أسست القياده الراحلة الحركة الوطنيه الفلسطينيه على الشعارات.. والعواطف.. وقدسية التضحيات وربطتها بقدسية الدين.. مستغلة قدسية الدعوة للدين والجهاد الروحي من أجل إقناع الآخر بروح الرساله، بالإستشهاد من اجل تحرير فلسطين.... وإستمرت على نهجها هذا بدون مساءله.. وإختفاء أي نقد خوفا منها.. أو إحتراما لها..وبدون إعادة نظر في تلك الإستراتيجيه خاصة بعد 11 سبتمر.. ورحلت القياده السابقه.. ووقف الفلسطينيون أمام التجربه الديمقراطيه التي لم يألفوها.. وعماهم الفساد المستشري الذي أسسته تلك القياده عن ما قد يتوافق مؤقتا مع مصلحتهم و جاءت نتائج الإنتخابات الأخيره وأثبتت أن بإمكان الشعب الفلسطيني قول كلمته وإن لم تأتي في الوقت المناسب عالميا لتتناسب فيه مع التضحيات الفلسطينيه الكبيرة.. لقد أعمى الفساد.. والتعنت الإسرائيلي وفشل المفاوضات في وقف العملية الإستيطانيه.. بحيث صبت كلها في مصلحة حركة حماس الإسلاميه.. وبغض النظر فيما إذا كنت أؤيد حماس ام لا.. أو أؤيد نهجها في الحفاظ على مابقي من أرض فلسطين فإنني ألتزم بإحترام خيار الإنسان الفلسطيني.. وأتمنى أن تتغير حماس وشعاراتها من داخلها لتتناسب مع المصلحه الفلسطينيه في الظرف الراهن وللحفاظ على مستقبل الفلسطيني.. ولأنني أرفض تسيير الإنسان الفلسطيني مرة اخرى بشعارات جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع..

إن المبالغه التي إستعملتها كلتا القيادتين فتح وحماس في إنتصاراتهما الواهيه ضد إسرائيل إضافة إلى تمجيد العنف وتقديس الإستشهاد ادى إلى إمتلاء فارغ بالنفس..مضافا أليه الحقد الذي عملت إسرائيل على تأجيجه بإستمرار أدى إلى الرغبة الطوعيه للخروج من الحياة بدل عذاب إسرائيل.. وعذاب الفقر.. في ذات الوقت الذي بدا واضحا فيه وجود وظهور طبقة الأغنياء الذين أثروا من مناصبهم السياسيه سواء بحق أم بعمولات..
والآن وفي مفترق الطريق الذي يقف فيه الفلسطيني وحدة تحت نيران إسرائيل.. وأنا أسمع أبواق تنادي بقطع المفاوضات وبإنتفاضة ثالثه.. وبمحو إسرائيل من الوجود.. لعدوانها الغاشم.. ولجبروتها وعدم إلتزامها بأي قوانين دوليه ولا إنسانيه.. خاصة في عدوانها الأخير على غزة.. أعود لأقول بأنه من السهل علينا أن نتشدق بكل هذه الهستيريا.. مرة اخرى فنحن وأحباؤنا في مأمن من الجوع ومن الرصاص المتعمد أو الطائش.. ولكن هل حقا يستطيع الفلسطيني القابع تحت الإحتلال تحمل تكاليف إنتفاضة ثالثه..

لا نستطيع ذلك بدون تقييم..
1- كلفة الإنتفاضه السابقه.. التكلفه البشريه التي لا تعوّض.. و عدد المعاقين.. إضافة إلى الخسائر الإجتماعيه الناتجه من شيوع الفقر والبطاله وإنخفاض المستوى الصحي.. والإنقطاع المتتالي للعمليه التعليميه.. ثم إنهيار الإقتصاد الفلسطيني والتي بلغت 12 بليون دولار..

2- كلفة الإقتتال الفلسطيني بين فتح وحماس.. الذي أسفر عن مقتل 500 فلسطيني..إضافة إلى شحنة العنف الكبيرة التي أكدت عدم قدرتهم على التحكم بأنفسهم وحل منازعاتهم بدون الميل السريع لإستخدام السلاح مما ا إنعكس سلبا على صورتهم العربيه والدوليه وأخافت الجميع من إنتقال هذا الغضب عبر حدوده.. وهي التي تدفع بمصر الدولة الأم لبناء الجدار حاليا..

بعد هذا.. هل يستطيع الفلسطيني تحمل أعباء إنتفاضة جديده..
نعم يستطيع ذلك ولا يملك سوى ذلك خاصة أمام الإدعاءات الإسرائيليه أن قيام دولة فلسطينية بما هي عليه سواء في غزة أم في الضفه.. يشكل خطرا أمنيا عليها الان ومستقبلا......
ولكن الإنتفاضه الجديده يجب أن تكون بوجه جديد.. وبأساليب مبتكرة.. تأخذ شكلا حضاريا مختلفا عن الإنتفاضة السابقه وما لازمها من عنف لم يجلب للفلسطيني سوى الدمار وجدار الفصل العنصري.. وجدار خوف الدول العربيه منه.. ومحاولة التنصل من مسؤلياتها الأخلاقيه معه..

الأول.. بإستعادة الوحده الوطنيه..مهما كانت المراره وسوء الفهم بين حماس وفتح.. فالإنسان الفلسطيني في غزة وفي رفح وفي نابلس والقدس وبيت لحم ورام الله وجنين.. هو أخ للآخر.. ولن تكون هناك أية تسوية مع إسرائيل.. أو تغيير لصورة العنف الفلسطيني بدون هذه الوحده..

ثانيا.. فك أسر الإقتصاد الفلسطيني عن الإقتصاد الإسرائيلي.. وهذه هي المرة الثالثه التي اكتب فيها عن أهمية فك أسر الإقتصاد الفلسطيني الذي جعلته إسرائيل تابعا لها.. حيث أثبتت الإحصاءات أن واردات السلطه الوطنيه من منتجات إسرائيل الزراعيه تقارب 2 بليون.. تدفع ثمنها السلطه الوطنيه من المنح الأحنبيه.. أي أكثر بكثير مما تستورده فرنسا وإيطاليا مجتمعتين من إسرائيل وهما من دول الثماني أغنى دول في العالم..بمعنى أن كل المنتوجات الزراعيه الأقل جوده التي ترفضها الدول الأوروبيه والشارع الإسرائيلي تصدّر إلى غزة والضفة الغربيه.. وأن السلطه الوطنيه هي أكبر مستهلك للبضائع الإسرائيليه بعد الولايات المتحده..

ثالثا.. توجيه كل المنح والمعونات القادمه إلى مشروعات بناء البنيه التحتيه من طرق ومدارس ومستشفيات وغيرها مما يعمل على توجيه طاقة الإنسان الفلسطيني لبناء ذاته وبلده لإسترجاع إحساسه بالكرامه.. ولإستيعاب اكبر قدر ممكن من الأيدي العامله بدل إستعمالها في بناء المستوطنات الإسرائيليه؟؟ وهي النقطه التي تستطيع الدول العربيه إستعمالها بجدارة في المساومه مع الولايات المتحده ومع إسرائيل لكي تهدأ من حالة العنف والعنف المضاد بين الشعبين.. وقد يكون من الأفضل أن تتولى مصر تصدير منتوجاتها الغذائيه عن طريق رفح بدل إقفال الحدود وبناء جدار فصل جديد ستكون نتائجه من العنف والحقد أكبر بكثير من ممائله على الحدود الإسرائيليه....
لقد أثبتت التقارير أن المعونات الإنسانيه القادمه من الدول الأخرى تأتي عبر إسرائيل وهي أيضا ورقة مساومه تستطيع أي من الدول العربيه المجاوره لفلسطين إستعمالها حتى لا تبقى حياة الفلسطيني رهن بخوف إسرائيل الحقيقي أم المبالغ فيه.. بمعنى آخر تجريد إسرائيل من ورقة ضغط أخرى تستعملها حين إقفال معبر أيريز لإبقاء الفلسطيني أسيرا لها... ولإحداث ردود فعل فلسطينيه تستغلها في المجتمع الدولي......

على كل القيادات الفلسطينيه الإلتزام بإستراتيجيه جديده تقوم على الصدق ومصارحة الشعب الفلسطيني بمقدراتها الحقيقيه.. والخروج من التصريحات المتناقضه.. والتصريحات الشعبويه اللا مسئوله والتي تهدف إلى زيادة الرصيد الجماهيري بدون إرتكاز إلى الواقع الحقيقي وتملىء نفس الفلسطيني بالمستحيل بدل الممكن..

E1إن وقف إسرائيل لبناء الطريق المعروف
في القدس والذي إن تم بناؤه سيمحي أي أمل للدوله الفلسطينيه يؤكد على إصرارها على فصل نفسها عن الفلسطينيين.. حتى ولو بشروط مجحفه.. الطريق الوحيد لتصويب إسرائيل
هو الضغط الدولي...
إن زيارة عاموس جلعاد المسؤول في وزارة الدفاع الإسرائيليه إلى مصر من أجل التهدئة تؤكد قلق إسرائيل.. ولكن ومع هذا القلق تستطيع الإنتظار وتستطيع تدمير وحرق قلب الفلسطيني.. لكنها لا تستطيع تحمل إنتقادات يهودييها في العالم الخارجي.. وتشويه صورتها كأكبر منتهك للحقوق الإنسانيه في العالم.. حتى وإن كانت تكلفتها البشريه من إطلاق الصواريخ العبثيه لا تمثل إلا نسبة ضئيله جدا مقارنة مع ما تتسببه من تدمير على الأرض الفلسطينيه إلا أن هذه الصواريخ تعطيها المبرر الدولي لما تفعله.. لأنها تعتبره رفضا لوجودها بالمطلق وليس مقاومة لإحتلالها..
ولكن وفي كل الأحوال وسواء قامت الدولة الفلسطينية أواخر ديسمبر 2008 كما حددها وإلتزم بها الراعي الأميركي.. أم لم تقم. فإن على الفلسطيني التعامل مع الممكن.. وأن يثبت للعالم بأنه إنسان جدير بالحياة وبالإلتزام بالتهدئه وبالقانون.. إنسان يستطيع بناء نفسه من لا شيء.. كما صبر كل هذه السنين.. المجتمع الدولي والعربي مسؤول عن تمكين الفلسطيني من العيش بكرامة على أرضه وفي بيته.. خيار العنف للفلسطينيين إنتهى وثمنه أكبر بكثير من شعارات ومكتسبات وهمية ضيّع من أجلها مستقبله ومستقبل أولاده.. لأن هذا العنف وصل إلى بيته.. وإلى أطفاله..وإلى مجتمعه.. بحيث أصبح خطر على نفسه وعلى مستقبله أيضا.. خيار العيش هو الأساس في العالم كله.. قضاياه الحياتية التي تتطلب الخبز أولآ.. إنقاذ ونحرير كل الأرض الفلسطينية أصبح من المستحيلات..وأي من يدّعي غير ذلك فإنما ليس فقط يظلم الفلسطيني.. وإنما يقتله...
خياراته شبه معدومة فإما الصمود مع تمكينه إنسانيا للحياة وإما ما تتمناه إسرائيل من الرحيل والترانسفير.. وحتى هذا فإنه معدوم نظرا لعدم سماح معظم الدول العربية وألأجنبية دخوله إليها وخوفها من العنف الذي تأصل فيه.....نعم لا زلت انادي بحقوق الإنسان الفلسطيني.. وبحل الدولتين في حدود 67 مهما كان مجحفا.. لأن مقياس الكرامه لا يقاس بالكيلو ميترات.. وإنما بالتصرف العقلاني والحضاري والتطلع إلى المستقبل.. بأمل وبكرامه..

مسكين أنت أيها الفلسطيني.. الكل يدّعي الأخوه.. والكل يرفضك سواء مصر أم الأردن.. أم سوريا.. أصبحت تشكل تهديدا حضاريا على هذه الدول.. ولكن الأهم تهديدك على نفسك وعلى مستقبل أجيالك القادمه..
بدون سلك هذه الطريق.. وإن كانت من أقسى ما يستطيع تحمله بشر إلا أنها الطريق الوحيده..

نعم لقد شاهدت حرق غزة.. وحرق قلبي معها ولكني لا أجد أي وسيلة أخرى لإستعادة الكرامه الفلسطينيه سوى بإستعمال لغه حضاريه تؤكد تحّضر الفلسطيني أيضا..


أحلام أكرم

باحثه وناشطه في حقوق الإنسان