هاأناذا، وعلى كره مني، أصدع لإلحاح قرائي علي في أن أكتب عما أضافه ماوتسي تونغ إلى علوم الماركسية، أو الأدق إلى سبل العبور الإشتراكي إلى الشيوعية. أقول على كره مني وذلك لأنني لم أدرس عن كثب التجربة الصينية ؛ وللمفارقة فقد كان افتراقي عن الحزب الشيوعي بسبب اعتراضي على تحريفات خروشتشوف مترافقاً مع ظنون قوية خامرت قيادة الحزب بأنني صيني الهوى فكان أن تحداني قائد الحزب في العام 1965 بالقول.. quot; سنسحق ماوتسي تونغ بالنعال quot;. كانوا يظنون ذلك مع أنني لم أكن أعلم ماذا كان يقول ماوتسي تونغ في خلافه مع التحريفي والمرتد خروشتشوف إذ كنت قد أمضيت في السجن ست سنوات معزولاً عما يدور في العالم ؛ وفي الحقيقة لم يكن الشيوعيون يولون التجربة الصينية اهتماماً كبيراً وذلك لأن الإتحاد السوفياتي كان دون أدنى شك هو القائد الفعلي والشرعي للثورة الاشتراكية العالمية وبلا منازع حيث وضعه ستالين.
لم يدرس أحد ماركس كما درسه لينين بعبقرية فريدة مكنته من أن يفتح وحده جبهة عريضة لفضح كل انحرافات الكتلة الضخمة من أحزاب الإشتراكية الديموقراطية الأوروبية في الأممية الثانية بمن فيهم المنشفيك ومنهم كبار الماركسيين الروس، بليخانوف ومارتينوف وتروتسكي. ويمكننا القول اليوم أن البشرية ما كانت لتتعرف على ماركس الحقيقي من دون لينين حيث كانت الماركسية ستطمس تحت النفايات الفكرية لزعماء الأممية الثانية من أمثال كاوتسكي وبيرنشتاين وتحت مخلفات التحريفية والبورجوازية الهائلة الأخرى. بفيض من العبقرية قام لينين بدراسة ماركس وختم دراسته بأن دمغ الماركسية بدمغة quot; كلية الصحّة quot;. وللمرء أن يفسر الدمغة اللينينية quot; كليّة الصحّة quot; على أنها تعني فيما تعني كمال الماركسية دون أن تكون بحاجة إلى ما يكمّلها أو إلى من يكمّلها فيما عدا قضايا العبور الإشتراكي بالطبع التي كان ماركس قد رفض الخوض فيها باعتبارها قضايا ظرفية تخضع لشروط الزمان والمكان وقد أكد ذلك بالاشتراك مع رفيقه إنجلز في البيان الشيوعي في وقت مبكر في العام 1848. وعليه فعندما نقول quot; الماركسية اللينينية quot; فإنما نعني الماركسية كما قرأها لينين في عصره، ولذلك قال ستالين أن لينين هو ماركس عصر الإمبريالية ؛ أي أن ماركس لو امتد به العمر حتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين لقال ما قال لينين وكتب ما كتب لينين.
الجديد في عصر لينين، وهو ما انعكس في القراءة اللينينية للماركسية، هو استعار التناقض بين مراكز الرأسمالية من جهة ومحيطاتها من جهة أخرى في المرحلة العليا من الرأسمالية وهي الإمبريالية ؛ وكذلك التناقض بين مراكز الرأسمالية نفسها. وقد شرح ذلك الرفيق ستالين في كتابه القيم quot; أسس اللينينية quot;. لعب التناقض الأول في قيام ثورة التحرر الوطني في العالم الجنوبي والتي لعبت دوراً حاسماً في تفكيك النظام الرأسمالي العالمي، فما إن أعلنت لجنة تصفية الاستعمار في الأمم المتحدة انتهاء الاستعمار في العالم كله عام 1972 حتى تفككت الرأسمالية في العام 1975 ؛ كما لعب التناقض الثاني دوراً هاماً في توالي الحروب الاستعمارية بهدف إعادة تقسيم المستعمرات وانتهاء بتصفية أكبر امبرطوريتين استعماريتين في العالم، بريطانيا وفرنسا، على يد ألمانيا النازية في بداية الحرب العالمية الثانية 1939 ـ 1945. ومن القراءات اللينينية المستجدة كانت الثورة في الحلقة الضعيفة، روسيا، من سلسلة مراكز الإمبريالية علماً بأن كارل ماركس نفسه كان قد تنبأ في مقدمته لترجمة البيان الشيوعي للغة الروسية في العام 1882 باحتمال انبثاق الثورة الإشتراكية بداية من روسيا. كما تطور المشروع اللينيني اعتماداً على التصنيع السريع وكهربة كامل روسيا وعلى الإنتقال من الزراعة الفردية إلى الزراعة التعاونية ومكننتها، وكل هذا كان من اشتراطات لينين لعبور الإشتراكية وقد أنجزها ستالين بتفوق مدهش.
الأمر الجوهري القاطع اليوم الذي يتوجب على الشيوعيين قبل غيرهم التوقف عنده طويلاً قبل أي انطلاقة مستجدة هو أن عالم اليوم هو عالم جديد لا علاقة له بعالم القرن العشرين: لا ثورة اشتراكية، ولا إمبريالية، ولا مراكز رأسمالية، لا ثورة تحرر وطني أو حركات استقلالية، ولا مشاريع وطنية تبني اقتصاداً مستقلاً. عالمنا اليوم عالم مسطح بليد لا حراك فيه. إنه عالم الطبقة الوسطى التي لا حرارة فيها كما هو حال الحشرة في البيات الشتوي. كل ما هو جديد في القراءة اللينينية لماركس لم يعد مجدياً بالطبع. انتهى التناقض بين مراكز الرأسمالية ومحيطاتها، كما انتهى بالطبع التناقض بين مراكز الرأسمالية التي لم تعد موجودة أصلاً ؛ ولم يعد العالم بحاجة إلى الوصفات اللينينية في الكهربة والتصنيع والفلاحة وغيرها. ووصل الأمر إلى أن يطالب نفر من شيوعيي البورجوازية الوضيعة بمحاكمة لينين بجريرة نظريته حول الحلقة الضعيفة بحجة أن لينين كان قد استولد الثورة بغير ميعادها فعمل بذلك على إجهاض الثورة المكتملة التي كانت ستولد ولادة طبيعية فيما بعد، دون أن تموت كما ماتت ثورة لينين، وهذا اتهام كان قد وجهه إليه في حينه زعماء الأممية الثانية مثل بليخانوف وكاوتسكي. بغض النظر عن شرعية اتهامهم هذا إذ يوجهونه إلى مؤسس المشروع وليس إلى أعداء المشروع الذين قاموا بتدميره على رؤوس أصحابه، كما أنه الإتهام الذي يقوم على افتراضات مشكوك في صحتها، وبغض النظر عن أن كل ما هو إيجابي في عالم اليوم إنما هو من تداعيات المشروع اللينيني وأن كل ما هو سلبي بما في ذلك انهيار مشروع لينين هو من إنتاج خونة الإشتراكية وليس أعداءها التقليديين، وبغض النظر أيضاً عن حقيقة انتفاضة أكتوبر حيث أنها لم تكن أصلاً ثورة اشتراكية (revolution) يستولدها لينين بغير ميعادها، بل كانت إنتفاضة (insurrection) لأجل استكمال أهداف الثورة البورجوازية في شباط 1917، وأن ما حوّلها إلى ثورة اشتراكية إنما هو البورجوازية بكل أطيافها وكبار ملاك الأراضي الذين رفعوا السلاح بوجه سلطة البلاشفة بمن فيهم من كانوا يسمون بالإشتراكيين الثوريين المشتركين في حكومة لينين، بغض النظر عن كل هذا فإن عالم اليوم، ومنه الشيوعيون، ليس بحاجة إلى كل مستجدات اللينينية في قراءة الماركسية. عالم اليوم بحاجة للماركسية بدون الإضافات اللينينية طالما أننا في عصر يختلف تماماً عن عصر لينين، بحاجة إلى الماركسية وفق ما نقلها لينين إلينا، لكن مجردة من كل الإضافات اللينينية وغير اللينينية.
لئن ترتب علينا أن نستغني عن لينين فالأحرى بنا أن نستغني عن ماوتسي تونغ وعن ستالين أيضاً. فلئن كان لينين ماركس عصره كما وصفه ستالين فهل كان كل من ستالين وماوتسي تونغ لينين عصره؟؟ مأثرة ستالين العظمى هي أنه قرأ لينين قراءة عبقرية وطبّق مستجداته واشتراطاته لعبور الاشتراكية في الحلقة الضعيفة، روسيا، تطبيقاً عبقرياً دون أن يفشل في أي منها بل حقق ما لم يكن لينين يتوقعه بمثل تلك السرعة وبالمثال النموذج. فلينين لم يتوقع أن ينتهي الحزب من الإستغناء عن الإقتصاد البورجوازي (النيب NEP) خلال أربع سنوات فقط فكان أن بدأ الحزب الإستغناء عن أهم مفاصل النيب في العام 1926. وكان لينين يتخوّف كثيراً من الإنتقال بالزراعة الفردية إلى الزراعة التعاونية وهو ما حققه الحزب بنجاح كبير خلال سنتين فقط 1929 ـ 1931. كما أن التقدم الصناعي خلال الخطتين الخماسيتين الأولى والثانية أثار دهشة العالم كله وهو ما مكن الإتحاد السوفياتي من سحق ألمانيا النازية. وتحقق ما لم يكن في حسبان لينين وهو الإنتصار التاريخي العظيم في الحرب العالمية الثانية ثم إعادة بناء ما هدمته الحرب وكان يتجاوز كل المقاييس. رحل ستالين في آذار 1953 دون أن يخسر معركة واحدة خلال كل العبور الإشتراكي بدءاً بالعام 1922 حين كانت الشعوب السوفياتية كما وصفها لينين quot; تبيت على الطوى quot; وحتى العام 1953 حين كان الإتحاد السوفياتي قد أضحى أقوى قوة في الأرض. لم يسجل التاريخ فشلاً واحداً على ستالين. ليس من شك في أن تغيّرات نوعية كبرى على الصعيدين الإجتماعي والجيوسياسي قد حدثت في العالم بفضل ثورة البلاشفة بقيادة لينين وستالين رغم أنها لم تكتمل حتى بتنا نراه اليوم على ما هو عليه. للعالم أن يشكر البلاشفة وخاصة لينين وستالين على صنيعهم وما تركوه لنا، لكن رؤاهم الخاصة بعصرهم، القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لم تعد تضيف إلى قوى التغيير الماركسية أية إضافات فاعلة ومؤثرة. على هذه القوى أن تبني على ما تركه البلاشفة لنا، لكن وبرؤى مختلفة، عليها أن تستحضر ماركس في القرن الحادي والعشرين دون أية إضافات أخرى.
لئن انتهى الأمر بنا إلى الإستغناء عن لينين وستالين فما الداعي لئلا نستغني عن ماوتسي تونغ أيضاً؟
برز ماوتسي تونغ بداية على رأس حزب شيوعي يناظر حزباً أكبر منه في الصين هو حزب الكومنتانغ ( الحزب القومي ) وعلى رأسه تشان كاي تشك. تأسس الحزب الشيوعي في العام 1924 استكمالاً للثورة الإشتراكية التي فجرها لينين في روسيا 1917، فيما كان حزب الكومنتانغ قد تشكل في العام 1912 بقيادة (صن يات سن) للنهوض بالثورة البورجوازية بمساعدة من الرأسمالية اليابانية كما توهم زعيمه صن. إلتقى الحزبان بداية في الجنوب ضد القوى الرجعية والإقطاعية غير أن الحزب الشيوعي بقيادة ماو عاد وانفصل وأخذ يمارس سلطات الدولة في منطقة محدودة في جنوب الصين في العام 1927 ؛ لكنه لم يستطع أن يحافظ على سلطاته هناك بوجه الكومنتانغ والقوى الرجعية فقامت الدولة بحزبها وبجيشها المكون من الفلاحين الفقراء، الذين لا يملكون، بمسيرة الألف ميل الشهيرة إلى الشمال، إلى محاذاة الحدود السوفياتية في العام 1934 حيث تلقت هناك دعم الحكومة السوفياتية. في صيف العام 1937 شنت اليابان حربها الاستعمارية على الصين فكان أن ائتلف الحزب الشيوعي والكومنتانغ في حربهما ضد الغزاة اليابانيين. خلال السنوات الثمانية التالية (1937 ـ 1945) حدث أن اختلف الحزبان لأكثر من مرة، ليس بسبب الخلافات الإيديولوجية فقط، بل أيضاً بسبب تجاوزات الكومنتانغ الإجرامية التي أدت إلى مقتل أعداد كبيرة من الشيوعيين. لدى انسحاب اليابان من الصين، نتيجة هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، حدثت مواجهة عامة بين الحزبين انتهت بانتصار الشيوعيين وطرد الكومنتانغ من البر الصيني إلى جزيرة يايوان وأعلن ماوتسي تونغ قيام جمهورية الصين الشعبية في الأول من أكتوبر 1949 كدولة اشتراكية.
من السهل ضمن شروط معينة أن ينتصر الشيوعيون في القتال ضد الفصائل المسلحة للطبقات الأخرى، حيث أن الجندي الشيوعي لا يقاتل سوى جندي مثله في فنون العسكرية لكنه متميز عليه في الثبات وفي الإيمان بقضيته. مشكلة الجندي الشيوعي الصعبة والمعقدة تبرز بعد أن يشلح البذلة العسكرية ويباشر الشغل في الإنتاج وهو ما يحدد من جديد انتماءه الطبقي. إذا ما اشتغل في الإنتاج البورجوازي الصغير فسيتحول إذاك ودون أن يعي إلى بورجوازي وضيع ويرتد بعدئذٍ على ما أنجزه في الحرب؟ لعل ماو تحسّب لهذا الأمر بصورة مبكرة فطالب الإتحاد السوفياتي بأن يساعده في خلق قاعدة صناعية لتكون الأساس للبنيان الإشتراكي، كما بادر من جهة أخرى لإقامة الكومونات الزراعية الهادفة إلى تجريد الإنتاج الزراعي من كل روح بورجوازية متقدماً بذلك على إنتاج التعاونيات السوفياتية (الكولخوزات). سياسة ماو الحصيفة في السنوات العشر الأولى لقيام جمهورية الصين (1949 ـ 1958) لم تصل إلى نتائج هامة وذات شأن بعد أن وصلت إلى الطريق المسدود بسبب أن الإتحاد السوفياتي بقيادة طغمة خروشتشوف بدأ بالانحراف في العام 1956 وترتب على ذلك توقف المساعدات السوفياتية للصين حيث أن الحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماو كان السبّاق في الوقوف بقوة بوجه المحرفين السوفييت، خروشتشوف وطغمته. أما من حيث الكومونات الزراعية فإن الزراعة لا تخلق اقتصاداً إشتراكياً متطوراً طالما أنها لا تلتحق بالصناعة ويتم تصنيعها. عندما وجد ماو في العام 1958 أن الصين تواجه على طريق العبور الإشتراكي سداً منيعاً وأزمة لا نفاذ منها، ما كان منه إلا أن قرر القيام بقفزة عظمى إلى الأمام (Great Leap Forward) 1958 ـ 1961 الأمر الذي اضطره على صعيد النظرية إلى معارضة ستالين في إحدى المسائل الجوهرية في الفلسفة الماركسية. كان ستالين أثناء مناقشة quot; القضايا الإقتصادية للإشتراكية في الإتحاد السوفياتي quot; (صدرت في كتاب 1952) قد أكد أن الشعب لا يستطيع خلق قوانين إقتصادية جديدة لكنه يستطيع تطوير القوانين المتواجدة لصالحه، قال ذلك ليرفض مطالبة أعضاء عديدين في اللجنة المركزي للحزب بإلغاء قانون القيمة البضاعية الرأسمالية من مجريات الإقتصاد الإشتراكي السوفياتي حيث مثل هذا القانون الموروث يلعب دوراً رئيسياً في تخطيط الإقتصاد الإشتراكي. عارض ماو هذا الرأي، وهو بمثابة قانون من قوانين التطور، وقرر القيام بقفزة عظمى إلى الأمام كيما يصنع الشعب قوانين اقتصادية جديدة كانت ما زالت غريبة على علاقات الإنتاج في المجتمع الصيني. ما زال يعلق في الذاكرة كيف بنت كل عائلة صينية من الفلاحين في طول البلاد وعرضها فرناً بدائياً لإنتاج الفولاذ لأجل بناء القاعدة الصناعية كما هدفت خطة القفزة العظمى إلى الأمام. انتهت خطة القفزة العظمى إلى الأمام إلى قفزة عظمى إلى الخلف وانعكست في تراجع حاد في الإنتاج الزراعي وانتشار الجوع في الصين كلها بالنتيجة.
لما تحقق ماو من أن قفزته إلى الأمام لم تصل إلا إلى فشل ذريع فقد رأى وبحق أن تطهير الحزب من عناصر البورجوازية الوضيعة الذين يشكلون خطر الردّة على الثورة الإشتراكية كما ارتد خروشتشوف أمراً جوهرياً. تبعاً لذلك وجه نداءً إلى الشبيبة الشيوعية في العام 1966 للقيام بحملة تطهير للحزب من العناصر البورجوازية الوضيعة الفاسدة والتي تختبئ وراء شعارات اشتراكية كاذبة. لعل ماو رأى أن العناصر المماثلة لخروشتشوف في حزبه ستحول دون تحقيق أهدافه المتجسدة في خلق قوانين إقتصادية جديدة والنجاح في بناء قاعدة صناعية تكون أساساً قوياً لبناء الإشتراكية. التطورات اللاحقة أثبتت بصورة قاطعة أن ماو كان على حق عندما أطلق على عضو المكتب السياسي (دنغ هساو بنغ) اسم خروشتشوف الصين ومثله رئيس الجمهورية ليو تشاو تشي. لم يتحسب ماو أن الشباب ليسوا أيضاً إلا أبناء نظام الإنتاج أو الأحرى فوضى الإنتاج السائدة في الصين آنذاك. كتائب الحرس الأحمر التي استجابت لنداء ماو وأخذت على عاتقها تطهير الحزب من عناصر البورجوازية الوضيعة هي نفسها وقعت أسيرة لأفكار البورجوازية الوضيعة متمثلة بإيديولوجيا الفوضويين (anarchism) وعاثت في الصين فوضى وجرائم لا يقبلهما عقل أو منطق حتى غدت الصين بحاجة إلى من يطهرها من عصابات الحرس الأحمر. مرة أخرى واجه ماوتسي تونغ فشل خطته في الثورة الثقافية واعترف بذلك في العام 1968. ليس من شك في أن مقاومة انحراف خروشتشوف كانت ربما ستنجح في الإتحاد السوفياتي لكن ليس في الصين التي كانت لم تصل بعد إلى بناء أي قاعدة صلبة للإشتراكية. حال حل عصابات الحرس الأحمر في العام 68 عاد كل من (دنغ هساو بنغ) و (ليو تشاو تشي) إلى القيادة، ويمكن القول أن هذين التحريفيين قد هزما ماو أخيراً وانتقلت كل السلطة إلى بنغ الذي خطط لبناء اقتصاد صيني لا ينتمي إلى الاقتصاد الاشتراكي، اقتصاد تصديري يلبي حاجات الأسواق خارج الصين لكن ليس احتياجات الشعب الصيني ؛ وأخذت القيادة الصينية تهدر الثروات القومية حتى النضوب وتتاجر بجهود العمال باستبدالها في الأسواق العالمية رخيصة رخص التراب. كان بنغ حقاً خروشتشوف الصين فقد باع الثورة الإشتراكية إلى الأمريكان مقابل عدة ترليونات من الدولارات وبنى نظاما شبه رأسمالي للإنتاج، وليس رأسمالياً، الأمر الذي لم يستطع خروشتشوف تحقيقه. لحق بالماوية هزائم متلاحقة منذ بداية وقوف ماو في وجه التحريفية السوفياتية في العام 1958 وحتى وفاة ماو في العام 1976 دون أن تحقق نصراً واحداً. وتم أخيرا بعد وفاة ماو أن قبضت عصابة دنغ على quot; عصابة الأربعة quot; في القيادة من أنصار ماو وبينهم زوجته وحوكموا وأدينوا بجريمة الخيانة العظمى. عصابة الأربعة هي آخر من مثل الماوية على طريق العبور الإشتراكي.
ما كان لنا أن ننتقد ماو والماوية لو أنه لم يطلع علينا في العام 1965 بنظرية جديدة تفتقر إلى أولى البدهيات الماركسية. قالت نظريته الجديدة بالعوالم الثلاثة، ليس العوالم التي عرفت في النصف الثاني من القرن العشرين: عالم الرأسمالية الأول، وعالم الإشتراكية الثاني، وعالم عدم الإنحياز الثالث ؛ عوالم ماو تشكلت من الدول الغنية التي تمتلك سلاحاً نووياً وهي أميركا وبريطانيا والإتحاد السوفياتي وهي العالم الأول، ثم الدول الأقل ثراء ولا تمتلك سلاحاً نووياً مثل اليابان وكندا واستراليا وهي العالم الثاني، وأخيراً الدول الفقيرة ولا تمتلك سلاحاً نووياً كالصين ودول عدم الانحياز وهي العالم الثالث. وبناء على هذه quot; النظرية quot;، التي قبلها منه فقط أنور خوجا في ألبانيا، فقد تم تصنيف الإتحاد السوفياتي كدولة إمبريالية!! من الغريب حقاً أن تصدر هكذا مزاعم عن أناس اعتبروا قبلئذٍ من ثقات الماركسية. المفهوم الأولي في الماركسية يقول أن نمط الإنتاج هو ما يحدد طبيعة البناءات الفوقية من سياسية وثقافية وقيم روحية وغير ذلك. لا يمكن بحال من الأحوال تصنيف الإتحاد السوفياتي آنذاك من ذات صنف الولايات المتحدة الأميركية فلكل من البلدين نمط خاص مختلف كل الإختلاف من الإنتاج. كانت أميركا تنتج البضاعة لتذهب إلى السوق وكان الإتحاد السوفياتي ما زال في الستينيات ينتج إنتاجاً اشتراكياً لا يذهب إلى السوق. في الواقع يعترينا بعض الخجل قبل أن نصف نظرية ماوتسي تونغ هذه بالخنفشارية. في الحقيقة ليس من العدل بشيء أن ننتقد أفشال ماو المتلاحقة في مواجهة التحريفية السوفياتية حيث أن ظروف الصين لم تكن لتؤهل ماو أو غير ماو مهما تكن قدراته لبعث الحياة من جديد في الثورة الإشتراكية العالمية وخاصة أن موسكو التي وقعت في قبضة المرتدين هي مركز الثورة الإشتراكية العالمية وليست بكين الطرفية التي ظلت بحاجة للمساعدات السوفياتية للتقدم على طريق عبور الإشتراكية. لم يكن ماو quot; العظيم quot; ليأتي بأكثر مما أتى، باستثناء إنزلاقه المؤسف حقاً في نظرية العوالم الثلاث، إذ كان قدره الفشل بعد أن تخلت موسكو عن دورها الثوري بعد رحيل ستالين.
نعود لنؤكد على خطأ قاتل اقترفه ماو إذ اعتقد أن جماهير الشغيلة قادرة على صناعة القوانين الاقتصادية المرغوب فيها مخالفا بذلك رأي ستالين الوارد في كتابه المشار إليه أعلاه. جميع المنظمات الماوية القائمة اليوم سواء في نيبال والهند أم في البيرو (الطريق المضيء) أم في كمبوديا (الخمير الحمر) سابقاً إنما تقيم شرعيتها على أساس نظرية ماو المثالية الخاطئة التي تقول بإمكان الجماهير خلق القوانين الإقتصادية المرغوب فيها. لا يمكن أن تقوم ثورة إشتراكية في بلد زراعي متخلف حتى وإن آمن معظم الشعب بأفضلية الإشتراكية. أصلاً الثورة الإشتراكية محكومة بشرط أساسي كشف عنه ماركس وهو التناقض الحاد بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الرأسمالية تحديداً، وهو ما يعني أن البروليتاريا تنتج ما يفيض كثيراً عن استهلاكها بسبب محدودية الأجور وفائض القيمة. فأين نيبال والبيرو وكمبوديا من هذا؟ توهم الخمير الحمر بأنهم يستطيعون بناء الإشتراكية في كمبوديا المتخلفة فكان أن اقترفوا جرائم فظيعة بحق الفلاحين المساكين. الخمير الحمر كانوا قد أخذوا بنظرية ماو حول إمكانية الجماهير في أن تخلق قوانين اقتصادية جديدة، ومثلهم ماويو نيبال الذين استلموا السلطة مؤخراً. التيار الماوي القائم اليوم يشد البشرية إلى طريق الضلالة التي لا تصل إلى نظام اجتماعي مستقر. وهم لذلك يشكلون أحد الموانع الهامة التي تحول دون أن تأخذ الحركة الشيوعية مسارها الصحيح، وبالتالي فهم يساعدون القوى الرجعية من حيث لا يدرون. إننا نهيب بالأخوة الماويين أن يدرسوا كارل ماركس من جديد. لقد ناضل رفيقنا الرائد ماوتسي تونغ ضد التحريفية لكنه لم ينجح وما كان له أن ينجح فلذلك يترتب على الرفاق الماويين أن يستأنفوا نضال ماو ضد التحريفية لا أن ينحرفوا لمواجهة التحريفية. التحريفية لا تواجه التحريفية ؛ الماركسية وحدها هي القادرة على مواجهة شتى أنواع التحريف.
فؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01
التعليقات