كان مأمولا أن يكون يوم الجمعة الرابع عشر من آذار يوما سعيدا في الديار العربية. ففي هذا اليوم تفتح أول كنيسة فوق الأراضي القطرية منذ 1400 سنة. وهو حدث ذو دلالات كبيرة، في الأمل بانبلاج فجر الحريات الدينية وحرية إقامة الشعائر الدينية في بعض أقطار الوطن العربي التي ما زالت تتحفظ على بناء الكنائس فوق أراضيها. هنيئا لقطر، هنيئا لكل سكانها، هنيئا للجاليات المسيحية فيها، هنيئا لكل صوت كان مؤيدا لبناء الكنيسة التي أبصرت النور بعد مطالبات دامت أكثر من عشرين عاما. وكلمة شكر وتقدير هنا يستحقّها الدكتور عبد الحميد الأنصاري، عميد كلية الشريعة السابق في جامعة قطر، الذي دافع عن حق الإنسان في ممارسة شعائر دينه في عدة مقالات في الراية القطرية، ردا على بعض المقالات الناشزة والرافضة لفتح كنائس... دلالة على رفض فتح أبواب الحرية الدينية المقدّسة. لكنّه صرخ ومن وسط العاصمة القطرية: نعم لبناء الكنائس في قطر.


إلا أنّ أفراح قص الشريط اليوم، لأوّل كنيسة في قطر. قد قصّتها الأنباء القادمة من العراق، بمقتل سيادة المطران الشهيد بولس فرج رحو. الذي آلم في رحيله البطولي قلوب المسيحيين والمسلمين من أصحاب النوايا الحسنة، ليس فقط في العراق، ولا في الشرق الجريح، بل في كل الأرض. وهو فصل جديد من quot;أوبريت الضمير العربيquot;. الذي يوجه صرخة إلى الضمائر العربية علها تصحو وquot;تصحو بها النخوة لأنّ العرب أخوة quot;. ولو أنّ المخرج طارق العريان تريّث قليلا، ليضيف إلى سلسلة المآسي التي يبرزها، مأساة اليوم الجديدة وهي الشيخ المطران ذو التسعة والستين عاما... وهو يلفظ أنفاسه ألأخيرة... متسلحا بالمحبة دينا وديدنا... وبالرجاء الحي في بواطن قلبه.


كلمة في الخطف:
المطران يخرج من صلاة درب الصليب. يتأمل في أربعة عشر مرحلة من طريق الآلام الدامية، وهي الطريق المؤدية إلى فجر القيامة.
يخرج من كنيسته. ليبدأ مراحل جديدة من درب صليبه وآلامه هو.
أربعة عشر مرحلة... وأربعة عشر يوما. الأولى سار بها المسيح، وتأمل بها المطران.
والثانية سار بها المطران وعُرض عليه أن ينكر المسيح، لكنّه وجد في تأمله بمراحل درب الآلام سببا للصمود ورفض الخضوع إلا لله. فترك الجسد البائد في الأرض وارتقت روحه النّقيّة الى السماء في سلام الملكوت.


كلمة في الشروط:
ثمة شروط وضعها الخاطفون. من بينها أن يغير المطران إيمانه. ولم ننتظر حتى تخبرنا وسائل الإعلام أنّه رفض ذلك. وشرط آخر هو تجنيد شباب مسيحيين للقيام بأعمال انتحارية، تأتي على نفوس الأطفال والأبرياء. وفي هذا جهل واضح بالتعاليم المسيحية وبجوهر الديانة السليمة. فالجهاد جزء من الفكر المسيحي، لكنّه ليس بالطريقة التي يدعو إليها هؤلاء quot; المجاهدونquot;. الجهاد هو السير الحثيث ليلا نهارا في سبيل تطهير العالم من الشرور، ولكن ليس بطريقة الخاطفين. الديانة المسيحية لا تمنع المؤمن من الموت والاستشهاد فداء لوطنه، إلا أنّها ترفض حصد حياة الناس بطريقة الإرهاب الفوضوية. عينا الإنسان الشريف تقفان بإجلال أمام الأسقف الجليل الذي رفض المساومة على مال أو كرامة أو دين. ورفض الموافقة على إرسال شباب من كنيسته مجنّدين لخدمة الإرهاب والإرهابيين، ليعيثوا في الأرض فسادا وفي الناس تنكيلا.


كلمة في الموت:
في المرحلة الثانية عشرة من درب الصليب، يقول الكاهن أو الأسقف المحتفل: في هذه المرحلة يموت المسيح على خشبة الصليب. وهكذا في اليوم الثاني عشر. يعلن المجهولون عن موت المطران، بعد مراحل القهر والذل ونقص الدواء.
مات المطران. قتل. استشهد. على أرض العراق. عراق الأمس الذي بالرغم من كل ما تصوّره وسائل الإعلام من احتقار للإنسان، لكني أقول أنّه كان في السابق، على أوضاع أفضل من عراق اليوم، بخصوص الأديان وحريتها وعلاقتها فيما بينها.


ما الذي تغيّر إذا؟
الذي تغيّر هو النظرة إلى الدين. أهو عامل توحيد أم تفريق؟ فريق ينظر إليه موحدا، وآخر يجد فيه تنفيذا لدعوات الفرقة والتقسيم والانغلاق. مسكين الدين في القرن الحادي والعشرين. فقد بدأ بداية سيئة وما زال مصرّا عليها، وهو أن يكون داعية كراهية ونبذ للآخر ورفض للتعامل معه، على أسس إنسانية وأخوية تحت مظلة السماء الواحدة وفوق تراب الأرض الواحدة اللتين تجمعان البشر معا.


مات المطران اذا، وأكمل بجدارة أربعة عشر مرحلة من درب صليبه.
بكته القلوب وعيون المشيّعين، من الأطراف والأطياف كافة. إلا أنّ عينا تنظر إلى النعش، وأخرى تنظر إلى من يتقدّمون نعشه من رجال دين باتوا مستهدفين، بكبارهم وصغارهم. والى من يلحقون به، من شعب مسيحي صابر، لم يخرج منه كلمة عنف أو رغبة بالانتقام أو الكراهية، ولم يتحزم أي منهم بحزام ناسف، وإنما اكتفوا برفع أغصان الزيتون، وكأنّهم يستبقون احتفالهم بأحد الشعانين بعد أيام... وليس هؤلاء من المسيحيين فحسب بل كل مواطن عراقي إنسان يؤلمه استخدام الدين بالعنف والدمار والقتل والترويع والتهجير واقتلاع الشجر وتدمير الحجر وقتل البشر.
وبعد، فدرب الصليب يتكوّن من 14 مرحلة... والأخيرة هي وضع جسد المصلوب في قبر جديد... هكذا كانت آخر صلاة علنية للمطران رحو. وهكذا كانت حياته بعد تلك الصلاة. إلا أنّ بعض الطقوس تضيف إلى نصوص الصلاة مرحلة خامسة عشر وهي البعث والنهوض والقيامة. هكذا كتب التاريخ عمّا حدث في جلجلة القدس. وهكذا سيكتب عن مطران مختطف بعد صلاة درب الصليب مباشرة.


وما تلك النهاية الأرضية الشجاعة لأسقف رفض الانصياع لتعليمات قطاع الطرق سوى تعزيز للصمود والسير حتما ودوما نحو الأمام، إلى حين يبصر شعب العراق أجمعه شمس العدل والحقيقة والجمال والحرية. وقد أبصرها المطران اليوم، ليس على طريقة خاطفيه بل على طريقة إيمانه.
نام المطران... بعد حياة حافلة بالمحبة، وبإنشاء مراكز quot;المحبة والفرحquot; لذوي الحاجات الخاصة، وللعائلات الجديدة، وبعدها للأطفال الأيتام. وها هم جميعا يتحلقون حول سريره الأبدي، يغنّون له quot;اوبريت الضمير العربيquot;:
صحِّ قلوب الناس، صحِّ فيها النخوة
اصرخ بكل إحساس: أن العرب إخوة...

الأب رفعت بدر