تدمير رمز وأيقونة الرأسمالية في عالم القرن الواحد العشرين quot;مركز التجارة العالميquot; في مدينة نيويورك، وما صاحبه من هجوم على (الحصن العتيد) البنتاغون-مبنى وزارة الدفاع- لأعتى بلد في وقتنا الرّاهن، الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في تاريخ الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001 شد انتباه المفكرين فضلاً عن جذب أرباب الصحافة والإعلام العالمي إلى الكتابة عن ظاهرة الأصوليّة الدينية.

في البحث عن الأسباب الدافعة للعنف، توجهت أفكار القلة إلى التأكيد على وجود حالة قلق وتذمر سائدة بين معتنقي منهج الأصولية الدينية منبعه تفشي نمط حياة المدنيـّة المتساهل بالمعتقدات والممارسات الدينية. فيعزو، على سبيل المثال، السيد quot;بيتر هريوتquot; (استشاري ومفكر بريطاني) دوافع العنف الأصولي إلى إهمال مجتمعات المدن الراهنة التاركة للأصولية أن تستنتج بمفردها بأن دينها وقيمها مستهدفان من قبل العلمانيين. فعنف الأصولية عند السيد هريوت نابع من كونه ليس quot;فعلquot; بل quot;ردّة فعلquot; على ما يتعرض له الأصوليون من هجمات علمانيّة في فضاء المدن الحديثة.

عند البحث عن أجوبه تبرر دوافع انخراط فردٌ ما... في الحركة الأصولية، وعن أسباب اعتناق معتقدات وقيم حادة التوجه، وعن أسباب التطبع بطباع مناوئة للعادات السائدة في مجتمعات quot;الحداثةquot;، سنكون غير قادرين على الإبداع في أجوبتنا بنسبة تتناسب مع حجم انجرافنا خلف أدبيات quot;الحرب على الإرهابquot; البوشّ-تشينيّة. فروتينيـّة التفكير التي تفرضها أدبيات quot;الحرب على الإرهابquot; تفرض علي أذهاننا التوظيف السياسي للظاهرة الأصوليّة الدينية. مثل هذا التوجه يحجب عن أعيننا إدراك ظاهرة الأصوليّة الدينية من البعد الأنثروبولوجي الاجتماعي ويعيق عقولنا وتفكيرنا عن فهم مبررات السلوك الفردي لأتباعها.

والمنشغل في نوعية هذه البحوث يلاحظ التعقيدات المقيدة جرّاء عدم (اكتمال) فتح ثغرات معرفية في أذهان مهندسي quot;الحرب على الإرهابquot; سواء في أفغانستان، العراق، اليمن أو غزة بحيث تتمكن معاني أخرى وبديلة قادرة على تجديد نظراتنا حول ظاهرة الأصولية الدينية الراهنة من التبلور.


أطروحات المستشار السيد quot; بيتر هريوت quot; تساهم في تفكيك أبنيـّة الأصولية الدينية. الجديد فيها أنها تفكك البناء الأصولي من خلال محور العلاقات الاجتماعية مابين أفراد الجماعات الأصولية، ومن خلال محور سلوكيات أفراد هذه الجماعات النشطة ( راجع كتابه quot;الأصوليّة الدينيّة والهويّة الإجتماعيّةquot;، دار روتليدج البريطانية-2007).


فمعاني الانتماء إلى جماعة أصوليّة تتكشف من خلال دراسة العقلية المُصَنـِّفةَِ للبشر في إطار ثنائية quot;جماعتناquot; مقابل quot;جماعتهمquot;، والإنسان الأصولي يتعرف على شقي الذات (الذات الجـَمَعيـّة والذات الفردية) من خلال التَفاعل الاجتماعي مع أفراد من أشباهه وأمثاله. من خلال هذا الاحتكاك يتعلم محاكاة quot;أمثالهquot; ورويدا رويدا يعيد الفرد إنتاج فـَرْدِيـّـتِه بحيث تتماثل مع أفراد الجماعة، ومع تكاثر المثلاء من أصوليين تبدأ الجماعة بالتـّكون وبمساعدة الوسائط الإعلامية من رسائل الجوالات النصية، للشبكات العنكبوتيه، والأقراص الممغنطة، والقنوات الفضائية، حيث يتعلم المرءُ تخيل الانتماء إلى quot;جماعتناquot; ما يساعده على تأكيد علاقاته مع الآخر البيني\الداخلي، الرفيق\الصاحب الأخ\الصديق والمكوِّن في أخوّته عالمه الأصولي المميز لـ quot;جماعتناquot;.


يبدأ الأصولي وهو يشكل هويته مع quot;جماعتناquot; بالتعرف على الاتجاهات الاجتماعية الأخرى ويتقن تشخيص السِّمات الدالة على من لا ينتمون إلى quot;جماعتناquot;. ثم يبدأ إطلاق مسميات تميز الآخر مثل أن يسمهم quot;جماعاتهمquot;.


هناك أكثر من آلية يطوعها الأصولي لتنميط هويّة الآخر وأكثرها يبدأ من خلال ملاحظات سلوكيات الآخر. كما يوظف الأصولي الظروف الاجتماعية والسياسية التي تعينه لتوصيف بعض الجماعات الأخرى بالمتعاطف، المعتدل، الخصم أو العدو.

قد يجر الانتماء إلى quot;جماعتناquot; اكتساب سلوكيات الانعزال.حيث تجلب العزلة حالة من الترقب والقلق عن ما يمكن أن يحدثه الآخر ممن ينتمون إلى quot;جماعتهمquot; من تصادم وشيك وضرر بأفراد quot;جماعتناquot;. يحتاج الأصولي إلى قوة سيكولوجية تمده بمعاني الصمود. فالأصولية الناجحة هي الأصولية القادرة على رفع المعنويات النفسية من خلال خطاب الثوابت، القيم والمعتقدات. الثقة بالنفس يتطلب وفرة البراهين القوليـّة والمنطقية المبررة للإنسان الأصولي لما يقدم عليه من تصرفات وأقوال قد لا يتقبلها أفراد من quot;جماعتهمquot;. تمكننا من معرفة كيف تتمكن هذه المؤكدات من المحافظة على معنويات الأصوليين مرتفعة مهمة لاكتشاف الأصولي. علينا أن نعرف أن على هذه البراهين توفير الثقة بالنفس كل يوم وكل ليلة، لكي يبقى قادراً على أن يتعاملَ مع المتغيرات وخصوصا تلك التي تصنَّف بأنها موجهة ضده.


هناك فائدة من زج النظريات الشارحة لظاهرة الأصوليّة الدينية في ثنايا الأنثروبولوجيا وإعادة قراءتها من خلال نظريات علم النفس الاجتماعي (المنشغلة بدراسة الأسس الاجتماعية وطبيعة العلاقات الشخصية المتبادلة مع الآخرين Interpersonal واللازمة لمعرفة الذات(Self-knowledge حيث سيزداد تمكننا من تقليص النقص المعرفي اللازم لفهم الأصوليّة.


فجني الثمار المعرفيّة يسهل عند تحويل انتباهنا من فهم الأحداث الراهنة على أنها quot;حرب الأصوليين عليناquot; أو ما يقابلها من شعارquot;حربنا على الإرهابquot; إلى شيء آخر غير ذلك. وبنقل الأصوليّة من خانة العدو الذي يجب أن يهزم...! إلى خانة طرف من أطراف نزاع ما يجب التوصل إلى حل معه، ومع هذا النقل تتغير أشياء كثيرة في فكر التعامل مع الأصولي. فمن الحرب ولغة الجيوش ومن سياسة تفترض وجود غالب وآخر مغلوب...!

ننتقل إلى ثقافة فض النزاع وهي ثقافة تتطلب وجود وسطاء ووجود شركاء. وسطاء يمتلكون القدرة على تقريب الفرقاء. وإذا كان هناك أطراف متنازعة، فلا بد من أن تشارك في التفاوض، لابد من طرح حلول وتنازلات متبادلة، وشرح، وتبين وتقريب وجهات النظر. حتى يمكن أن نساهم في التحول من ثقافة حرب إلى ثقافة نزاعات وما يتطلبه من إلمام بالحوار والجلوس والتّحدّث والتّقابل، كما أن التحول من استراتجيات القتال إلى فن ومواهب إدارية في التعامل مع الآخر، كل ذلك يتطلب تغيرا في طريقة التفكير،وهذه الطريقة سيكتب لها التوفيق في الوصول إلى السلام إذا دعم منطقها السياسيون.

مدير مركز التنوع الثقافي للاستشارات الثقافية
المحرق ndash; البحرين

[email protected]