في حمأة التطورات الدراماتيكية في غزّة التي ستحدّد مصيرها المعادلة التي سترسو عليها المنطقة، يصارع لبنان من الداخل والخارج على ما سيحدد مصيره أكثر من أي وقت.
كثيرة هي العناوين التي يتوقّف مصير البلد عليها، بالعلاقة مع مستقبل الحرب الإسرائيلية على غزّة، أو في شأن أزماته البنيوية المتراكمة، من إنهياره الاقتصادي المتشعّب الأسباب، إلى اهتراء الدولة والمؤسسات وإفراغ مؤسساته الدستورية من مضمونها. إلّا أنّ الأزمتين الأكثر تهديداً لمصيره هما الحرب الدائرة في الجنوب التي قد يؤدّي توسّعها نحو حرب شاملة إلى دماره، وأزمة النازحين السوريين التي هي الأخرى قد تغيّر هويته. فهاتان المعضلتان تجعلان من معالجة أزمته الاقتصادية ومن اهتراء مؤسساته وتفريغها من أدوارها، والتي يعمّقها استمرار الشغور الرئاسي، مستعصية على الحلّ حتى لو انتخب رئيس جديد للجمهورية. ومع ذلك فإن العقوبة الأكبر التي قد يتعرّض لها لبنان واللبنانيون هي، كما قال وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه في ختام زيارته إلى لبنان قبل عشرة أيام، عدم دعوته إلى المؤتمرات وطاولات التفاوض التي ستنعقد بعد انتهاء حرب غزّة من أجل صوغ التسويات الإقليمية التي يجري التحضير لها. وهذه التسويات تشمل إعادة الإعمار والنهوض بالاقتصادات المنهارة في المنطقة، بدءاً من غزة التي ستكون لها الأولوية.
من دون وقف النزف والدمار جنوباً، ومن دون إقفال باب الحرب من بوابة المشاغلة والمساندة، فإن درجة استنزاف لبنان لا تقارن بما تتعرّض له إسرائيل من خسائر ثبت أن أميركا ستعوّضها لها مهما كانت قيمتها، فيما سيبقى لبنان متسوّلاً يحصل بالقطارة على ما يسدّ الرمق لا أكثر. لا ينفع هنا الإستخفاف بالمبادرات الخارجية الهادفة إلى وقف الحرب في الجنوب، سواء كانت فرنسية كما يفعل «حزب الله»، أو أميركية حيث يراهن البعض على صفقة مع واشنطن وفق التوقيت الإيراني الذي في ملفات تفاوضه مع أميركا والغرب دول أكثر أهمية له من لبنان. فالتنطح إلى إقحام رأس لبنان بين الرؤوس الكبرى، تارةً بالحديث عن تنافس أو خلاف فرنسي أميركي، وأخرى بالركون إلى حسابات تتعلق بالإستحقاقات الإنتخابية الأميركية لتحصيل مكاسب لن يحصد سوى الخيبة، في وقت تقوم الدول الكبرى بتوزيع الأدوار بينها وكذلك المكاسب في لعبة تقاسم النفوذ في المنطقة، نظراً إلى ما بينها من تقاطع مصالح على امتداد العالم. وقد يكون مفهوماً مثلاً أن يبدي «الحزب» ملاحظات على الورقة الفرنسية، لكن بعضها لا يهدف سوى إلى التأجيل وإدخال البلد في لعبة الوقت. والنتيجة هي إهدار الوقت بالترويج بأنها عديمة الفائدة.
ومن دون إقفال الحدود على استمرار النزوح السوري غير الشرعي وغير المنظّم والمجهول العدد مع كل انعكاساته الإجتماعية والسياسية، يستحيل تجنّب تحوّل لبنان إلى دولة فاشلة تعتاش على المساعدات الإنسانية لا الاقتصادية.
آثار الفوضى في النزوح السوري على المدى المتوسط هي ديموغرافية في الدرجة الأولى استخف بها العديد من القوى السياسية التي تستفيق بين الفينة والأخرى على الملف ثم تعود إلى السبات بحجّة أن العقبة أمام حلّ المشكلة دولية والحلّ يأتي من الدول الكبرى. ومن كثرة ربط القيادات الفاعلة أزمة الحرب في الجنوب والشغور الرئاسي والإنهيار الاقتصادي بالدول الكبرى، باتت الحلول لأي مشكلة تُرمى على هذه الدول. والأخيرة كما ثبت للطبقة السياسية المحلية بنتيجة زيارة الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين، لا تلتفت الا إلى مصالحها.
همّ أوروبا منع الهجرة إلى دولها. وإذا كان مفهوماً التحذير من أن تكون هبة المليار دولار التي أُعلن عنها «رشوة» لإبقاء النازحين، فإن المغالاة في رفع الصوت ضدّ حصول لبنان عليها يخفي نوعاً من العجز الرسمي والسياسي الداخلي. فالسلطة والطبقة السياسية أقحمتا هذا الملف في الخلافات الداخلية وتقاذفتا المسؤولية عنه. الهبة الأوروبية قد يستفاد منها من زاوية وقعها الاقتصادي المالي، بأن تحويل المال إلى لبنان، وإلى الدولة بالذات، ممكن مع إخضاع إنفاقها للرقابة تفادياً للنفعية والفساد المستشري.
بصرف النظر عن الهبة، فإن قيام السلطة والقوى السياسية بما عليها بدءاً بإحصاء النازحين وفرزهم بين الشرعي، وغير الشرعي الذي يجب ترحيله، هو المهمة البديهية التي أُهملت طوال عقد من الزمن. وأمام لبنان محطّتان مهمّتان لتحديد «المناطق» الآمنة التي يمكن إعادة غير الشرعيين إليها، القمة العربية في البحرين في 16 أيار الجاري، ثم «مؤتمر مستقبل سوريا» في بروكسل في 28 منه. والجديد في هذا المجال أنه لم يعد هناك من تحفّظ على التواصل الحكومي مع دمشق لأجل معالجة هذا الملف، حتى من قبل قوى تخاصم النظام فيها.
- آخر تحديث :
التعليقات