منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة وحتى يومنا هذا والعراق مبتلي بأزمات متتالية و كأن هناك من خطط لها، نصب ملك من الحجاز وكأن العراق خلا من رجال وقيل له أنت صنيعتنا ورفضت مدينة السليمانية مبايعته، حاول الرجل ولم يفلح.


ومن جاء للحكم تنكرلحقوق الأكراد و التي نصت عليها قرارات عصبة الأمم المعلنة لأستقلال العراق، وبقى الكورد مطالبين بحقهم عبر وسائل عدة السلمية منها والعنفية، وفرضت و لسنوات طوال حكومات متوالية لجأت للعنف كلما شعرت أن غضب الشعب سوف ينفجر، وعاش العراق ثلثي سنوات الحكم الملكي تحت الأحكام العرفية ومعها المحاكم العرفية..


سقط الحكم الملكي، ونمت عصبيات حزبية سياسية نشرت ثقافة الكراهية والحقد وعدم التسامح، ومن بعد ذلك جاء حكم جديد بأنقلاب يحمل معه عصبية جديدة، العصبية الطائفية السياسية، وجاء بعده أنقلاب أخر يحمل معه تشكيلة من العصبيات الطائفية والسياسية والقومية، ومعه الخراب والموت، ألأستبداد والتعصب لم يكن ظاهرة عراقية فقط، بل ظاهرة عربية أسلامية، يقول السيد محمد خاتمي الرئيس السابق للجمهورية ألأسلامية الأيرانية، بعد أنقضاء فترة حكم الخلفاء الراشدين جاءت الى دست الحكم أنظمة أستبدادية أستمرت والى يومنا هذا تحت مختلف المسميات.

أسوق كل هذا ليس أستعراضا للتاريخ بل لأبين التركة الثقافية الأجتماعية الثقيلة للعصبية ألأستبدادية الممزقة للنسيج ألأجتماعي ألأهلي التي واجهها من تصدى للحكم بعد نيسان 2003.


العصبية ظاهرة أجتماعية،أساسها ألأستحواذ على السلطة، سياسية كانت أو دينية أو مذهبية أو عشائري تتمثل بنشر البغضاء والكراهية والعدوانية بين مجموعتين من الناس تختلف في وجهات النظر، سياسية كانت أو دينية أو مذهبية أو عشائرية، كل منها تصر على أن موقفها صحيح لا يقبل الخطأ وأن الطرف الأخر خاطئ لا احتمال لصوابه، كل من الجهتين تحاول أما أستمالة الطرف ألأخر لموقفها وأنصهاره بها، وأذا فشل ذلك فالقضاء عليه حتى جسديا.


العصبية وبمختلف أشكالها أصابت العديد من شعوب العالم، منها من عالجها بحكمة وتخلص من شرها، ومنها من واجه القتل والمذابح، قبل الوصول ألى حل.
يتحدث أبن خلدون في مقدمة أبن خلدون وبأسهاب في موضوعة العصبية ويشير أن العصبية جزء من نسيج المجتمع، وأن بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر يجتمع اليه وأن يكون هناك حاكم أو وازع لابد أن يكون متغلبا عليهم بتلك العصبية، وهذا التغلب هو الملك، فالتغلب الملكي ( بضم الميم) غاية للعصبية، ثم أن القبيل الواحد،فيه بيوتات متفرقة، ليؤكد انصهار مختلف العصبيات في عصبية واحدة ذات قوة ومنعة وأذا فشلت مثل هذه الوحدة وقع الأفتراق المفضي للأختلاف والتنازع.


أبن خلدون وضح لنا من خلال قرائته للتاريخ، ومسيرة حياة المجتمعات ألأنسانية، أنه لا بد من عصبية واحدة تقبل بها كافة العصبيات ألأخرى (المكونات )، وتعمل تحت لوائها، وعلى العصبية الجامعة أن لا تكون مستبدة.


العراق هو عصبيتنا التي يتحدث عنها أبن خلدون والمواطنة العراقية العصبية التي تعمل تحت لوائها بقية العصبيات،،ان لا يكون من يمسك السلطة في العراق مستبدا ويحترم العصبيات ألأخرى لتمتين حكمه و منع الأقتتال.


هذا علمنا أياه أبن خلدون في كيفية التعامل بين العصبيات المختلفة والتي يطلق عليها اليوم _ المكونات _، وكيف يمكن أن تتعايش ضمن دولة واحدة، وسوف يكون هذا التعايش مصدرا لقوة الدولة و أستمرارها وضمان عيش المواطنين، يشرح برؤيته وجود عصبيات مختلفة أما أن تتفق على عصبية واحدة أو نختلف ونتحارب وهو ما يجلب الموت والدمار.


لآ أود أعطاء الأمثلة فوقتنا محدود وأنا متأكد أن كل منا يعرف مئات الأمثلة لحوادث تاريخية قديمة أو حديثة للعصبية وما تجر من ويلات على الشعوب.
ومع ألأسف، وبعد سقوط حكم الطاغية فشلت الطبقة السياسية في معالجة موضوعة ثقافة التعصب بل أججت، وبأشكال شتى عبر سياسة الفعل ورد الفعل، عصبية مذهبية وعصبية قومية ومناطقية أخذ معظمها منهج العنف والأستئثار، وبدلا من مواجهتها وحلها سلميا تحت راية المواطنة تم اللجوء ألى لمحاصصة العصبيات المختلفة والتي لا تبني وطن كما يشرحه لنا [بن خلدون وما جلبته من أثام بحق العراق وما زالت تجلبه.وراحت ألأذاعات وأقنية التلفزيون الناطقة باللغة العربية تؤجج للصراع المذهبي والقومي مستهينة بأرواح العراقيين، وبدلا من الأستفادة من الموروث النير مثاله ما نسب للأمام علي أبن أبي طالب عليه السلام (أبليس أساس العصبية وحكم الله في أهل السماء وأهل الأرض لواحد )، بدلا من نشر هذه الحكمة بين الناس و في مختلف المجالات راح البعض يبحث عن الغث والغلو في البعض من كتب التراث تصعيدا للتعصب المفرق للناس وأقتتالهم و من أجل فرض سلطته على المجتمع بدلا من التأكيد على عصبية المواطنة العراقية.
في وضع مثل وضع العراق، هناك حاجة ماسة لثقافة الحوار والقبول بالرأي ألأخر والأبتعاد عن لغة التعصب والعنف، ولنا في موروثنا الكثير من العلامات المضيئة، ينسب للأمام الشافعي قوله ( رأي صحيح يقبل الخطأ ورأيك خاطئ قد يجوز صوابه )، انها ثقافة الحوار وثقافة القبول بالرأي المخالف، هل جرى الترويج لهذه الحكمة ألأنسانية الحضارية، وعقدت الندوات لشرحه ودعي الناس للأستفادة منه، الجواب كلا.وأذا ما درسنا تاريخنا نجد من ألأئمة الكبار أبو حنيفة النعمان، في دروسه و كيف أنه عندما تعرض عليه قضية لأبداء ألرأي يطلب من تلاميذه تقديم كل مطالعته ووجهة نظره وقد يطول الحوار بين ألأمام وتلاميذه أشهرا، قبل التوصل لأعطاء وجهة النظر في تلك القضية.
يتطلب الحوار البناء عاملين أساسيين، أولا| حرية المتفاوضين، لا ارهاب ولا وعيد. ثانيا | المساواة بين أطراف الحوار لا كبير ولا صغير لا غني ولا فقير، لا مسلح ولا أعزل من السلاح.
أذا ما توفر ت هذه العوامل، عندئذ نستطيع أن نحقق حوار حر قد يصل الى نتيجة أو لا يصل، واذاما كانت القضية عامة يلجأ الى ألأنتخابات أو ألأستبيا ن العام.
ولحل مشاكل بين طرفين أو أكثر يستفاد من دور طرف محايد يقرب من وجهات النظر أولا، ويدرس مع كل طرف رؤياه وفي وقت لاحق تجتمع الأطراف مع الجهة المحايدة والتي تقوم بأدارة الحوار،.باختصار أود أن أذكر تجربة أيرلندة الشمالية والقتل القائم على العصبية المذهبية أستمر و لمدة 34 سنة ولم يحل بأنتصار هذا أو ذاك ولا تصفية هذا الطرف أوالطرف الأخر،و رغم كل القتل والخراب، حل الصراع عن طريق الحوار، وبدأه طرف ثالث محايد.
بالرغم من مرور سنوات عدة أخذت موضوعة الحوار (المصالحة)حيزا كبيرا من القضايا والنقاشات و المؤتمرات والأموال، ولكن مردود ذلك بقي محدود، و ما تزال عقد رئيسية وعقبات معرقلة أمام بناء الدولة العصرية العراقية، والحوار الذي جرى ويجري مع من هو في أطار العملية السياسية لم يحل هذه العقد وهي ليست بالسهلة، والحوار الذي جرى بين من هو في أطار العملية الساسية ومن هو خارجها لم يصل الى نتيجة تذكر
أعتقد من الضروري أن نفكر وأن نبحث في هذا ألأمر، هل هو قضية أنعدام أو ضعف ثقة بين الأطراف المختلفة، هل هو الخوف من خسران مواقع ونفوذ، أو مسببات أخرى
من الممكن أن نعود الى موضوعة الطرف الثالث المحايد في عملية الحوار وهل يمكن تطبيقها على العراق ؟ هل يمكن أن نقدم أقتراحا ت ملموسة لدفع عملية الحوار ألى أمام من خلال وجود طرف عراقي محايد همه أستقرار العراق وأعادة بناء دولته العصرية، يستمع و يحاور، يقدم رؤى أذا أقنع الطرفين بحياديته، هذه أسئلة أمل أن تستطيع ندوتنا هذه التوصل الى مقترحات ملموسة في هذا ألشان.
كيف ننشر ثقافة الحوار
لدينا وزارة للحوار و لدينا وزارة للثقافة نسمع ونقرأ الكثير عن ضرورة ثقافة الحوارولكن المشكلة تتمثل في أن هذه الدعوات لم تتحول ألى منهج أو برنامج يدخل في مفاصل الحياة السياسية والتعليمية والثقافية بل أن ما يجري في البعض من المدارس والمعاهد والجامعات بعيدا عن لغة الحوار والقبول بالرأي ألأخر،كذلك علينا أن نتسأل هل أن مناهجنا التعليمية تشجع على وجود أكثر من وجهة نظر أم هي شمولية الموقف والرؤية، نحن بحاجة الى حملة منهجية واسعة لنشر ثقافة الحوار وعدم الأقتصار على بعض المبادرات الفردية.
دعوني هنا أن أستطرق قليلا
في بريطانيا لا توجد مشكلة متأزمة للعصبية، وأنعدام للغة الحوار، ولكن و مع هذا تخصص عدة ساعات في الأسبوع وضمن حصص الدراسة للحوار بين الطلاب في مختلف مراحل الدراسة، قد يكون الحوار على قضايا أجتماعية، التدخين مثلا أو شرب الخمرأو الذهاب الى القمر، المهم في هذا أن المدرس يلتزم موقف الحياد بين من مع ومن هو ضد الرأي، وبهذه الطريق يتعلم الطلاب بناة المستقبل الحوار طريق للحياة.
لآ ادعو الى أستنتاخ تجربة الغير ولكن علينا أن نستنبط طرقنا وفق ظروفنا الحياتية والأجتماعية لنشر ثقافة الحوار في المجتمع فنحن بكثير الحاجة لها.
العنف الذي يصاحب العصبية، هو ألأكثر خطورة في مجتمعنا لذلك يجب العمل بشكل جاد وعلمي لدراسة مختلف مسبباته، هل هي أقتصادية، عصبية فئوية، أرهابية، اجنبية... ألخ كذلك يجب دراسة عن طرق عملية لتنمية ألأساليب السلمية، أسلوب في الحياة والتعامل.
بعد هذا كله لا بد من التأكيد أن البعض يعتقد أن التعصب والعنف طريق للوصول ألى السلطة، لنسد هذا الطريق عبر العملية الديمقراطية في الأنتخابات، لنرفض العزل السياسي لمن لم يركب جريمة بحق المواطنين، لنخرج من غوغائية البعض، القائمة على التشهير والتخويف، وفي الوقت ذاته يجب أن نفضح وبصوت عال من ينشر ثقافة التعصب والعنف والقتل.
على مثقفي العراق دورا هاما لم يتصدوا له مع الأسف لحد اليوم،ولكن لم يضع الوقت ويمكن أن يتحمل كل واحد قسط من المسؤولية ليوصل فكرة الحوار وثقافتها وأبعادها ونتائجها وأدواتها لأعلى المستويات من قيادات العملية السياسية في العراق لأبسط أنسان، على مثقفي العراق أن يبحثوا عن طرق المساهمة الفعالة في حياة الوطن، وللعراق حق على الجميع.

الدكتور فاروق رضاعة
19/9/2009
قدمت هذه الورقة الى ندوة أقامتها وزارة الدولة العراقية لشؤون الحوار الوطني