الاساطير، هي اساطير الاخرين، دائما. اما اساطيرنا نحن، فحقائق لا يرقى اليها الشك. فبرغم ايماننا بها، واتكالنا عليها، في كل كبيرة وصغيرة من شئون حياتنا، فهي، و بالنسبة للغرباء عنا، تظل اساطير اقوام لم يتمكن ضياء الحق من استيطان قلوبهم.
الا ان كل قوم بما لديهم فرحون.
على هذا الاساس اشتعلت حروب البشر الدينية. انه الصراع القديم المتجدد على حيازة اليقين، وتصديره ثم الى قلوب الاغيار من غرباء وسواهم، بوسائل قد لا يكون السيف سوى وجهها الاشد اثارة للرعب.


2
جاء في لسان العرب : ان الخرافة، هي كل كلام ظريف مستملح من الكذب. ولكن، ما شأن الخرافة بالاساطير، واي شأن لهذه الاخيرة بالدين؟
الخرافة، كما اثبت غير عالم من علماء الميثولوجيات، واثبتت غير دراسة رصينة، هي اسطورة، تقادم الزمان عليها، فبطل ايمان المؤمنين بها،فانفضوا عنها، فاصبحت قصة خرافية يراد بها اغماض عيون المسهدين من الصغار قبيل ذهابهم الى أسرة النوم.
اذا، ما الاسطورة الا وجه متخف خلف قناعين، هما، المقدس في اطوارها الفتية الاولى، والخرافة في اطوارها المتقادمة.


3
وعلاوة، فان الوقائع قد علمتنا، ان الانسان لا يتخلى عن اساطيره الموسسة، والمفسرة له اسرار الخلق الاولى، حتى عثوره على اساطير آخرى، تحل محلها، وتبطل سحرها، بسحر جديد.
ان الاساطير، لتتقاتل، على اي ٍ منها يحتل مساحات فضولنا العارم لمعرفة، وتفسير بدايات وجودنا الغامضة، يوم كانت الحجارة رطبة، وحيوانات الطبيعة تتكلم.
وكلما ازاحت اسطورة، اسطورة أخرى، تقدست الغالبة منهما، واصعدت بقوة السيف واللسان، الى ما تستحقه من مكانة. وانزلت المغلوبة منهما الى مصاف الخرافات والقصص.
كان هذا مصير ديانات اقوام مغلوبة سبقنتا. وقد لا ينقضي على ولادة الدين الجديد قرن من الزمان، الا ريثما تصل الامور بالمغلوبين الى ما لا تحمد عقباه، كأن تنقرض اعراقهم بالسيف، وبالتزاوج المختلط مع الغالب، او تباد بموجات من الهجرات والهجرات المعاكسة، او ان تفقد السنهم عادة النطق بلغة الاسلاف، وترتيل صلواتهم بها الى ما آخر ذلك، ولنا في منطقة كالهلال الخصيب، سكنتها اقوام، وتتالت عليها حضارات وقرون، مصاديق على ما اقول.


4

ويكاد كل امرئ ان يكون قد لاحظ ان لا سلام ولا بناء في مكان تحكمه اساطير اليقين، واليقين المضاد، وان يكن كلا اليقينين، او المذهبين، على معتقد واحد. وايضا، ليس بمكنة اعتى الايدلوجيات العلمانية، ابطال ايمان الانسان بأساطيره المؤسسة الاولى. احب ان اذكركم بما حدث في الاتحاد السوفيتي، فبعد انهياره المدوي، وذوبان جبال الصمغ، تلك التي عملت، وبوحي من ثقلها الايدلوجي الايماني ذاته، على لصق الناس المختلفين عن بعضهم البعض.. الى بعضهم البعض، بأسم الاشتراكية الاممية، اقول : انه تكشف، بعد انهياره، عن نزعات انفصالية واستقلالية غريبة اشد الغرابة، فالمسيحي الذي خرج بسلاحه، سلاح اليقين الباذخ السعيد، لمقاتلة المسلم، بسبب من اختلافه الديني عنه. نراه، وقد خرج حاملا السلاح ذاته، لمحاربة مسيحي آخر، لا لشيء سوى لاختلافه المذهبي عنه.
من هنا، يصح لي القول، ان لا انتماء وطنيا في بلد ينتمي ابناؤه، واولوا الامر فيه، الى مكوناتهم اليقينية الاولى. ما حدث في امبراطورية لينين وستالين، جاء بمثابة ردة فعل على ارغامها الناس تبني يقينها الايدلوجي، الواثق من الحاده العلمي والمادي. ان محاربة اليقين، وشهواته لسفك الدماء، لن يكتب لها النجاح، بيقين اشد وثوقا من ذاته، ومن مبتنياته الاسطورية واللفظية، كائنا ما كان لبوسها اللفظي والعلمي.


5
بعد انتهاء اليقين، واليقين المضاد، من التهام كبدي احدهما الآخر، اي بعد افراغ البيوت من الرجال، وتكاثر الارامل واليتامى والمعاقين والبائسين، وما يترتب على ذلك من كوارث ومآس اجتماعية. بعد فراغ الموقنين من اداء تلك الملحمة القيامية المقدسة، يأتي الزمان، بجبروته الكاسح، لالتهام تلكم الاساطير، بلا رحمة تذكر، ومعاقبتها على التهامها لبنيها، جاعلا منها ومنهم خرافة واحاديث.


6
ان فصل الدين عن الدولة، وليس محاربة احدهما الاخر، ليس ترفا لذاته. انه خروج من مأزق بات يهددنا بالزوال النهائي، كعرق ولغة، وذلك بأسم الحفاظ على تقاليدنا الدينية والسياسية، ومنها التشبث بالسلطة، ورفض التداول السلمي لها، وابقاء كل شيء على ما كان عليه، بل والعودة بنا، وبه، الى ازمنة السلف الاول الصالح، وهذا غاية ما تحلم به الاساطير، وسدنتها في الارض، ان هي تمكنت من استغلال الفراغ السياسي الضارب اطنابه في مشرق الوطن العربي ومغربه. ولنا في ما يحدث في لبنان وفلسطين، وربما سوريا عما قريب، ادلة وعبر.

معتز رشدي