث الزوج فقط لأرملته.
خامسا، أن تعتبر شهادة المرأة مضاهية لشهادة الرجل في المحاكم الشرعية.
سادسا، أن تحرم المرأة من حضانة أطفالها إذا تزوجت بزوج آخر بعد الطلاق.
سابعا، أن تسمح للمواطنين الأوروبيين المسلمين بالزواج العرفي الذي لا يخضع لنظام التسجيل والتوثيق في الدوائر الرسمية.
ثامنا، أن تلغي مؤسسة التبني، باعتبارها منافية لتعاليم الشريعة.
تاسعا، أن تفرض تطليق المرأة المسلمة من زوجها إذا غير ديانته أثناء زواجه، على اعتبار أنه مرتد.
عاشرا، أن تمنع المرأة الأوروبية المسلمة من الزواج بغير المسلم، وتبطل كل ما يترتب عن مثل هذه العقود.
إذا كان المقصود من إدخال كل أو بعض هذه الأحكام الشرعية الإسلامية في المنظومات القانونية الأوروبية، فهذا يعني ما يلي :
أولا، أن مفهوم فكرة المواطنة سيتغير في أوروبا، فستوجد أصناف من المواطنة ومن المواطنين، بحيث يتم إعفاء بعض المواطنين من أن يطبق عليهم القانون العام، بحكم انتمائهم إلى دين من الأديان، أو عقيدة من العقائد. فسيوجد المواطن المسلم والمواطن المسيحي، والمواطن البوذي، والمواطن الكونفشيوسي..إلخ، وكل يطبق قوانينه الخاصة بدعوى خصوصية الإيمان. وبذلك لن يكون الإيمان حرية فردية في الاعتقاد، بل ستترتب عليه نتائج في غاية الخطورة في المجال العامّ.
ثانيا، لو طبقت بعض أو كل هذه الأحكام وحظيت بالاعتراف من التشريعات الأوروبية، لترتب عن ذلك لا مجرد الإخلال الخطير بشرعة حقوق الإنسان فحسب، بل إلغاؤها نهائيا.لأن كل ما ورد أعلاه هو نفي لمبادئ حقوق الإنسان.
ثالثا، الاعتراف بكل أو ببعض هذه الأحكام سوف يرجع المجتمعات الأوروبية إلى ما قبل عصر النوار، وما قبل الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان، وبالتالي يسقط الغرب في البربرية،
ورغم أننا نزعم أن الدول الوروبية لن تلبي هذه المطالب الكارثية، لأسباب وجودية قبل أن تكون إنسانية، فإن طرحها من كبير أساقفة بريطانيا يبعث رسالة خاطئة إلى العالم الإسلامي، مفادها أن الشريعة الإسلامية لا تتعارض مع الحضارة الغربية إذا ما طبقت على مواطنين مسلمين.

ولكن إلى ماذا تهدف الكنيسة الأنغليكانية وما مصلحتها من مثل هذه التصريحات الكاريكاتورية؟ نعتقد أنها تريد تحقيق الأهداف التالية :
أولا إنها ستكون بريئة الذمة أمام المسلمين المتعصبين الذين سوف يتأكد عندهم أن الصدام ليس بين المسيحيين وكنيستهم والمسلمين بقدرما هو صدام بين المسلمين والدول العلمانية. وهذا ما سينتج عنه الترويج للعداء للدول الأوروبية من قبل مواطنيها المسلمين، وما يزيد في حالات العنف والإرهاب مستقبلا.
ثانيا، إن هذا العداء الذي تؤججه الكنيسة بمثل هذه التصريحات غير المسؤولة، إذا ما تفاقم وأصبح يهدد أمن وسلامة المجتمعات الأوروبية، فستبرز هذه الكنيسة في دور الحكيم الذي يوفق بين أجنحة متعارضة في هذه المجتمعات.
وتعتقد بذلك أنها سترجع دورها السياسي والاجتماعي بما يحقق أحلامها في استعادة دورها القيادي الذي فقدته بانتصار العلمانية وانحسار سلطة الكنيسة واقتصارها على رعاية الأرواح.
ثالثا، هذه التصريحات تعني كذلك أن الكنيسة ما زالت في جزء منها على الأقل لا تؤمن بشرعة حقوق الإنسان، وأنها تنتهز كل فرصة سانحة للتشكيك في كونية وشمولية مبادئها الإنسانيّة.
وهذا يعني في الأخير أن المساجد التي يسيطر عليها المسلمون المتطرفون في أوروبا ليست وحدها وكرا للتعصب والحيلولة دون اندماج المواطنين في الحياة العامة، بل أصبحت الكنيسة نفسها وبفعل هذه التصريحات شريكا أساسيا في هذه اللعبة الخطرة. ورغم أن هذه المطالب التي أعلنها الأسقف بعيدة عن التطبيق في أوروبا التي أعملت قطيعتها المعرفية مع قيم وأفكار القرون الوسطى منذ زمن بعيد، فإن صداها سيكون خطيرا على منطقة العالم الإسلامي الذي يشهد منذ فترة هجوم الأصوليين على ما تبقى من المجتمع العلماني في بلادهم، والذين يريدون تطبيق أحكام الشريعة التي تتعارض مع حقوق الإنسان مستلهمين نموذج القرن السابع الميلاديّ (دولة النبي محمد في المدينة). فهم اليوم سيماحكون العلمانيين في البلاد الإسلامية ولسان حالهم : ما بالكم تعارضون تطبيق أحكام الشريعة في بلادكم في الوقت الذي تناشد فيه الكنيسة الأنغليكانية بتطبيقها في أوروبا؟
إنها رسالة خاطئة ومضرة لكل الدعوات الحداثية والعلمانية في العالم الإسلامي، وهي ضعيفة في الأساس لأنها تغالب تسونامي المتشددين الإسلاميين الذين يتهمونها بالتبعية والخيانة والهرطقة. إن هذه التصريحات لبعض رجال الكنيسة الأنغلبكانية ما هي إلا مناصرة لأفكار المتشددين الإسلاميين ومحاولة لتغليب فكرهم الديني الأصولي على الفكر العلماني في البلدان الإسلامية.
إننا نعتقد أن الأصوليات الدينية التوحيدية، سواء كانت مسيحية أم مسلمة أم يهودية وبرغم كل العداء التاريخي المستحكم بينها يمكنها أن تتحالف وتوحد جهودها من أجل محاربة الفكر المستنير في أي زمن. فهي تتضمن جرثومة واحدة، هي ادعاء الحقيقة المطلقة الصالحة لكل زمان ومكان.

د. محمد عبد المطلب الهوني