ليس هنالك أدنى شك لدى الباحثين في مجال علم الاجتماع السياسي، في العلاقة الوثيقة بين التمدّن والخيار الديمقراطي، حيث كلّما إزدهرت المدنّية في المجتمعات، إزداد تمسك الأفراد بحقوقهم في إختيار السلطة العمومية وزادت مطالبتهم ومشاركتهم في صنع القرار المتعلق بمصيرهم المشترك. وبالعكس كلمّا إنحسرت قيم الحداثة والعقلانية وتفككت البنى والمؤسسات الإجتماعية والسياسية، وساد الفوضى في أنماط العمل والإنتاج والتفكير والسلوك نتيجة إنحلال منظومة القيم الإجتماعية الضابطة والحامية والموّجهة للأفراد والجماعات معا، تنتكس مسيرة التحولات الديمقراطية إن وُجدت، أو تكون تلك الظواهر تعبيرا حقيقيا عن غيابها الذي سيؤدي لا محالة، إلى عرقلة التحوّل الإجتماعي ووقف التغيير المنشود وحبس التقدّم ومن ثم الشروع في التدهور السياسي والإنهيار.
حينها، لن يكون تعميم وإستفحال ظواهر الفساد المالي والإداري والسياسي والإستهتار بالمصالح العامّة وتفرّغ العديد من النخب السياسية إلى الإثراء الفاحش على حساب المعاناة اليومية للجمهور العام، هي القاعدة التي لا إستثناء لها على الإطلاق.
ومن الملفت للنظر، أن معيار التمدّن في العراق للفترة الواقعة ما بين 1960 إلى 1985، كان الأعلى بين الدول العربية دون أن يعني الأمر، أن تلك المرحلة التاريخية الحديثة، كانت تمتاز بالتحوّلات الديمقراطية وتشكّل تناقضا صارخا مع المعطيات النظرية أعلاه، بل تعني توّفر الأرضية والقاعدة الإجتماعية الضرورية والممهدة التي كان ممكنا أن تفضي لتلك التحوّلات المطلوبة، إن أُحسنت إدارتها سياسيا.
فكما يمكن للنخبة السياسية أن ترتبط بشعبها وتتحسس مشكلاته وقضاياه وتشاركه آلامه وآماله وتهجر العقائد الجامدة والمسبقات الفكرية والسياسية التي تمنع وتحجب عن رؤية الواقع الإجتماعي المعاش، وتدمّر أسس الإحتكار والاستبداد، وتحوّل الشعار الديمقراطي إلى دليل عمل وممارسة سياسية يومية، وإلى منطلق للتفكير والفكر السياسي الجديد، وبالتالي تعمل فكريا وسياسيا على التعاون الجماعي في قيادة المرحلة والإيفاء بإلتزاماتها الكثيرة والمتنوعة على الوجه الأمثل، يمكن أيضا للنخبة السياسية أن تحوّل الديمقراطية من قيمة عليا، إلى مجرد آليات شكلية وشعارات دعائية وتعبوية فارغة من أية قيمة ومعنى، وتصبح القيادات مقطوعة الصلة بشعبها ومعادية له عداءا عميقا ومتهرّبة تماما من مسؤولياتها أمامه، وهو ما كان سائدا في عقود الديكتاتورية البغيضة في العراق.
ومما ساهم في إنهيار أسس المدنّية في العراق جنبا إلى جنب السياسات الهوجاء لنظام الطاغية العراقي، هي الهجرات المليونية للفئات الإجتماعية الوسطى منذ نهاية عقد التسعينات وخلال الحرب العراقية الإيرانية وكذلك بعد عام 2003 نتيجة تدهور الحالة الأمنية، بالإضافة إلى سوء الإدارة والتخطيط والتوزيع وعدم التوازن بين المركز والأطراف والحملة الإيمانية المزعومة، وما صاحب فترة الحصار الإقتصادي من تدهور وإنحطاط وتفكك في القيم المدّنية على كل الأصعدة والمستويات، أدّت نتائجها إلى الترييف المتزايد للمدينة وزحف المناطق النائية عليها وسيادة العقليات المحافظة بقوة، والعودة شيئا فشيئا إلى مجتمع العشيرة الذي بات متماهيا مع دولة العشيرة الصدّامية كما أُريد له أن يكون.
لم يكن للمظاهر المدّنية على هشاشتها أن تتوارى كليا، ويتبدد تراكمها التاريخي بتلك السهولة والسرعة، لو أنها تحوّلت من مجرد مظاهر إلى مؤسسات مستقلة وثابتة تحميها القوانين وتحافظ عليها وتدافع عنها، وهو ما يفسّر أن الكثير من المجتمعات ظلّت محافظة على مدنيتها رغم إنهيار دولها خلال التاريخ الحديث. فالقيّم الحضارية والتقاليد والأعراف المدنية التي تتوارثها وتتناقلها الشعوب، لا علاقة لها من قريب ولا من بعيد بالجيوش والدبابات والقصور الرئاسية.
التعليقات