ما كنت لأكتب في موضوع مقاومة الإحتلال الأميركي للعراق لولا أن كثيرين من الذين ما زالوا يرفعون باطلاً راية الشيوعية تغويهم أوهام انتصارات سياسية يتخيلونها فيرفعون راية مقاومة الإحتلال المهترئة طالما أنها المبرر الوحيد لاحتفاظهم بمسار سياسي حتى وإن لم يعد له أي ظل على الأرض، يضلّون ويضللون شعوبهم. بعد انهيار الإتحاد السوفياتي كان من الطبيعي جداً أن تخشى عامة القيادات في العمل الشيوعي أن تفقد بين يوم وليلة كامل رصيدها السياسي الذي سهرت على بنائه طويلاً وقدمت لأجله أغلى ما تملك. هؤلاء quot; الشيوعيون quot; لم يعودوا شيوعيين حقاً بعد أن ضيّعوا عدوهم الطبقي بل ولن يعودوا حتى سياسيين حقيقيين، حيث أن السياسة ليست إلا أدب الصراع الطبقي والتي لا تقوم بغير معرفة العدو الطبقي وتحديده حصراً. لقد رضوا لأنفسهم أن يلعبوا دور السياسي المزيف ؛ يملأون الأجواء زعيقاً.. الاحتلال! الاحتلال!، دون أن يفصحوا عن أية أهداف لهم في مقاومة الاحتلال أو عمّا يخططون له بعد الخلاص من الإحتلال وهو المبرر الوحيد لمقاومة الإحتلال.

نحن نعلم أن عصابات النظام الدكتاتوري الدموي السابق في العراق إنما تقوم بعملياتها الإجرامية في تقتيل المدنيين بالمئات والألوف مؤملة استعادة نظام عصابة تكريت الذي استخدمها حرساً حديدياً مقابل مكافئات مجزية لم تحلم بمثلها يوماً. لكن هؤلاء الشيوعيين سابقاً ليسوا من طينة هذه العصابات الإجرامية حتى وإن خطبوا ذات الخطاب ورفعوا ذات الشعارات إذ كانوا فعلاً قد ذاقوا الأمرّين على يد هؤلاء القتلة من حرس النظام الدموي السابق. quot; الشيوعيون quot; من أيتام خروشتشوف وبريجينيف وقد خرجوا على طبقة البروليتاريا قبل أكثر من نصف قرن ونسوا تبعاً لذلك ماركس ولينين، ليس لهم اليوم إلا البحث الحثيث عن أي شغل يناسب خبراتهم السياسية الطويلة فلم يجدوا سوى مقاومة الصهيونية قبل العام 2003 ومقاومة الاحتلال الأميركي للعراق بعده، وليس في الحالتين أية ظلال للشيوعية، بل إن السياسة بحد ذاتها لا تعود سياسة مع أي غياب للعدو الطبقي طالما أن السياسة إنما هي التعبيرات المتباينة للصراع الطبقي.

أحد الشيوعيين سابقاً كتب فيما كتب يقول.. quot; الماركسي الحقيقي هو من يقاوم الإحتلال الأميركي للعراق quot;. لا أدري من أين أتى هذا quot; الشيوعي quot; بهذا الاجتهاد الخنفشاري! ما نعلم هو أن كارل ماركس لم يُعن بأثر الإستعمار في التطور الرأسمالي والسياسي، وأن لينين هو من بحث في الرباط الإقتصادي الاستعماري في كتابه القيّم (الاستعمار أعلى مراحل الرأسمالية). ولخيبة هذا الشيوعي المزعوم أشار لينين إلى أن الاستعمار يساهم في تطوير البلدان التي لم تصل بعد إلى عتبة النظام الرأسمالي حيث يخلق على الأقل فيها صناعة وبالتالي طبقة عاملة من جهة وطبقة بورجوازية من جهة أخرى لم تكن كلتاهما موجودتين، وهو ما يساهم في تعميق التناقضات في النظام الرأسمالي ويقرّب استحقاق الثورة الإشتراكية تبعاً لذلك. وهكذا فقد اعتبر لينين التناقض بين مراكز الرأسمالية وشعوب البلدان المستعمرة والتابعة هو التناقض الرئيسي الثاني من حيث الأهمية وذي الدور الكبير في تفكيك النظام الرأسمالي العالمي. ومن هنا خاطب لينين قادة الحركات الوطنية في المشرق الأسيوي المجتمعين في باكو 1921 أن يهبوا إلى النضال من أجل الاستقلال متعاونين مع السوفييت، وطرح إذاك شعاره الشهير quot; يا عمال العالم ويا شعوبه المضطهدة اتحدوا! quot;. لولا الاستعمار ما كان لينين ليجد مثل هؤلاء الزعماء المشرقيين يساعدون في تفكيك النظام الرأسمالي العالمي.

تطرقنا إلى موضوع الاستعمار لأن صاحبنا quot; الشيوعي quot; اجتهد اجتهاداً خنفشارياً على افتراض أن أميركا ما زالت دولة إمبريالية وبذلك يكون احتلالها للعراق استعماراً جديداً. لو كان الأمر كذلك من جهة وأن هناك ثورة اشتراكية قائمة كما كان الأمر في خمسينيات القرن الماضي من جهة أخرى لكان اجتهاده شرعياً وحقيقياً. لكنه ليس كذلك في أي من شقّيه ؛ فالثورة الإشتراكية لم تعد موجودة حتى في أفق العالم المنظور على الأقل، وأمريكا لم تعد دولة رأسمالية منذ ثلاثين عاماً على الأقل، واحتلالها للعراق ليس احتلالاً استعمارياً ؛ لو كان كذلك لما تعهدت بالخروج من العراق حالما تصبح الحكومة العراقية قادرة على أن تفرض سلطتها على كامل الأرض العراقية. جاءت أمريكا إلى العراق لتحقيق ثلاثة أهداف معلنة، وهي سحق الحكم الدكتاتوري القمعي، ومحاربة الإرهاب في المنطقة موئل الإرهاب، ونشر الحكم الديموقراطي في الشرق الأوسط الكبير. لقد حققت هدفيها الأول والثاني وبعضاً من هدفها الثالث، ولعل بعضاً آخر منه يتحقق قبل رحيلها في العام 2011 ـ ماذا لو نجح الشيوعيون في طرد الاحتلال لحساب عزة الدوري وشراذم البعث التي فتتها المحتلون؟ ستعود النسخة الثانية من صدام الدموي ؛ أو حتى لحساب عبد العزيز الحكيم أو مقتدى الصدر؟ ماذا سيحل بالمرأة عندئذٍ؟ أو بالشيوعيين الكفار؟.. بول بريمر أصر على إشراك الشيوعيين في مجلس الحكم وفي الوزارة وهو لا يعلم أن شيوعيي القرن الحادي والعشرين يختلفون تماماً عن شيوعيي منتصف القرن العشرين. فلماذا كان تسمية الدكتورة نزيهة الدليمي وزيرة في حكومة عبد الكريم قاسم في العام 1958 انتصاراً للحزب الشيوعي وأي انتصار بالرغم من أن الدليمي إمرأة ولم تُعلن شيوعيةً، وبالرغم أيضاً من أن الثورة الاشتراكية العالمية كان لها اليد العليا في العالم كله؟ لماذا يغفل صاحبنا المجتهد عن تسمية بريمر زعيم الحزب الشيوعي، حميد مجيد، عضواً في مجلس الحكم، ومفيد الجزائري، الرجل الثاني في الحزب وزيراً للثقافة، وللثقافة تحديداً، وكان أول وزير يعطى صلاحية إدارة شؤون وزارته دون الرجوع لبريمر أو لأي أمريكي. سأذكر هذا المجتهد بالخنفشار وأضرابه من الشيوعيين سابقاً أن الديموقراطية والحريات التي يتمتع بها الشعب العراقي اليوم ستكون أثراً بعد عين حال رحيل الإحتلال. لن يكون حال العراق أفضل من حال البصرة تحت حكم عصابات مقتدى الصدر وحرس الثورة الإيراني.

ما بدا واضحاً في سيناريو احتلال العراق هو أن البنتاغون كان قد عمد إلى تنفيذ خطة الإحتلال دون مشاركة جماهير الشعب العراقي، ولذلك تحاشى دخول المدن العراقية في الجنوب وتسلل في الصحراء حتى الوصول مباشرة إلى بغداد. ما يمكن استنتاجه من هكذا خطة هو أن الأمريكيين تحاشوا إشراك الشعب العراقي في إسقاط النظام السابق من أجل ألا تشارك الأحزاب الكبرى في تقرير أمور العراق حال سقوط النظام، وبذلك تكون البنتاغون صاحبة القرار الأول والأخير في شؤون العراق. ولعل تبريرهم لتلك السياسة كان هو أن المنظمات الجماهيرية التي كان لها أن تكون رأس حربة في إسقاط النظام إنما هي منظمات دينية ومغرقة في الطائفية وموالية لنظام الملالي في إيران ولا يركن إليها في تقرير طبيعة الإدارة الجديدة. كان الأمر الأبرز في سياسة الإحتلال هو تركه الحدود العراقية مفتوحة دون أدنى رقابة وتركه شؤون الأمن الداخلي دون أدنى ضوابط وليس من تفسير لتلك السياسة الغريبة والمستهجنة سوى أن القيادة الأمريكية كانت قد خططت لاجتذاب أعدائها الإرهابيين من مختلف الألوان في المنطقة وإبادتهم بسهولة على الأرض العراقية، الأمر الذي لم يتم. تصور الأمريكان أن مواجهة الإرهابيين ستكون سهلة مفترضين خطأً أن جماهير الشعب العراقي ستتعاطف معهم وتساعدهم في تلك المواجهة. نجم مثل هذا الإفتراض عن جهل بما تركته آلة الرعب الصدامية على نفسية الشعب العراقي ناهيك عن بنيته السيكولوجية الفريدة.

نفاق وكذب quot; الشيوعيين quot; من أيتام خروشتشوف وبريجينيف تجسدا في أنهم سكتوا سكوت الصخر الأصم على انهيار الإتحاد السوفياتي الكارثي، لكنهم ملؤوا الدنيا صراخاً وزعيقاً احتجاجاً على انهيار الدولة الوطنية ـ إذا افترضنا ما لا يجوز افتراضه وهو أن دولة صدام حسين كانت دولة وطنية ـ متناسين حقيقة تاريخية كبرى وهي أن الدولة الوطنية إنما كانت امتداداً للدولة الإشتراكية. ولذلك، فعندما تغيب الدولة الإشتراكية، بغض النظر عن أسباب غيابها، لا بدّ أن تغيب معها الدولة الوطنية حيث تفقد وظيفتها العضوية ولم يعد لها أي مبرر لوجودها. لكن ممتهني السياسة من البورجوازية الوضيعة بشكل خاص لا يقرّون بوجوب غياب الدولة الوطنية لأن ذلك يحرمهم من حرفتهم السياسية ويقعدهم عن كل عمل ولأنهم أساساً يجهلون جهلاً تاماً العلاقة العضوية بين الثورة الإشتراكية، وهي المركز، والثورة الوطنية وهي الطرف. تشفق العامة على أولئك الذين لا يجدون شغلاً لهم إلا بالقطعة، لكن هؤلاء الشيوعيين سابقاً لا يستثيرون مثل هذه الشفقة إذ أنهم لا يستحقونها طالما أنهم عملوا طويلاً في الحركة الشيوعية وخرجوا بالتالي ليس صفر اليدين فقط بل وصفر الرأس أيضاً. فأي معنى اليوم بعد غياب المعسكر الإشتراكي للدولة الوطنية؟ عن أي وطنية يتحدث هؤلاء الوطنجيون واليسارويون والشيوعيون سابقاً؟؟ الدولة الوطنية، كما في العلوم السياسية، هي الدولة البورجوازية التي نجحت في تحقيق الإستقلال وفك الروابط مع الإمبريالية الدولية من أجل إقامة إقتصاد وطني مستقل قائم على الذات وهو الهدف الوحيد لثورة التحرر الوطني. هذا كان حلم البورجوازية التي قادت ثورة التحرر الوطني في العالم الثالث ـ كان مجرد حلم غير قابل للتحقيق حتى وبوجود المعسكر الإشتراكي المبرر الوحيد لاجترار مثل ذلك الحلم. المشروع الوطني المستقل جرى عليه التاريخ وغاب نهائياً دون عودة ولن يحلم به سوى دونكيشوت حيث تسعى اليوم الدول من مختلف السياسات إلى الإنضمام إلى منظمة التجارة العالمية والتخلي عن السياسات القومية والاستقلالية.

العالم الأميركي المشهور بعلم الإحصاء والمعلوماتية أرك كارلتون (Eric Carlton) أصدر كتاباً في العام 1992 باسم (الإحتلال ـ Occupation) يبحث في خصائص الإحتلال العسكري وطرائقه المتنوعة في تحقيق أغراضه. من خلال مراجعة شاملة للتاريخ وجد هذا العالم أن ثمة أحد عشر صنفاً للاحتلال تتمايز بأسلوب تحقيق الأغراض أو إقامة حجة الاحتلال. فمنها ما يعيد إقامة الشرعية كاحتلال الاسكندر (ذي القرنين) للشرق الأوسط في القرن الرابع قبل الميلاد، ومنها ما يقوم بالتمثّل والهضم كما الإحتلال الروماني، ومنها ما يتبع طريق تغيير الحضارة والثقافة كالإحتلال البريطاني، ومنها ما يأخذ شكل الضم التعسفي كما في احتلال اليابان لشرق آسيا، ومنها ما يأخذ شكل الإستغلال المباشر كاحتلال اسبانيا لأميركا اللاتينية، أو الاستعباد كاحتلال الأشوريين لشرق المتوسط أو القهر العنصري مثل النازية. وصنف الكاتب الإحتلال الأميركي لبعض أقطار أميركا اللاتينية في القرن التاسع عشر بالتثقيف أو إعادة بناء الثقافة العامة (culturation).

الاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003 ليس صنفاً من هذه الأصناف جميعها. ما يتشابه معه في الشكل دون المحتوى هو احتلال الاسكندر للشرق الأوسط أي البحث عن الشرعية ـ ولعل بغداد ذات سبق في البحث عن الشرعية فالعباسيون، في القرن التاسع الميلادي في بغداد تناسوا مسألة quot; الخلافة للهاشميين quot; وطفقوا يبحثون عن شرعية أخرى لولايتهم، شرعية مدنية دستورية وثقافية غير دينية. الإحتلال الأميركي للعراق أقام شرعيته على دعوى إنكار شرعية نظام صدام ذي اللبوس القومي، وهي شرعية لا يقرها أحد، من أجل إقامة شرعية مقبولة على القانون الدولي المتمثلة بالبناء السياسي الليبرالي القائم على الديموقراطية الليبرالية والتعددية وتداول السلطة. ومثل هذه الشرعية مقبولة، جهراً على الأقل، على كافة الأطراف العراقية. يحتج ممتهنو السياسة بأن أمريكا لم تتكلف غالياً من أجل إقامة الديموقراطية في العراق، لكن الأمريكان لم يدّعوا بهذا بل قالوا أن إزاحة الحكم الدكتاتوري الدموي عن صدر الشعب العراقي إنما هو محطة أولى وأساسية لإشاعة الحكم الديموقراطي في منطقة الشرق الأوسط حيث السياسات القمعية ومصادرة الحريات هي الأم الشرعية للإرهاب الإسلاموي وغير الإسلاموي، وهذا صحيح. لا يمكن إدانة مثل هذه المقاربة حتى وإن كنا نعلم تماماً أن مختلف المجتمعات في الشرق الأوسط لا تمتلك البنية التحتية لإقامة أي بناء سياسي ليبرالي. بل إننا لا نستطيع إدانة هذا المشروع الأمريكي ونحن نعلم تماماً أن الولايات المتحدة الأميركية وبعد أن فقدت اقتصادها الرأسمالي وأي اقتصاد يقوم على الذات ترتب عليها أن تحمي عجزها الاقتصادي بالحروب الدورية واحتلالها العراق هو إحدى هذه الحروب. الحروب الدورية الأمريكية تقوم اليوم بدل الغطاء القيمي للدولار (الذهب أو غيره) بعد أن عجزت الولايات المتحدة عن توفير أي غطاء، وهو ما يعني قطعاً أن هذه الحروب ليست حروب الإمبريالية ولا تهدف إلى نهب الثروات أو السيطرة على منابع النفط في حالة العراق كما يزعم بعض ممتهني السياسة.

ما يتغافل عنه ممتهنو السياسة المستظلون براية مقاومة الإحتلال هو أن الإدارة الأميركية برئاسة بوش الإبن ومنذ ولايتها في العام 2000 اتخذت سياسة ثابتة لا تحيد عنها هي سياسة العزلة (Isolation Doctrine) التي شكلت المبدأ العريق في السياسات الخارجية القديمة للولايات المتحدة. سياسة العزلة المعاكسة تماماً لسياسة كلنتون الغارقة في قضايا الشرق الأوسط. أصرّ بوش الإبن على التمسك بسياسة النأي عن الشرق الأوسط بشكل خاص بالرغم من موجة النقد الكاسحة لتلك السياسة باعتبار أن مسألة الشرق الأوسط تعتبر أهم مسألة في العالم لا يجوز تجاهلها من قبل أعظم دولة في العالم. ما أرغم الرئيس جورج بوش على التخلي عن مبدأ العزلة هو جريمة الحادي عشر من سبتمبر 2001 وهي الجريمة التي هزّت بعنف القواعد الأساسية لهيبة أعظم دولة في العالم وهي الدولة الأميركية. بسبب تلك الجريمة فقط، الجريمة التي قام بها تسعة عشر مجرماً من المشرق العربي المتأسلم، تخلت الإدارة الأميركية عن سياسة العزلة والانصراف كليّاً إلى معالجة شؤون أميركا الداخلية لتتبنى بدلاً عنها سياسة جديدة تدور حول دمقرطة الشرق الأوسط كعلاج وحيد يطهره من تنامي العنف والإرهاب في دوله المختلفة التي تحكمها حكماً تسلّطياً دكتاتورياً سلطات الدوائر المغلقة (Closed Cirrcle) التي لا تمثل أي طبقة من طبقات المجتمع في طور التكوين. نأتي على ذكر هذه الحقائق لنؤكد أن الإتهامات التي يسوقها المستظلون براية مقاومة الاحتلال البالية بادعاء الطبيعة الإمبريالية للسياسة الأميركية بإدارة بوش الإبن إنما هي اتهامات باطلة لا يبررها سوى الاستماتة لإيجاد وظيفة مؤقتة لممتهني السياسة من الشيوعيين بلا شيوعية والقوميين بلا قومية حتى ولو اصطفوا في الصفوف الذيلية لطوابير الأسلمة.

نذكر المستظلين براية quot; مقاومة الإحتلال quot; من ممتهني السياسة من البورجوازية الوضيعة بأن الولايات المتحدة الأميركية كانت قد أنذرت حكومة طالبان في أفغانستان لأن تسلم رأس الجريمة، أسامة بن لادن، لمحاكمته في الولايات المتحدة وإلا فإن الولايات المتحدة ستكون مضطرة لاحتلال أفغانستان لأجل القبض عليه وتقديمه للمحاكمة. لم تستجب حكومة طالبان للإنذار وانتظرت الولايات المتحدة طويلا كي يتم تسليمها بن لادن حتى بات انتظارها يؤشر إلى عجز فاضح لقوة أميركا، فما كان منها إلا أن ذهبت مرغمة لاحتلال أفغانستان. ونحن نرجح في هذا السياق أن إدارة بوش كانت ستعود لتبني سياسة العزلة لو تم تسليمها بن لادن وشركاءه في الجريمة وحوكموا ونالوا العقوبة القانونية، ولما انجرت إلى الحرب على العراق، ولما وضعت خارطة جديدة للشرق الأوسط الجديد ـ لكن هذا لا يعني أن الولايات المتحدة ستتخلى عن سياسة الحروب الدورية كغطاء وحيد للدولار.

وجد الأميركيون بحق أن الإرهاب إنما هو رد الفعل الطبيعي لطغيان السلطات الحاكمة في العالم الإسلامي، والعربي منه بشكل خاص. ولولا مثل هذا الطغيان لما كانت جريمة الحادي عشر من سبتمبر. كانت الولايات المتحدة هي نفسها قد وقفت إلى جانب مثل هذه السلطات الطاغية من أجل مساهمتها في مقاومة الشيوعية. أما اليوم ولم تعد ثمة شيوعية فيتوجب تشجيع التيارات المعارضة المطالبة بالحرية والديموقراطية. وهكذا تبنت الإدارة الأميركية سياسة جديدة عنوانها quot; الشرق الأوسط الجديد quot; بمعنى أن تتسلم الشعوب مصائرها في المنطقة وتستغني عن الدولة البطريركية والدولة الدكتاتورية، دولة الدائرة المغلقة التي لا تمثل أياً من الطبقات المتجسدة في المجتمع. وأطلق بعضهم عل مثل هذه السياسة اسم quot; الفوضى الخلاقة quot;. والفوضى الخلاقة تقول أن الخارطة الجيوسياسية الماثلة حالياً في المنطقة إنما هي من صناعة الاستعمار الأنجلو _ فرنسي ؛ هذه الخارطة يجب أن تنتهي وتتغير إلى خارطة أخرى ترسمها القوى الحيّة في مجتمعات شعوب المنطقة ـ مع تحفظنا الشديد على صفة الحيّة حيث شعوب المنطقة تعتمد على الاقتصاد الريعي ولا تنتج. وفي مثل هذه النظرية تتراءى الروح التقدمية المتعلقة بالديموقراطية واحترام طموحات الشعوب خلافاً لما أضفى عليها أدعياء الوطنية من ظلال سوداء رجعية. بالرغم من أن مثل هذا المشروع الديموقراطي غير قابل للتحقيق على الإطلاق لكنه في كل الأحوال يلعب دوراً ثورياً في تغيير وتبديل الأنماط الرجعية في التفكير السائد.

الذين يرفعون اليوم راية مقاومة الإحتلال يفترضون ضمنياً أن الولايات المتحدة الأميركية ما زالت دولة إمبريالية ؛ وكيما تكون إمبريالية لا بدّ أن تكون رأسمالية حيث أن الإمبريالية إنما هي المرحلة العليا من مراحل الرأسمالية. لكن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد دولة رأسمالية ليس منذ العام 1975 وانعقاد مؤتمر الخمسة الأغنياء (G5) في رامبوييه وتقنين فصل الدولار عن قيمته البضاعية بصورة رسمية ـ والقيمة البضاعية للنقد هو القانون الملك في النظام الرأسمالي ـ بل منذ العام 1971 وقد أمسكت بخناقها أزمة رأسمالية قاتلة أدّت إلى انكشاف عملتها الوطنية، الدولار، واضطرارها إلى الخروج من معاهدة بريتونوود(Brittonwood) التي تقضي بغطاء 20% من العملة الوطنية بالذهب. خرجت من المعاهدة لتبدأ بطباعة أوراق نقدية مكشوفة لا قيمة لها. اللصوص هم الذين يقترفون جريمة تزوير العملة لكن ليس الرأسماليين. الرأسماليون تجارتهم الوحيدة هي إنتاج البضائع ولا يقبلون على الإطلاق أن يبادلوا بضائعهم بنقود مكشوفة وغير مضمونة القيمة ضمانة معتمدة لا شبهة فيها. الولايات المتحدة الأميركية لم تعد دولة إمبريالية تحتاج لفتح أسواق جديدة لأجل تسويق بضائعها طالما أنها لم تعد تنتج من البضائع ما يكفي لتغطية احتياجاتها، أو للإستيلاء على ثروات البلدان الأخرى طالما أنها تستطيع أن تشتري ما تشاء من ثروات العالم عن طريق طباعة تريليونات الدولارات المكشوفة ويشتريها العالم رغم ذلك، أو لاستخدامها في مقاومة الشيوعية حيث لم تعد هناك شيوعية وحتى هي نفسها لم تعد تقاوم الشيوعية في بلادها.

ليقل لنا تجار السياسة من البورجوازية الوضيعة لماذا يقاومون الإحتلال الأميركي للعراق وهو الذي أزاح عن صدر الشعب العراقي حكم عصابة إرهابية دموية لا نظير لها في التاريخ!! ما الذي سيفعلونه بالعراق بعد طرد المحتلين الأمريكان!! من الغريب والمذهل حقاً هو أن نفراً من الذين يرفعون راية الشيوعية يعلنون دون تردد بأنهم سيقيمون الإشتراكية بعد طرد الأمريكان!! عندما أعلن لينين عزمه على إقامة الاشتراكية في روسيا القيصرية الممتدة على عرض قارتين وتعداد سكانها قرابة المائتي مليوناً، كونها أضعف حلقة في سلسلة الدول الإمبريالية وإنتاجها الصناعي الرأسمالي يساوي 20% من مجمل إنتاجها القومي فقط، عندما أعلن ذلك هبّ زعماء الأممية الثانية ومنهم صديقه ورفيقه بليخانوف يعارضونه ويصفونه بالمغامر. هكذا وصفوا لينين إذّاك، فكيف سيصفون ما يسمّى بحزب العمال الشيوعي الذي يجاهر بإقامة الإشتراكية في العراق الذي لم يستقر بعد على بنية اقتصادية ثابتة وبنيته سياسية مناسبة، ما زال في طور الإقتصاد الريعي والدولة الدينية والبطريركية أو دولة الدائرة المغلقة، دولة العصابة؟!! الآخرون من مقاومي الإحتلال لا يعلنون نواياهم فيما سيفعلون بالعراق بعد الإحتلال، ويختبئون خلف ما يسمى بالدولة الوطنية حين يحشرون في زاوية ضيقة. لقد تبدّت وطنية نفر من أدعياء الوطنية حين تولوا السلطة في ظل الإحتلال فكان أن علّموا الأمريكان الغش والسرقة ونهبوا عشرات المليارات من الدولارات بينما الشعب العراقي يلتهم التراب. هؤلاء الذين اكتسبوا ضروباً من الوطنية بمقاومتهم الطويلة والصعبة للحكم الدكتاتوري، فما بالك من أدعياء الوطنية الذين شاركوا الدكتاتور في قهر الشعب وإفقاره؟! حتى الحزب الشيوعي وقد قدّم تضحيات كبيرة في مقاومته للحكم البائد لم يعلن عن أي مستقبل يرومه للعراق بما يتعدى الأهداف المعلنة لقوى الإحتلال وملخصها الحكم الديموقراطي النظيف بما يقتضيه من سيادة القانون وضمان الحريات والتعددية وتداول السلطة.

عندما نادى لينين بالثورة الإشتراكية العالمية في العام 1919 كان يرى امتدادين للثورة : الامتداد الأول ويتمثل بصراع البروليتاريا في الدول الرأسمالية الامبريالية للإستيلاء على السلطة والانضواء إلى جبهة الثورة الإشتراكية ؛ والامتداد الثاني وهو ثورة التحرر الوطني المتمثلة بنهوض البورجوازيات الوطنية لفك روابط بلادها مع مراكز الرأسمالية الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى تفكيك النظام الرأسمالي العالمي. اليوم وقد انهار مشروع لينين واختفت الثورة الإشتراكية من الأفق المنظور على الأقل، فما عساها أن تكون وظيفة الدولة الوطنية، خاصة وأنها لم تعد وطنية بل تحولت إلى دولة الدائرة المغلقة (العصابة) التي لا تمثل أي طبقة اجتماعية نتيجة التخلف؟؟ الدول التي توصف اليوم بالوطنية إنما هي من مخلفات مرحلة صراع الثورة الإشتراكية لتفكيك النظام الرأسمالي العالمي والتي ما زالت تقاوم حكم التاريخ عليها بالاختفاء. هل ثمة فرصة لمثل هذه الدول لبناء إقتصاد مستقل تحت مظلة منظمة التجارة العالمية (WTO) التي اتسعت لتظلل العالم؟؟ يتوجب على أدعياء الوطنية والقومية والاشتراكية أن يكفّوا عن ترويج الأفيون بين شعوبهم حيث أن كل المشاريع الوطنية والقومية والإشتراكية كانت قد اختفت باختفاء مشروع لينين بل وقبل اختفائه منذ أن بدت علائم التصدع والانهيار عليه في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. ليسوا إلا تجاراً للأفيون من البورجوازية الوضيعة أولئك الذين سيرفعون عقيرتهم بالاحتجاج ضد هذه الحقيقة التاريخية التي من شأنها أن تحرمهم من مستقبلهم السياسي الذي راهنوا عليه طيلة العمر. مختلف البرامج السياسية التي يمكن تدبيجها اليوم إنما هي روافد تصب في النهر المتدفق للإنتاج البورجوازي الوضيع، إنتاج الطبقة الوسطى من الخدمات، الذي اكتسح منذ أكثر من ثلاثة عقود تيار الإنتاج الرأسمالي البروليتاري. ليس لقوى التقدم الحقيقية المستنيرة بالماركسية اللينينية أن تعلّق أية آمال اليوم على فلول البروليتاريا المنهزمة حتى في المراكز السابقة للرأسمالية الكلاسيكية.

فـؤاد النمـري
www.geocities.com/fuadnimri01