quot;إننا كمؤمنين، نبقى متمسكين بكلمة الله التي فيها الحياة، وهي التي تفتح لنا دائما أبواب الرجاءquot; (من أقوال المطران فرج رحو المختطف حتى هذه الساعة).


سعدنا هذا الأسبوع في الأردن، بزيارة الكاردينال ليوناردو ساندري، عميد مجمع الكنائس الشرقية في الفاتيكان. استقبلته الكنيسة الكاثوليكية، بكل الحفاوة وروح الأخوّة. فالمجمع الشرقي يُعنى بالكنائس في شرقنا العزيز، وعلينا استقباله رئيسا لهذا المجمع وممثلا لقداسة البابا.


تجمّع البطاركة والأساقفة والكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنون من كل حدب وصوب، لتحية نيافته والمشاركة بالقداس الخاص، ومن بينهم البطريرك ميشيل صبّاح، بطريرك القدس، القدس الحزينة على غزّة وشهدائها الأبرار. من كان هناك أيضا؟ البطريرك الكلداني مار عمانوئيل الثالث. جاء من العراق ليحيي أخاه في الكهنوت والأسقفية، وقد نالا معا لقب الكاردينال في احتفال واحد في تشرين ثاني 2007. أعانك الله أيّها الكاردينال الضيف! فأنت تقف بين بطريركين لكل واحد من العناء ما يكفي لمئة عام: بين القدس وغزة والعراق.


لكن، ما بال البطريرك الكلداني حزين؟ لا بل ما بال دمعتان تتساقطان على خديه السمحين؟ ثمّة أنباء لا تبشر بالخير، فقد أختطف المطران بولس فرج رحو. وقتل المجهولون (هل حقا هم مجهولون) ثلاثة من رفقائه.


جوّ حزين ساد في القداس في الأردن، لذلك لم يتوانَ الكاردينال عن التنديد بهذا العمل الإجرامي وغير الإنساني والذي لا يخدم أحدا، ولا يعبّر عن وحدة الشعب العراقي. فيما رفع الجميع أكفهم قائلين: quot;أيها الرب، نجنا من الشريرquot;.


ثمّة شرور في هذا العالم. وجلّها من صنع البشر، مع كل أسف، وصارت تنفّذ في وضح النهار. دونما رادع ودونما سبب.
اختطاف مطران. أصبح غير العادي عاديا. وأصبح اختطاف رجال الدين ( المسيحيين حصريا ) أمرا متوقعا في كل حين. رغم الدعوات الملحة منهم إلى المحبة والوحدة الوطنية، وأصبحت كلتا الكلمتين سلعة بالية. فلا محبّة ولا وحدة وطنية. والا، فبأيّ حق وبأيّ ضمير وتحت أيّ مبرّر يختطف مطران جليل، كان خارجا من صلوات درب الصليب في زمن الصوم، ليسير به خاطفون في درب صليبه هو مكمّم الوجه معصوب العينين، تماما كما كان يتأمل بوجه مسيحه قبل لحظات في درب الصليب. ليس من مبرّر سوى التعصّب الأعمى البغيض. لكنّ ثمّة سببا آخر وهو المال. أجل المال. فمن أجله يقتتل الناس وعند قدميه تركع البشر، وتحاول تركيع حبرٍ جليل كرّس نفسه للركوع عند إله المحبة والمغفرة. وقد علمه الإيمان والتجربة أنّ الركوع لغير الله مذلّة.


المال إذا هو المصيبة. وهو في الوقت ذاته واحد من ضحايا الصراع القائم في الشرق من أجل نشر quot;الديمقراطية والحرية quot;. فقبل أيام اطلعت على quot;تكاليف الحرب الامريكية في العراق quot;، مع اقتراب الذكرى السنوية الخامسة لتلك الحرب التي لا يجد حتى الأمريكان لها مبرّرا مقنعا، وقد سلّم العرب بها، كما سلّم اليهود بالمكتوب وهم سائرون في درب آلام المسيح: quot;ما كتِب قد كتِبquot;. أقنعهم بيلاطس وقتها. واقتنع العالم اليوم بالحرب من أجل الديمقراطية. المهم أنّ تكاليف الحرب بعد 5 سنوات، بلغت 5 مئة مليار دولار أمريكي. تصوّروا هذه المبالغ! الم تكن كافية وشافية لكل جروحات البشرية ولإنقاذهم من كل الشرور. كتب ما قد كتب. ومن ثمار هذه الحرب المكلفة بالأرواح والمال، أن يقتاد quot;مجهولونquot; أسقفا سمحا من أجل حفنة من المال. صدق القديس بولس حين قال لتلميذه طيموتاوس: quot;لأَنَّ حُبَّ المالِ أَصْلُ كُلِّ شَرّ، وقَدِ استَسلَمَ إِلَيه بَعضُ النَّاس فضَلُّوا عنِ الإِيمان وأَصابوا أَنفُسَهم بِأَوْجاعٍ كَثيرةquot;. لكنّ مجهولين في عصرنا الحديث أصابوا غيرهم كما أصابوا أنفسهم بأوجاع كثيرة، من جرّاء المال، وجريا وراءه.
ومع ذلك، لا يخاف الأسقف، وان كان في يدي من يكبّلون يديه بالقيود ويمنعونه من رفعهما للصلاة والحمد والتسبيح. فقد سبقه إلى هذا العذاب وأمرّ منه أساقفة وكهنة ومؤمنون، روَوا بدمائهم الزكية أرضية الإيمان فانتعشت، لذلك قال العلامة ترتيليانس، وهو أحد آباء الكنيسة من القرن الثاني الى الثالث للميلاد: quot; نزداد عددًا كلّما حصدتمونا. فدم الشهداء هو بذارquot;.quot;. ولذلك قال المطران المخطوف نفسه في مقابلة مع وكالة زينيت العالمية في 7\1\2007: quot;الله وحده هو مانح الحياة وهو المسئول عن أخذهاquot;. لذلك لا أظنّه خائفا، وليس مطلوبا أن نخاف عليه.


علام نخاف إذا؟ نخاف على الخراف إذا ضُرِب راعيها. الخوف أن يتبدّد مؤمنو العراق، من جرّاء ما يحصل مع رعاة نفوسهم. الخوف هو على الحضور المسيحي العربي المشرِق والمشرّف من جرّاء نزيف التهجير القسري والعنف والقتل الذي يواجَه به، ليس الصغار فحسب، بل الرموز الدينية الكبيرة أيضا. الخوف على التكاتف المسيحي الإسلامي في بلد العراق الجريح وفي كل المشرق. الخوف من ازدياد الكراهية في النفوس، في وقت بتنا بأمس حاجة إلى الحوار والتلاقي وتعزيز العيش المشترك بين المختلفين، وبخاصّة على أسس اختلاف الأديان والمذاهب.
وما هو المطلوب؟ المطلوب أن تكون وقفة جميع السكان، وجميع العرب، وجميع أصحاب النوايا الحسنة، بذات الحميّة والحماس والمواقف الرافضة لأي إساءة إلى أي رمز ديني، في العراق كما في الدانمارك. ولنصرخ بصوت واحد من كل منابر الكنائس والمساجد... لا للإساءة إلى أي رمز ديني... في أيّ مكان وفي أيّ زمان وفي أيّ ديانة.


وليكن موقفنا جميعا هو الجمع وليس التفرقة، تماما كما قال المطران في المقابلة المذكورة: quot;لمزيد من التحدّي وتذليلاً للتفرقة الدينية والطائفية، قمنا يوم 28 ديسمبر 2006، بإقامة احتفال مدرسي شمل جميع التلاميذ، من كافة الطوائف والأديان، بمناسبة أعياد الميلاد المجيدة ورأس السنة الجديدة، والتي تتزامن هذه السنة مع عيد الأضحى المبارك، الأمر الذي يتكرّر كل 20 سنة تقريباً، وقد جرى أثناء الحفل توزيع الهدايا على جميع التلاميذ، فضلاً عن الهيئة التعليمية.quot;


يبدو أنّ هذه المبادرة لم تعجب quot;المجهولينquot; فأرادوا أخذ المطران إلى مناطق مجهولة؟ أعاده الله سالما غانما إلى مجتمعه وكنيسته، فهما بحاجة إلى تعزيز مبادرته الجامعة تلك. وهي وحدها جديرة بأن تكفكف دموع البطريرك وبأن تشفي العراق من جراحه العميقة.

الأب رفعـت بدر

الأردن
[email protected]
www.abouna.org