راودتني فكرة الكتابة عن هذا الموضوع منذ عدة سنوات وبالتحديد بعد كتابة مقال فلسفي مطول نشر في ايلاف عام 2003 بعنوانquot;نحو ديالكتيك عراقيquot; كان مضمونه يركز على تبني مذهب الوسطية أو الاعتدال عوضا عن تبني الفكرة اونقيضها.
من خلال دراسة او نظرة مستفيضة لتاريخ الافكار البشرية نرى ان هذه الافكار هي نفسها التي عرفها الانسان منذ بداية الخليقة فلا فضل لجيل او اجيال معينة في اختراعها، لكن يجب ان ندين بالفضل للذين اكتشفوا(لم يخترعوا) مراحل تحولها والذين وضعوا المقاييس العلمية والرياضية لقراءة حالاتها المستقبلية كالتعريف الماركسي العلمي للتاريخ.
وما تعريف التاريخ الذي يمثله الصراع الطبقي ((عند كارل ماركس)) الا تجسيد واضح لصراع الفكرة ونقيضها، ففكرة الفقير نقيضها الغني والعامل نقيضها رب العمل والفلاح ونقيضها الاقطاعي والاقلية ونقيضها الاغلبية او الطبقة العليا والطبقة الدنيا........الخ. لكن مايجب الانتباه اليه هو انه لاينبغي لتعريف التاريخ ان يتوقف على أزلية الصراع الطبقي فحسب لانه، بمعنى اشمل، يمثل الصراع الدائم لكل الافكار ونقائضها وعليه فاستمرار التاريخ يعتمد على تناوب السيادة، فتارة تسود الفكرة ويسود النقيض تارة اخرى لذلك فقد قيل ان ((التاريخ يعيد نفسه)).
لايتسع المجال هنا لذكر الجذور التاريخية لكل فكرة ولكن سنحاول اعطاء بعض الامثلة التي تدعم مانذهب اليه في كون الافكارمخلوقة منذ البدء، فالفكرة كالمادة لاتفنى ولاتستحدث ولكنها تتحول من الفكرة الى نقيضها. لكن الفرق بين المادة والفكرة في عملية التحول هذه هي ان العامل البشري يلعب دورا أقل تأثيرا في تحويل الفكرة الى نقيضها والوقت الذي ياخذه هذا التحول اطول بكثير من الوقت الذي تحتاجه عملية تحول المادة الى حالتها الأخرى.
عند قراءة نصوص تاريخية عريقة كملحمة جلجامش او الالياذة او الاوديسة ((لهوميروس)) لاتشعر انك تقرأ قصصا لاقوام لهم افكار مختلفة بل على العكس تشعر وكأنهم يعيشون عصرنا الراهن وهذا التشابه سببه ان الافكار السائدة في تلك العصور هي نفسها أفكار العصر الذي نعيشه.
ليس من نظرية فلسفية معاصرة الا وكان لها جذور في تاريخ الاغريق الفكري ولعل تاريخ الافكار الاغريقي نفسه نهل من او بنى على افكار امم اخرى، فتأثرت افكار هيراقليطس ومعاصريه من فلاسفة الثنائية ( (Dualismبالديانة الزرادشتية والفلسفة الثنائية هذه مبنية على أساس الفكرة ونقيضها أيضا.
لقد خاض الفلاسفة في مواضيع الافكار المولودة مع الانسان والافكار المكتسبة بالتجربة فاعتبر أفلاطون ان المعرفة المكتسبة من الادراك الحسي ((sense perception هي معرفة ناقصة لانها نسبية ومتغيرة بشكل دائم وقد نظر الفيلسوف الفرنسي ديكارت لفلسفة quot;أفكار فطريةquot; ((Innate Ideas لاثبات وجود الخالق واعتبر ادراك الانسان لحقيقة ان هناك كائنا متكاملا يدير الكون دون ان تدركه حواسه لهو دليل اكيد على فاعلية الافكار الفطرية والتي تولد مع الانسان. وقد صنفت الأفكار الى صنفين: الفطرية ((Priori والمكتسبة ((Posteriori.
ونحن لانعتقد ان هناك افكارا مكتسبة بل ان هناك تفاصيل اوانطباعات مكتسبة مطورة عن أو هي امتداد للأفكار الفطرية.
عودة لموضوعنا، التاريخ الفكري البشري منذ بدء الخليقة يدور حول دائرة مغلقة، بدأ في نقطة أ (التي تمثل الفكرة) على محيط الدائرة وابتعد عنها بالأتجاه المعاكس ليصل الى النقطة ب (التي تمثل النقيض) بعد ان قطع 180 درجة ولكن كلما ابتعد اكثر اقترب من نقطة البداية حتى يعود اليها بعد ان يدور دورة كاملة قاطعا360 درجة ثم تعاد الكرة وهكذا.
فلو أخذنا(على سبيل المثال) فكرة الاحتشام التي تعني تغطية الجسد- حسب التعريف الديني- ونقيضها quot;التعريquot; فسنرى ان الانسان الاول كان عاريا ثم بدأ تدريجيا - بعد ان انتبه الى نفسه- بتغطية اعضائه التناسلية باوراق الشجر ثم تطورت الفكرة تدريجيا مع التطور العلمي والصناعي للانسان فبدا يغطي اجزاءا اخرى من جسدة الى الحد الذي غطى به كل الجسم عدا الوجه والاطراف حينها بدا تعريف الاحتشام يتجه نحو نقطة البداية وبدات من جديد ظاهرة كشف وتعرية أغلب الجسد التي اضحت الآن من علامات تقدم المجتمعات.
وفيما يتعلق بالجنس، فقد كانت المجتمعات البدائية مجتمعات اباحية أو تمارس مانطلق عليه في الوقت الراهن مصطلح ((((Public prostitution لكن مع تطور الزمن نظمت المجتمعات العملية الجنسية ووضعت لها قوانينا صارمة (قوانين الزواج أوالقران) هذه القوانين بدأت تضعف مع تطور مفاهيم حقوق الأنسان وعلم التحليل السيكولوجي فاضمحلت لترفع القيود عن عملية اشباع الغريزة فاعتبر مؤسس علم التحليل السيكولوجي ((سيجموند فرويد)) ان الجنس أحد أهم العوامل التي تحدد سلوك الانسان وبالتالي فان القيود التي وضعت على العملية الجنسية هي أحد أسباب تخلف المجتمعات، فلاقى هذا التحليل رواجا عالميا وفعلا تم لفرويد ماأراد وتمتع الغربيون بحرية اكبرفي ألوصول الى الجنس الآخر فأوشكت هذه الفكرة على اكمال دورانها لتلتقي مرة أخرى بمفهوم الاباحية عند المجتمعات الأولى.
فكرة((الفرد)) ونقيضها ((المجتمع)). بدأ التاريخ بفكرة الفرد ابان المراحل البدائية لحياة الانسان وتحولت الى نقيضها ((المجتمع))- بعد ان دارت نصف دائرة- متجسدة بافكار الديانات والفلسفة الشيوعية العالمية التي انبثقت من افكار((هيجل))الوطنية لتعود فكرة الفرد من جديد وتطغي على المسرحين الأجتماعي والسياسي في المفاهيم الديمقراطية المعاصرة.
فكرة ((المرأة)) ونقيضها ((الرجل)). تبادل الرجل والمراة ادوار السيادة على مر العصور فقد قدست المراة في مراحل تاريخية هامة وكانت النساء تمثل الآلهة كعشتار البابلية وافروديت الاغريقية - كان البابليون يدفنون الرجل حيا معها اذاما ماتت زوجته- واعتبرت الام سببا للوجود لانها من يهب الحياة لتعود وتعطي الرجل اليد العليا ((كانت الديانات التوحيدية وادانتها للمراة اعتمادا على نصوص quot;سماويةquot; هي من اعاد للرجل سلطته المفقودة))، وبالرغم من ان المشرعين المعاصرون حاولوا جاهدين تثبيت مبدا المساواة بين الرجل والمراة لكن الكفة بدأت تميل لصالح المراة في الغرب. ((أرجو ان لايفهم من المثال اعلاه انني ضد حقوق المرأة، أنه مجرد مثال لدعم المقال))
مثال أخر هو فكرة ((المادة)) ونقيضها((الروح)) وهذه متجسدة في الصراع الفكري الدائم بين المؤمنين والملحدين وبدات الفكرة بالالحاد وتحولت الى الايمان وتقترب الآن من نقطة البداية التي هي الالحاد والغرب الى نقطة البداية اقرب من الشرق وقد يكون هذا اهم اسباب الحروب الغربية الشرقية.
للامم (في كل العصور) مواقع مختلفة على محيط دائرة الحركة الفكرية فاختلاف افكارها ناتج عن اختلاف هذه المواقع وهذه الامم في حركة فكرية دائرية دائمة يجعلها تتبادل المواقع بشكل مستمر وسوف لن تلتقي في نقطة معينة لان التقائها سيكون نهاية التاريخ وقد تكون في نهاية التاريخ نهاية للكون لان استمرارهذا الكون- من وجهة نظرنا- يعتمد على مبدا صراع الاضداد والاختلاف الفكري هذا هو السبب المباشر للحروب والنزاعات الدولية التي قررت لها الاقدار ان تستمرالى الابد. وعلى هذا الاساس فان تبنى الغربيون فكرة فيتبنى الشرقيون نقيضها والعكس صحيح.
الوسطية او الاعتدال ((الذي يمثل نقطة معينة على محيط الدائرة)) هو خير الامور لكن الحركة الفكرية لن تتوقف عندها بل تمر بها فحسب في مرحلة من مراحل حركتها الدورانية حيث لااحد يملك القوة اللازمة لايقاف الدوران الديناميكي لعجلة تحول الافكار الى نقائضها.
نعيم مرواني
[email protected]
التعليقات