في ثمانينيات القرن الماضي كان نظام البعث في العراق يُعد الأشرس والأكثر ديكتاتورية على مستوى المنطقة. لكن مع ذلك كانت هناك مساحة متروكة لأداء بعض الممارسات الأخلاقية. ليس مهماً إذا كانت الدوافع سياسية أو شيئاً آخر، فنظام البعث، وربما لإظهار نفسه بمظهر المتزن الأمين المخلص، كان يبدي أحياناً تصرفات من قبيل العفو عن المحكومين بالإعدام أو السجن المؤبد.
قبل أسابيع وفي مذكرات شخصية نشرت على موقع (سبَي: الغد) روى السيد نوشيروان أمين أنه طالب باطلاق سراح رفاق له في سجون البعث، فلبي طلبه. وفي أحاديث له يروي السيد مسعود بارزاني أنه أيضاً طلب من قادة البعث إطلاق سراح شخصيات معينة، فلُبي طلبه أيضاً. قادة أكراد اُخّر قاموا بهكذا مهمات شخصية، وكشفوا عنها في الصحف واللقاءات الإعلامية. أما الشخصيات الكُردية التي كانت على وفاق مع نظام البعث سابقاً، فقامت هي بدورها بمحاولات إنقاذ شخصيات كُردية محكومة في سجون البعث، بطلبات خاصة نالت الموافقة من لدن قادة البعث. السيد عمر سورجي زعيم حزب المحافظين، وفي مقابلة له مع اسبوعية (ميديا) الكُردية، يشير إلى توسطه لدى نظام البعث للحيلولة دون إعدام أشخاص مسلحين من البيشمركة وقعوا في يد البعث، فتم ذلك وأطلق سراحهم.
معنى ذلك أن البعث كان يمارس أحياناً أخلاقيات معينة لتحسين صورته، وإبداء مرونة معينة لغايات معينة. والأمر في كل الأحوال محمودٌ لأن فعل الخير خيرٌ بغض النظر عن الأسباب والدواعي.
في عام 2006 أجرت مجلة (ستاندر) الكُردية مقابلة مهمة مع الدكتور عبدالستار طاهر شريف، الشخصية الكُردية ووزير سابق في حكومة أحمد حسن البكر. الدكتور عبدالستار كان أستاذاً جامعياً وصاحب ذخيرة من التجارب السياسية والعلمية. في لقاءات صحافية وعبر مقالات متنوعة، كشف الرجل أسراراً مهمة جداً حول القيادات والأحزاب الكُردية.
كشف الأسرار القديمة والجديدة أثار غضب وجنون القيادات والأحزاب.
كان خوف كادر المجلة المذكورة كبيراً جداً، لذلك بادر إلى كتابة صفحة من الترهات حول الدكتور عبدالستار بطريقة كوميدية ساخرة لمجرد إرضاء السلطة الإرهابية، وللحيلولة دون تعرض كادر المجلة إلى إرهاب الأحزاب الكُردية وقياداتها. وأخبرني كاتب الصفحة أن ذلك مجرد تعويذة من الإرهاب الكامن في السلطة الكُردية تجاه كادر المجلة بسبب المقابلة مع الدكتور عبدالستار شريف.
إن تحول السيئ إلى مقياس لمعرفة حسن وقبح الكينونات كارثةٌ كبيرة جداً. والقصد هنا هو قياس الأحزاب الكُردية بحزب البعث على وجه المقارنة. إن حزب البعث ليس معياراً سليماً لمقايسة خير وشر الآخرين، لأن البعث كان كارثة بدوره.
ولكن المصيبة تكمن في من جاء بعد البعث، أسوأ منه وافضح وأحلك ليلاً، حتى أمسى تفضيل السابق على اللاحق واقعاً باستغرابٍ ونفور.
الدكتور عبد الستار شريف كان في الرابعة والسبعين من العمر، قبل أن تغتاله يدٌ آثمة في أحد أحياء مدينة كركوك قبل أيام.
في توضيحٍ لأسبوعية (هاولاتي) الكُردية يؤكد مصدر موثوق أن شريفاً أجرى مقابلة تلفزيونية، غير منشورة بعد، مع محطة كُردية حيث أشار فيها أنه تلقى تهديداً بالقتل من قبل رجالٍ تابعين لأحزاب كُردية عن طريق الموبايل.
الحكمة تقتضي أحياناً مداراة الظالم من أجل مصالح أكثر أساسية من أهداف سياسية معينة، لأن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة. ومنفعةٌ تجلب السوء منهيّ عنها بحسب المصالح الأساسية التي اجتمعت في أصول الشرع الإسلامي بخمسةٍ يجب الحفاظ عليها: النفس، الدين، المال، العرض، النسل، وهن أصول تعمل بها الدول المتقدمة في العالم الغربي في مجتمعاتها. أي المحافظة على هذه الكينونات واجبٌ في الإجتماع العام، في إطلاقٍ يشمل الجنس البشري كلّه دون فروق.
ولكن كيف تقدر على مجاراة سلطة منحطة لا تعير هذه الأسس أي أهمية، ولا تردع في قتل النفس الإنسانية؟
أي سلطة قذرة ومنحطة هذه التي تغتال رجلاً كهلاً، لمجرد إختلافه مع هذا الحزب أو ذاك؟
أي سلطةٍ ساقطة هذه التي تدع مواطنيها يموتون من البرد والجوع، فيما يسوق المسئولون القائمون على شؤوننا الفتيات إلى ضباط أمريكيين في فنادق كُردستان الفخمة؟!
كيف نرضى بالسكوت وأطفال كُردستان يرتعدون من البرد ويتضورون جوعاً ومحرومون من الحياة ونعمها، بينما يتمتع المسئولون وعوائلهم بالرفاه كلّه وبالإجرام كلّه ضد الشعب؟
هل تركت هكذا سلطة مجالاً للعيش تحت ظلالها، من دون اللجوء إلى موقع نرفضها جملة وتفصيلا؟!
ألم يكن الأجدى إقامة حوار مع الرجل وإتاحة الفرصة له للتعبير عن آرائه، ومن ثم الإستفادة من تجاربه وثقافته، لمجتمعٍ يحتاج إلى كل ذي علم وذي ثقافة؟
للأسف الأكراد في جملتهم اليوم، عدا قلّة مثقفة، لا تدرك المخاطر المستقبلية لما تقترفه سلطة الإقليم الإرهابية من جرائم كارثية ستحني ظهر الأكراد غداً، أمام تحديات المستقبل وثقاله.
الأكراد يعلمون ويشعرون بالكوارث الراهنة التي تفتك بهم، لكنهم في الحقيقة يجهلون مخاطر المستقبل. وإننا نكتب أحياناً بحدة لأننا نشعر بجلل الكارثة، والمخاطر التي تواجه الأجيال الكُردية القادمة.
إن أحط إنسان كُردي ليس رجل السلطة الذي يكسر رقبة المجتمع الكُردي دون أدنى ضمير، بل ذلك الكائن الخانع الذي يبرر الجريمة بحجج واهية، ويقوم بالدفاع عن الطاغوت.
إذا كان الطفل محروماً من طفولته، والشاب من شبّته، والكهل من حياته ورعايته فما هو المبرر في الإستمرار تحت نير سلطة تخوفنا بالأعداء القوميين، وهي عميلة لها في واقع الحال؟!
يُقال لنا أن أعداء التجربة الكُردية (إيران، تركيا، سوريا)، متربصة بها وتحيك المؤامرات ضدها، لذلك علينا تجنب إنتقاد سلطة الحزبين الكُرديين في الإقليم.
هل من أحدٍ يقدر أن يشرح لنا إذا كانت تركيا وإيران وسوريا ضد تجربة إقليم كُردستان، فما سرّ قوة العلاقة بين الحزبين الكُرديين مع هذه الدول، وتمتع قادة الأكراد بمصالح تجارية داخل عواصمها من أملاكٍ ومتاجر؟
وهل من حكيمٍ يحلل لنا أسرار ترك الشعب الكُردي عرضة للفقر والضياع والتخلف والإرهاب، إذا كانت كُردستان محاطة بالأعداء؟!
إذا كان الإدعاء المذكور صحيحاً، أليس الواجب أن تقوي السلطة الكُردية بنيان الشعب الكُردي، وتسند ظهره بالقوة والحياة والتقدم؟
ويجب عليّ مرة أخرى، أن أصحح مفاهيم أخرى هنا في هذا المقال. إن البعض مازال يظن أن المتمسكين بالشأن الكُردي في الإقليم كانوا مناضلين في يومٍ من الأيام. في الحقيقة ما عدا قلّةٍ قليلة، وهي مهمشة اليوم، فإن الآخرين لم يكونوا أبداً مناضلين.
هؤلاء كانوا يقاتلون بعضهم بعضاً بمساندة دول إقليمية، وكانوا إلى يومنا هذا محكومين من قبل عواصم دول الطوق الرباعي كمرتزقة، حولوا كُردستان إلى ساحات حروب. وهؤلاء ليسوا مناضلين، لأن الذي ينهب ثروة الشعب ويصرفها على شهواته، ليس بمناضل بل هو مجرمٌ آثمٌ منحط.
ومن ثم فإن الوقوف بوجه المؤامرات التي تحاك ضد إقليم كُردستان، يكمن في تقوية الشعب وخدمته وكسب ولائه، وليس دفعه نحو أتون الضياع واليأس والحرمان والإنكسار.
إن ما تفعله سلطة إقليم كُردستان هو العكس. فهي ترضي دول الجوار وتخدمها وتعمل من أجلها من جانب، وتفتك بالأكراد وتقهرهم وترهبم من جانب آخر.
إن رجال هذه السلطة فتحوا أكبر سوقٍ للبضاعة الفاسدة لدول الجوار في كُردستان، وخصوصاً الأدوية والمواد الحاملة للأمراض والمفاسد.
إذن من هو الذي يخدم أعداء الأكراد ويواليهم ويخدم مصالحهم؟
إن قادة الأكراد يملكون القصور والفنادق والشركات التجارية في إيران وتركيا وسوريا، لذلك فإن العميل الحقيقي لهذه الدول هم قادة الأكراد قبل أي واحدٍ آخر.
إن كاتب المقال لا يأبه عما يقال ضده قيد شعرةٍ، فهو يستمد مداد كلماته من حزن الفقراء ودموع اليتامى وآهات الثكالى وحبه لشعبه الذي ترعرع بينهم يستمد الوجود من وجوده.
والمقال لا يخاطب الضمائر الميتة، لأنك لا تُسمع الموتى، ولا أنفخ أنا في رماد.
أخاطب الشباب، حاملي المدى وبناة المستقبل، أن يقوموا قيامة رجلٍ واحد، وأن يزيلوا تلك الحثالة المنحطة التي أعدمت حياتهم وحياة ذويهم، فدوة لنيران شهواتهم التي يخمدونها في الليالي الحمراء، داخل وخارج كُردستان.
أخاطبهم أن الحياة مازالت بخيرٍ وان المستقبل في إنتظارنا، ونحن جميعاً نقدر أن نبني ما يفيد شعبنا وإنساننا. اليأس لا معنى له على الإطلاق، ونستطيع أن نعوض ما خسرناه بسبب إرهاب السلطة وفسادها وجرائمها إن استعملنا عقلنا و تسلحنا بالهمّة.
سننتصر ولا نحتاج في ذلك سوى الشجاعة. الحياة والشجاعة توأمان لا ينفصلان. تشجعوا فمن يقتل كهلاً عالماً، لن يرحمكم وذويكم.
لنضع أيادينا في أيدي بعضٍ ونقوم للحق، وننتصر لبلادنا وشعبنا، ونسقِط هذه الطغمة المجرمة التي لم تزل سكاكينها مغروسة في صدر الوطن وظهر الشعب.
علي سيريني
[email protected]
التعليقات