مما لاشك فيه إن فلسفة القانون أوشكت أن تأخذ مكانها التاريخي اللائق بها ما بين مجمل فروع العلوم النظربة الأخرى في معظم جامعات العالم لاسيما الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية. بل أنها أكتسبت إهتماماً منقطع النظير في كل من الجامعات الإيطالية والأسبانبة حيث تمنح فيها أعلى الدرجات العلمية. في حين إن الجامعات الألمانية و الهولندية والنمساوية تدرس هذه المادة تحت مفهوم فقه القانون. بالمقابل إن الجامعات الفرنسية والبلجيكية تدرس هذه المادة تحت اسمها الصريح quot;فلسفة القانون quot;.


من الملاحظ أن فلسفة القانون ترتقي بقدمها إلى أيام هيجل الذي ألف كتاباً تحت أسم ( الخطوط العريضة لفلسفة القانون ) وكذلك أيام كانط الذي ألف هو الآخر مخطوطاً بعنوان ( المبادئ الميتافيزيقية لعلم القانون ) حيث سعى فيه إلى التمييز مابين فلسفة القانون الطبيعي من ناحية وفلسفة الأخلاق من ناحية أخرى، لكن كلاهما ( هيجل و كانط ) أخفقا في إيجاد مرتكزات فلسفة القانون، وتاها في خضم التلاقي ما بين الفلسفة ( وبالتحديد فلسفتهما ) وفلسفة القانون. حيث أن الأول ربط ما بين القانون والفكرة ( الروح المطلقة ) وكأن القانون هو قانون الفكرة، ولا قانون خارج قانون الفكرة، وبالتالي فإن فلسفة القانون هي فلسفة قانون الفكرة، ومبادئ فلسفة القانون هي مبادئ فلسفة قانون الفكرة ( الروح ) وبالأستنياط فإن المقولات المتعلقة بفلسفة القانون مثل ( العدالة، الحق، المساواة، الحرية، العقوبة، الفرد، التأهيل و الأصلاح، التدابير الأحترازية...الخ. كمفاهيم ) تخص وجود الفكرة، وتفقد موضوعية معناها وشرعية وجودها خارجها ( أي خارج الفكرة ). أما الثاني ( أي كانط ) فقد ربط ما بين القانون ونظرية العقل العملي وكأننا إزاء مادية ما قبل الساذجة حيث أن الفلسفة ( بصورتها التقليدية ) وكذلك القانون هما جزءان من تطبيقات مبادئ أخلاق المجتمع الكلية. ف( كانط ) لايرى ~ الأخلاق ~ كجزئيات ولاحتى كليات تمارس ضمن المجتمع أو وفقاً لقوانينه وإرتقائها، إنما كليات تسيطر عليه وحتى على المجتمعات المتباعدة (نظرية العقل العملي ). وهنا أرجو الأنتباه فهذه الأخيرة لاتحدد فقط مضمون ( القانون ) إنما تحدد أيضاً ويصورة مسبقة وقطعية مبادئ ( فلسفة القانون ). وكأني به ( أي كانط ) يصادر مفهوم الأخلاق لدى كل من سقراط و أرسطو و توماس الأكويني و القديس أوجستين. ويقلد بشكل محاكاة منطلقات الأخلاق لدى أفلاطون.


يالرغم من ذلك أن التمييز الجاف أو المطلق ما بين فلسفة القانون من ناحية والفلسفة العامة من ناحية أخرى نقطة ضعف يٌعاب عليها مجمل المختصين في مجال فقه القانون في كل من فرنسا وإيطاليا وأسبانيا، وحتى في مصر، لكن هذا لايلغي التفارق لافيما بينهما ولا مابين فلسفة القانون وقانون الفلسفة. وإذا كان تعريف فلسفة القانون مرهون بتعريف الفلسفة العامة، فإن هذا الأخير ( التعريف ) تعرض بدوره لمفارقات عديدة تبعاً لنوعية منطلقات تلك الفلسفة. فكبار الفلاسفة أمثال هيجل، كانط، ماركس، سبينوزا، جابريل مارسيل، ديكارت، بوانكاريه، وليم جيمس، أوغست كونت، وضعوا تعريفات متباعدة للفلسفة حسب وجهة النظرة الشخصية في فهم و أدراك مقومات الفلسفة من خلال العلاقة الكلية في الموضوعات الأساسية مثل الكون، الوجود، الأخلاق، الغاية، الله ( جل وعز )....الخ.


من هذه الزاوية على وجه التقريب يطرح ميشيل فيليه في مؤلفه ( تعريفات وغايات القانون ) فكرة مفادها لأدراك مقولة أستنطاقات الفلسفة ينبغي الرجوع إلى مدلول هذا المصطلح لدى فلاسفة الأغريق بارميندس، فيثاغورث، هرقليطس، سقراط..الخ. ويبدو أنه هو الآخر يقع في المصيدة، فدراسة المبادئ والأصول العامة المجردة حتى وإن ولجت ثنايا وغياهب الوجدان البشري أو اللذة البشرية ( أرسطو، أفلاطون، طاليس، أبيقور ) لاتستتب في أستقرارها على ركيزة مطلقة أو نزوع مطلق، إنما كأن الجوهر يهرع إلى ذاته في إرتقائه. وهذا ربما يفسر قول ماركس في وعي الفلسفة وقوانينها ( إن دور الفلسفة ليس هو تغييرالعالم أو تفسيره، إنما هو إدراكه واستيعابه، كقوانين موضوعية مستقلة خارجة عن الإرادة البشرية ). وهو بذلك يعارض مقولة هيجل الكبرى حينما يقول ( أن الحقيقة تكمن في معرفة الكل والزيف في إدراك الجزء ) وكذلك يناقض مفهوم أرسطو والفارابي والغزالي لعلم الفلسفة ( أن علم الفلسفة هو علم العموميات والمبادئ الأولية ). وبغض النظر عن الأختلاف في وجهات النظر هذه فإن كل تقدم أو تطور حدث في المجال القانوني كانت فلسفة القانون وراءه بمثابة الباعث أو المحرك. والتي بفضلها أمكن ليس فقط تحطيم سلطة القوانين الحاكمة وأبديتها، إنما تم إضفاء عناصر جديدة على دالات تفسير التاريخ وغايته في حال حركبة ديناميكية، بعيداً عن الحالة السكونية الميكانيكية، بعيداً عن المطلق، وقريباً من النسبي الذي يصبو إلى الأطلاق وإلى التغيير. وهذه الرؤية هي التي تبين لنا كيفية تصرف فلسفة القانون كباعث ومحرك فعال لأعظم التغيرات القانونية والسياسية في التاريخ الأنساني الأجتماعي مثال ثورة سبارتاكوس، الثورة الأنجليزية عام 1688، والثورة الأمريكية 1774 ndash; 1776، والثورة الفرنسية عام 1789 التي كان من أهم آثارها مقولة الدولة القانونية والديمقراطية السياسية ومبدأ الفصل بين السلطات الثلاث ( السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، السلطة القضائية ) وغير ذلك من المفاهيم والمبادئ التي نادى بها الفلاسفة أمثال جان جاك روسو، لوك، مونتسيكيو، ديدرو، فولتير ثم كانط وجروسيوس، وهوبس.


بالمقابل يحاول العميد روسكو باوند منح فلسفة القانون أبعادها الجوهرية في مخطوطه ( مدخل إلى فلسفة القانون ) كوثيقة أخلاقية وقانونية وسياسية تتأقلم مع كافة الأزمان ومع جميع الأقتضاءات، ضمن معادلة كينونية أنطولوجية ظاهراتية لبلوغ صورة كاملة نهائية تضبط المجتمع وتنظمه بل تقوده حتى. وكأني به يؤمن بقدرة فلسفة القانون على الوصول إلى الحقيقة القانونية الأبدية. وفي رأي هذه هي الأشكالية الكبرى لدى روسكو باوند ففلسفة القانون تتمتع بدورين، دورها الخاص ودور ( الفلسفة )، وإذا أمكن لها أن تحاكي الحقيقة القانونية الأبدية، فأنها في الموضوعي تحايث غاية الحقيقة، وهذا كان ولازال مثار جدل عقيم وطويل وسفسطائي. لأنه بات جلياً وبيناً أن غاية الحقيقة ( أرجو الأنتباه إلى الفرق ما بين مفهوم غاية الحقيقة، ومفهوم الحقيقة نفسها ) كمفهوم كلي باء بالفشل الذريع لدى التيارات الفلسفية قاطية ( الفردية منها والجماعية ) إعتباراً من كونفوشيوس وبوذا، مروراً بالفلسفة الأغريقية ثم الفلسفة المسيحية ( توماس الأكويني ) و الفلسفة الإسلامية ( بأستثتاء مفهوم الأعتقاد ومسائل المعتقدات ) منتهياً بالفلسفات الحديثة والمعاصرة ( هيجل، ماركس، سارتر، بيرس، برغسون، أوجست كونت، هسرل، جون ديوي، رولان بارت، ياسبرز).


إلى هذا وذاك، يمكننا نقض مفهوم فلسفة القانون لدى كل من هيجل وكانط، من خلال إبداء رأينا في الخصائص الأصلية لها تلك التي تفند وتدحض منطلقاتها لدى الفليسوفين والتي نختزلها في الآتي. الخصيصة الأولى. الديمومة. فلسفة القانون هي من المقولات النادرة جداً التي لا تفتقر في وجودها إلى مسوغ داخلي أم خارجي يضفي إليها كينونتها الخاصة، لأنها محصلة المجتمع ومردود تفاعله، لذا يمقتها ويكرهها الأنقطاع / الشرخ الذي لا يملك نوازع الأقتراب تأصيلاً. فالديمومة لاتتسرب إليها من زاوية المعنى فقط، ولا من زاوية الأنطولوجيا فقط، بل من الزاويتين معاً. وخطها البياني بترادف استطراداً مع درجة تفاعل المجتمع ويقترب من نقطة الصفر الموضوعي بأقتراب التفاعل من الموت السريري... الخصيصة الثانية. التحولية. فلسفة القانون تنفر من السكون وتتحاشى الطبيعة الواحدة لسبب بسيط هو أن مكوناتها لاتستتب على حال معينة. ففحوى ( العدالة، المساواة، الحق، القانون المحض والقانون الأجرائي، مستوى الإدراك..الخ ) يتبدل من حال إلى حال ويتبع في تبدله أمكانية التطور وحجم الأحتكاك ( مبدأ العطالة، ومبدأ الثقالة، ومبدأ الحركة )، وقوى التصارع والتنافس، وميدأ الآلة العلمية، وقوى ووسائل وأساليب الأنتاج... الخصيصة الثالثة. النسبية. فلسفة القانون لا تنحسر لا في دائرة مغلقة ولافي حيز مسبق، إنما هي دائماً على أستعداد لتجاوز ذاتها سواء من زاوية الماهية أم من الزاوية الإجرائية. فهي وإن أعتمدت على ( أساليب، وفحوى ) الآن، فسرعان ما تستمد براعم من ( أساليب، وفحوى ) جديدة. الخصيصة الربعة. اللاتزامنية. فلسفة القانون تمتاز دائماً بأسبقيتها على ( الواقعي ) وأرتهانها وأرتكانها ل( الموضوعي )، وهذه هي المفارقة ما بين ( الواقعي ) و ( الموضوعي ). وكأن الواقعي يجسد القديم السالب ومبدأ العطالة، في حين أن الموضوعي يجسد السلب والإيجاب معاً مع مبدأ الحركة. فاللاتزامني هو جنوح الديمومي والتحولي نحو إرتقاء تصاعدي، وأستمداد الماضي من المستقبل أو اللاآن من الآن أو الموت من الحياة. وهذه هي حال فلسفة القانون في علاقتها بمفهوم ( القانون ) بشكله المحض.... الخصيصة الخامسة. الحدية. فلسفة القانون لاتقبل التجزئة لاعلى صعيد مضمونها الخاص، ولا على صعيد دالتها، ولا على صعيد إدراكها، ولا على صعيد تاريخانيتها. تلك التاريخانية التي لاتترائ إلا من خلال ( دراسة تاريخ قانون البشرية ) بأكمله. كما أن الحدية لا تقيل ( هنا ) إلا ب( التمايز، التخصص، التمظهر ) الأبعاد الحقيقية لمفهوم الظاهرة.. الخصيصة السادسة. اللاتراجعية. فلسفة القانون تعتمد على مبدأ التراكم، وكل ما تكتسبه ( تفاعل، تطور، حركة ) تعتبره من الماضي، وتصبو وتطمح إلى التمايز ( حسب المبدأ البيولوجي )، وكأنها تطبق مقولة آدم ميشنيك الشهيرة ( كي تكون واقعياً، ينبغي أن تطلب المستحيل ) والتي هنا تغدو على الشكل التالي ( بما أنك موضوعي، ينبغي أن تطلب المستحيل ). وإذا ما بان شئ يشبه القهقرى أو التراجع نحو آفاق أدنى فهو الظاهري الخادع، لأن إن خسرت فلسفة القانون بعض المعارك فلا مناص من أن تكسب الحرب. ودليلنا على ذلك، بصورة ماكروسكوبية، تطور المجتمعات، تطور القوانين، تطور الفكر، إنحسار الديكتاتوريات، تطور الآلة العلمية. ثم برهاننا الأكيد على ذلك، حقوق الأنسان وسيادة الفرد.


فحقوق الأنسان لم تعد رهينة لدى دولة معينة أو سيادة معينة، بل غدت وديعة دولية وباتت بعد الأحداث الأخيرة مرتكزاً عالمياً على الصعيد الأجتماعي والسياسي مانحاً للقانون الوضعي بعداً جديداً ومفهوماً جديداً. ومن جهة ثانية برز مفهوم جديد على صعيد فلسفة القانون أسميه سيادة الفرد، فالفرد بعد أن كان يرضخ لسيادة الدولة التي ينتمي إليها، غدا ينتمي إلى سيادته الخاصة به من خلال الحقوق الواجبة له، وأصبح عدداً في المجال الرياضي طبقاً لمفهوم برتراند راسل في مؤلفه ( أصول الرياضيات ) وهو العدد الذي يعدم الصفر ويؤلف التركيب التراكمي. وهو عين المعنى المشار إليه في الآية الكريمة quot; إقرأ...إقرأ بأسم ربك الذي خلق quot;. وهكذا يضحو ( فرداً مستقلاً ) ( كياناً مستقلاً ) ( عنصراً جغرافيو ndash; ديموغرافياً خاصاً ).... الخصيصة السابعة والأخيرة. الحيادية. فلسفة القانون ليست طرفاً في ( النزاع ) إنما هي طرفاً في المعادلة. والحيادية لديها تجبي التركيب على التفسخ ولا تمانع أن يحدث الأحتدام. لهذا أن فلسفة القانون ليست عاملاً لذاته أو عاملاً للآخروي، بل شيئاً في ذاته. وهذا الذي يقينا أن نقع في المصيدة مثل روسكو باوند..

هيبت بافي حلبجة