لم نتطرق إلى حلول لواقع إقليم كُردستان في الرسالة المفتوحة التي نُشرت على quot;إيلافquot; قبل أيام. طلب الإستقالة من السيد مسعود بارزاني، لم يُطرح كحلّ لواقع كُردستان وإنما محافظة على سمعة تراث عائلة، حظيت بشرف المقاومة ضد الظلم الذي تعرض له الأكراد قديماً وحديثاً.


إن سمعة هذا التراث أمست في قناة التشويه والإفتضاح. والمسئول عن ذلك هم أبناء العائلة الذين كثرت أياديهم في الشأن العام على مستوى السلطة والإدارة في إقليم كُردستان بطريقة غير قانونية وغير ديموقراطية، أحدثت كارثة عظيمة يشترك فيها الجانب الآخر أيضاً وهو الإتحاد الوطني الكُردستاني بقيادة الرئيس جلال طالباني وعائلته.


إن تعاظم الدور في الشأن العام الكُردي، من قبل أفراد كثيرين لعائلة تملك زمام الأمور يعدّ خطراً إستراتيجياً على مصير شعبٍ لم يحظ بعد بحقوقه القومية والوطنية، فضلاً عن تعرض الشعب الكُردي إلى مهالك جمّة قد تخرجه من دائرة المنافسة، وهو مازال في منتصف الطريق.
كان من الممكن إستثمار هذا التراث من قبل عائلة السيد مسعود بارزاني إلى رمز للمحبة والوحدة بين الأكراد، لتأسيس مجتمع منسجم ومتعاون لبناء حياة حضارية وراقية للشعب الكُردستاني، المتضرر والمظلوم والمتخلف. لكن للأسف الشديد لم يحدث ذلك على الإطلاق.
إن الهمّ الذي يملي على زميلنا جرجيس كوليزاده الكتابة في قضايا هذه البلاد بـ quot; الدم والدموع ونبضات القلب والخوف على الحياةquot; هو نفسه المصدر الملهم لكتابات أغلب المتناولين لهذه الشؤون، وأحسب نفسي محكوماً بهذا الربط.


لكنني لست بعيداً عن واقع كُردستان على الإطلاق. ففي شهر حزيران عام 2006 زرت كُردستان وأقمت فيها عشرة أشهر أعاني ما يعانيه الآخرون من أبناء الإقليم، وأعاين واتفحص الواقع بمراراته وعذاباته. فضلاً عن ذلك أتابع تفاصيل الأمور عبر الصحافة الكُردية المحليّة وعن طريق علاقتي بالأصدقاء الكتّاب والصحافيين الكُرد. وأنا أعلم سرّ المقارنة بين من يكتب وهو يعيش خارج كُردستان، وبين من يكتب خائفاً مرتجفاً تحت سلطة تستعمل الإرهاب والتعذيب والقتل ضد من يحاول رسم الصورة الحقيقية للمأساة. ولكن الكتّاب والمثقفين ليسوا بمأمنٍ حتى ولو كانوا خارج كُردستان. فقبل أيام قام رجال السلطة الكُردية بضرب الكاتب الكُردي (كمال سيد قادر) ضرباً أقلّ من الموت بدرجة، داخل العاصمة النمساوية فيينا.
نحن نعيش مرّة واحدة، ومهما طال العمر فعلينا أن نرضى بالموت مصيراً محتوماً لكلّ واحد منا. ومادام ذلك واقعاً وحقيقة ليس من مفرٍ منهما، فلماذا إذن نخاف على حياتنا من الضياع وهي ـ على كلّ حال ـ مليئة بالعذاب والمحن والخوف والتخلف والقهر؟!
وهل نسمّي هذه حياةً في ظل القمع والخوف والمعاناة؟ كلّا.


ليس هناك حياة مع الخوف والإرهاب. إن ما تفعله سلطات الإقليم في كُردستان هو تخويف وإرهاب أصحاب الضمائر وأصحاب القلم. ويجب علينا أن نقاوم ذلك بالرفض والمواجهة لأن في المقاومة حياة. لا نستطيع الحصول على الحريّة والسعادة لطالما كنّا خائفين وجبناء. الإنسان الشجاع هو الذي يملك الحياة والحريّة. وشعب يلوذ بالخوف والجبن، تجرّه العذابات والشقاء طويلاً في الطريق نحو موتٍ بئيس. إذن لنكون أهل الشجاعة، لأن الذين نخاف منهم لا يملكون حياتهم وموتهم، وهم أجبن من الخوف نفسه. لأن الذي يعذب الأسرى والمساجين فهو جبان، والذي يفرّ في الملمّات قبل شعبه نحو الجبال ودول بعيدة فهو جبانٌ أيضاً.


ما أود تصحيحه هنا من مفاهيم، وهو ضروري جداً لمعرفة كيفية التعامل مع الواقع، هو أكثر من مصطلح وأكثر من تعريف.
السلطة القائمة في كُردستان ليست سلطة منتخبة، وهي غير ديموقراطية. وهي كذلك بعيدة جداً عن كونها سلطة تمثل كينونة قومية أو وطنية.
وما دمنا نتفق أنها فاسدة حتى النخاح، وشكراً للإتفاق، فالحديث عن البديل يصبح هيناً، وطرح البدائل لن يكون مستحيلاً.
إن أكثر ما عملت له هذه السلطة المنحطة في كُردستان، هو إقناع الشعب وخصوصاً المثقفين، أنه ليس هناك من بديل لها. وهذه المحاولة الخادعة المموهة ورثتها سلطة الإقليم من نظام البعث الذي أراد أن يقنع الجميع أن سلطته ومنهجه هما اللباس الوحيد الذي يناسب قامة العراق وعرضه.
الفرد هو جزء من المجتمع. والقومية هي دائرة المجتمع عبر اللغة والتراث والمشاركة في الحاضر والمستقبل. الوطن هو منزل القومية. والقومية عائلة الفرد يستقر في كنفها.
إن أي سلطة تريد أن تكون ديموقراطية وقومية ووطنية عليها أن تخدم هذه الكينونة بهذا الوصف المترابط الذي ينمي ويطور الفرد والمجتمع والوطن.


سلطة الإقليم منذ سبعة عشر عاماً وهي تفكك البنية القومية للشعب الكُردي وتخرّب الوطن وترمي الأفراد بشرارة الجحيم.
سلطةٌ لم تراع مستقبل كُردستان ومصلحة أفراد الوطن، أنّى لها أن تبيع نفسها إلينا تحت عنوان القومية والوطنية والديموقراطية.
كيف لنا أن نسلّم أمورنا براحة بال إلى سلطة يتقاسمها حزبان دمويّان، أحدهما وهو الحزب الديموقراطي الكُردستاني الذي تأسس عام 1945، وهو الآن لا يملك مجرد مفكراً واحداً ينظّر ويخطط له، بعد مضي أكثر من ستة عقود؟!


إنه أمرٌ معلوم لدى أبناء إقليم كُردستان أن الحزب السياسي في راهن كُردستان، مهما كان حجمه، فهو ليس سوى مطية ومنتزه لشهوات العائلة والعشيرة، فضلاً عن كونه مشجباً لنيرانها، ومتراساً لحمايتها، وإعلاماً لتمويه الشعب وخداعه من مفاسدها.
إن المثقف الواعي يجب أن يكون سيفاً بوجه السلطة الفاسدة، وسهماً نحو صدرها، ودرعاً لحماية المشترك العام للوطن والشعب والأفراد.
إذا كان الأكراد لا يملكون بديلاً عن هذين الحزبين الفاسدين، الإرهابيين فمعنى ذلك أنهم لا يملكون التأريخ ولا يملكون الثقافة، وليست عندهم إرادة متصلة ببنيان القومية وأسس الشعب ومفاهيمه. ومن لا يملك التأريخ لا يستطيع أن يصنع الأمجاد.


البديل موجود. والإرادة الحيّة وحدها تدرك ذلك. والمثقف الواعي هو صاحب إرادة حيّة. نعم ليس هناك بديل لهذه السلطة لأنها فاسدة. وهكذا سلطة لا تنمو ولا تبقى إلا في أجواء الفوضى والركود التي تراكمت تحت نير أنظمة ديكتاتورية. وهكذا أجواء ليست سليمة وصحية التي من الممكن لأي مجتمع العيش تحت ظلالها. إذن لا يمكن الحديث عن البديل لسلطة فاسدة على النحو المطروح من قبل بعض الأوساط. البديل هو الزوال ثم إقامة حكم ديموقراطي عبر إنتخاب مباشر من قبل الشعب.


إن سلطة الإقليم في عمق امتدادها مرتهنة لإرادة القوى الإقليمية، المعادية لتطلعات الأكراد ومستقبلهم. وأجهزة الإقليم الأمنية (على أن تكون عيناً ساهرة على راحة الأكراد!!) محكومة من قبل أجهزة إقليمية أمنية، كجهاز الإطلاعات الإيراني والمِيْتْ التركي. كنتُ أشرت في مقالات سابقة أن السيد نوشيروان مصطفى (صاحب مؤسسة الكلمة الإعلامية) قالها بكلّ صراحة، أن جهاز الآسايش الكُردي مغلوب على أمره، ومحكوم من قبل إيران وتركيا. وهناك شخصيات مهمة في كُردستان تعترف بذلك مثل السيد حَمَيْ حاجي محمود والشيخ علي بابير وغيرهما. إذن فإن أخطر كينونة من كينونات القومية الكُردية ووجودها واقعٌ في يد أعدائها المفترضين!


منذ عام 1975 والحزبان الكُردييان يتناطحان. منذ ذلك التأريخ وحتى عام 1988 حوّلا كُردستان إلى ساحة حروبٍ وقتلٍ ودمار.
وبعد إتفاق العراق وإيران على وقف إطلاق النار عام 1998، وبعد أن نفدت بيد الحزبين كلّ الحيل، إتفقا يائسَين على تشكيل جبهة تضمهما للحدّ من الإقتتال الإنتحاري بينهما. هذا بعد أن طعن صدام حسين في الأحزاب الكُردية ذات مرّة قائلاً: quot;إذا كانت الأحزاب الكُردية بها خير خلّيها تتفق في ما بينهاquot;!

علي سيريني
وحين عاد الحزبان عام 1991 للإستولاء على السلطة والموارد، شكّلا سلطة نهبا تحت ظلها ثروة كُردستان، سرعان ما أدّى الإختلاف بينهما على القوة والأموال، إلى العودة إلى سابق عهدهما في الإقتتال والنزاع والحرب، دون مراعاة مصلحة الأكراد وكُردستان. وظل الخراب مستمراً من نهبٍ وعدوانٍ وحرب في كُردستان، منذ عام 1991 وإلى يومنا الحاضر. إذن فإن الذي يشوه سمعة الأكراد ليس الكتّاب الأحرار وإنما الأحزاب الفاسدة المنحطة.
أهذه هي السلطة التي لا يملك الأكراد بديلاً عنها؟!
إننا نقول إن البديل موجود. البديل موجود عن كلّ هذا العدوان والشرّ والخيانة. وأول بديلٍ عن ذلك كلّه هو إزالة هذا الشرّ كلّه.
إن المثقفين الأكراد يقدرون تشكيل منظمة ناشطة وفاعلة في الغرب، لحث الحكومات الغربية والرأي العام العالمي من أجل إقامة محكمة دولية لمجرمي الحرب في كُردستان. محكمة تبت في إختلاس المال العام، وجرائم الحروب الداخلية، والجرائم التي أرتكبت ضد الإنسان لا سيما في السجون والمعتقلات.
وشباب كُردستان يقدرون تشكيل خلايا لهم تحت عنوان تغيير الواقع. ويقدر المثقفون من الإنخراط في هكذا خلايا بالتنسيق في ما بينها، لإفاقة الأكراد من تخديرهم، وإرشادهم من تضليلهم. تقدر هذه الخلايا إنزال الناس إلى الشارع، لإسقاط هذه السلطة، وتسليم زمام الأمور إلى مئات الكوادر الكُردية المرموقة من أصحاب الإختصاصات والخبرة في شتى المجالات، داخل كُردستان وخارجها. أو أن الأكراد يقدرون مطالبة أميركا وبريطانيا أن تضعهم تحت إنتدابها وحكمها المباشر، دون تورية وتمويه. فما دامت البلاد محتلة على أية حال لماذا يُحكم الشعب من قبل ثلّة عميلة للجميع وهي quot;تسوق بنات الأكراد إلى غرف الفنادق لضباطٍ اميركيينquot; كما قال ذلك مايكل روبن في تقريره قبل أسابيع؟!
إن الأمور لا يمكن أن تكون أسوأ مما هي عليه الآن. البيشمركة ينتحرون جوعاً، والشعب يتململ بين الموت والحياة، يموت برداً وجوعا. الشباب يهجرون إلى حيث يضيعون فرادى. الأطفال محرومون من طفولتهم وحياتهم. الحياة كلّها أصبحت أسيرة قصور ومزارع أولئك الطغاة الذين عاملوا الشعب معاملة البهائم، والوطن منزلة مبيت مؤقت لهم: الوطن/ هوتيل.
يجب أن يكون هناك تغيير. والتغيير سلماً أفضل منه حرباً. ولكن لو استدعى أمر التغيير العصيان المدني، فما على الأكراد سوى سلوك السبيل والتزام منهجه المحتوم. فالديكتاتور أطرش عن سمّاع الشكوى، وأعمى عن رؤية بؤس الأمة، وميت الضمير عن الإحساس بهلاك المواطنين، ولن يزيحه على كرسي الظلم سوى صفعة الشعب.
إن أي فردٍ منّا يعيش مدّة قصيرة في الحياة. والحياة أغلى من أن يُفتدى بها من أجل أي حزب أو شخصية أو ما إلى ذلك. الحياة أغلى من الوطن والقومية نفسهما. فقيمة كليهما تكمن في قيمة الحياة للفرد والمجتمع. ماذا ينفع الوطن إذا كانت الحياة معدومة؟ وماذا نفعل بقومية تضع حياة المجتمع مطية لثلة من الجهلاء والمجرمين ممن لا يعيرون الوطن والقومية أي أهمية وأي لطف؟!
يجب على المثقفين والمتنورين والديموقراطيين والنخب الإنسانية المتحضرة في العالم، مساندة إخوانهم الأكراد نحو التغيير والنجاة من الجحيم الذي يعانون أهواله.