الماركسية هي بكلمة الديالكتيك، أو علم الحركة في الطبيعة، ونقول علماً لأن الديالكتيك يتحقق عبر ثلاثة قوانين فيزيائية هي أولاً، وحدة النقيضين، وثانياً، دوام تراكم التغيرات الكمية حتى تتحول إلى تغيّر نوعي،وثالثاً، نفي النفي أي كل تغير نوعي سينفيه تغير نوعي يتلوه. واتساقاً مع هذه القوانين الفيزيائية الثلاث فإن الحركة في الطبيعة في جانبيها المادي والروحي لا تتوقف ولا نهاية لها كي يتعرّف الإنسان على تلك النهاية ويلمّ بأي من تضاريسها النهائية في التاريخ. فالقول مثلاً أن ماركس كان قد وضع نظريته من أجل الوصول إلى الشيوعية أو من أجل الحرية والمساواة والعدالة الإجتماعية، كما يتقوّل أنصاف الماركسيين، هو قول ينم عن جهل مطبق في ألفباء الماركسية وفي الديالكتيك أصلاً وهو القاعدة الأساسية والكليّة للماركسية، فالعلم ليس غائياً على الإطلاق وهي كذلك الحركة في الطبيعة. من هنا تحديداً كان ماركس قد أكّد أنه لا يعرف عن الشيوعية ولو خصيصة واحدة. فكيف لرجل كرّس كل حياته ليضع نظرية للانتقال إلى مجتمع لا يعرف عنه شيئاً؟! بالطبع ماركس ليس أحمق أو مجنوناً ليفعل ذلك!!
قيل أن الإنسان حيوان ناطق ؛ والنطق يتم فقط للتعبير عن فكرة ما ؛ والفكرة تنطلق أساساً من غريزة بقاء النوع في الحيوان المتأنسن ؛ وكان قدر الحيوان الشبيه بالإنسان أن يحافظ على نوعه عبر الإنتاج فقط واستخدام أدوات غريبة على جسمه، وبذلك ارتبط مصير الإنسان بأدوات الإنتاج. من هنا عرّف كارل ماركس الإنسان بأنه الحيوان الذي يستخدم الأداة، أو الحيوان الذي ينتج، ينتج حياته. الشغل الشاغل للإنسان على مر الأزمنة والعصور والحضارات هو الإنتاج وتعظيم الإنتاج عن طريق تطوير أدوات الإنتاج وهو ما يتم عبره فقط ليس تأمين بقاء النوع وحسب بل أيضاً محاولة الإنسان الدؤوبة للسيطرة على الطبيعة بمختلف تجليّاتها. لذلك قال جيورجي بليخانوف، وهو أبو الماركسية في روسيا، أن كل الأفكار والقيم في المجتمع، أي مجتمع، هي من بنات أدوات الإنتاج، أي أن كل جيل من أدوات الإنتاج يخلق قيمه وأفكاره الخاصة به. وكان كارل ماركس قد أكد هذه الحقيقة فقال بالعلاقة الديالكتيكية بين البناء التحتي الذي هو وسائل الإنتاج وأدوات الإنتاج والبناء الفوقي وهو البناء الروحي، أو الثقافة العامة بما فيها من أفكار وقيم وفنون مختلفة.
العلاقة الديالكتيكية بين الإنسان من جهة وأدوات الإنتاج من جهة أخرى لا تنقطع للحظة طالما أنها الحياة نفسها، حياة الإنسان. وتنعكس هذه العلاقة بالضرورة في تغيّرات كمية متراكمة في طرفيها، في الإنسان، في اتساع وعيه، وفي أدوات الإنتاج، في تحسين فعاليتها. بوصول هذه التراكمات في طرفي العلاقة إلى النقطة الحرجة تحدث الثورة ويعبر المجتمع إلى نظام إجتماعي جديد مختلف تماماً عن النظام الذي سبقه بكل عناصره المادية والروحية. بمثل هذا السيناريو عبرت البشرية من النظام الإقطاعي الزراعي إلى النظام الرأسمالي الصناعي.
الأنساق الفكرية المتطايفة التي دفعت إلى الثورة وأتت بأدوات إنتاج ووسيلة إنتاج مختلفة، تبدأ مباشرة بعد الثورة بالخضوع إلى تغيرات كمية دون انقطاع باتجاه النضوج ثم الشيخوخة. مختلف الأفكار التي يجري عليها التقادم تنزاح تدريجياً وببطء شديد نحو إطار الأدلجة. مع انقضاء كل عمر النظام الإجتماعي تشيخ وتموت كل الأفكار المرافقة التي أتت به، ولا يبقى منها سوى صورة متكاملة الألوان والخطوط داخل إطار ثابت على مر الزمن معلقة في ركن الإيديولوجيا من متحف التاريخ. وبذلك تكون الإيديولوجيا هي الأنساق الفكرية التي عبّرت عن نظام إجتماعي كان قد شاخ ومات ويستحيل بالطبع بعثه من جديد، إذ تجاوزه الزمن وغدا الإنسان العصري مختلفاً تماماً عن إنسان العصور الغابرة. الإيديولوجيا إنما هي الفكر الميّت.
أي استعراض لمختلف الإيديولوجيات المعروفة يؤكد بصورة قاطعة تعريفنا للإيديولوجيا وتمييزها عن الماركسية التي ينحو أعداؤها وأعداء الإشتراكية إلى تصنيفها كإيديولوجيا، رغم قلبها النابض أبداً، لغرض في نفس يعقوب. إيديولوجيا الأسلمة (الإسلام هو الحل)، ومثلها إيديولوجيا المسيحيين الفالانج (الله، الوطن، العائلة) إنما هما تعبير عن النظام البطريركي الذي ساد زمن الفرس والرومان والعرب انتهاء بالسلطنة العثمانية. الإيديولوجيا القومية كانت قد عبّرت عن طموحات البورجوازية المحلية في تحريم مجالها الحيوي الرأسمالي على غيرها. الليبرالية واقتصاد السوق أفكار تعبّر عن النظام الرأسمالي في شرخ الصبا. أما النازية والفاشية فيعبران عن مرحلة الرأسمالية الإمبريالية المتغولة. وهكذا تتجلى العلاقة الوثيقة بين أدوات الإنتاج ومستوى تطورها وأنساق الأفكار التي تلدها هذه الأدوات أثناء مراحل تطورها المتعاقبة.
ليس ثمة من يناقش في أن الماركسية هي من بنات أدوات الإنتاج الرأسمالية لكن هذه الإبنة غير البارّة سرعان ما تنبأت بقبر أمها بل وجدّت في بلوغ ذلك. تتحوصل الماركسية في القوة التي تدفع دائماً بكل طاقتها إلى التغيير والتقدم. إنها تتقدم الزمن دائماً بخطوة واحدة ؛ ولذلك فهي لا تشيخ عكس حال الإيديولوجيا التي تعدت الشيخوخة نحو الموت ويزداد تقادمها مع مرور الزمن. إننا لا نخطئ إذا ما قلنا أن الماركسية هي دائماً الخطوة التالية للتاريخ، في حين أن الإيديولوجيا هي الخطوة التي كان التاريخ قد خطاها منذ زمن. الماركسية لا تعْبر أبداً إلى المتحف بينما الإيديولوجيا كانت قد دخلت المتحف وعلاها الغبار.
جرى الحديث مؤخراً عن سقوط الإيديولوجيات، وهؤلاء الذين تحدثوا مثل هذا الحديث الغبي عنوا تحديداً ما وصفوه ب quot; سقوط quot; الماركسية. ووصلوا إلى قمة الغباء حين قرروا سقوط الماركسية لصالح الليبرالية !! تجرؤوا على تبني مثل هذه الأفكار الغبية بعد تفكك الإتحاد السوفياتي. نقول لهؤلاء الأغبياء أن الماركسية هي الخطوة الصحيحة التالية للتاريخ وللتطور الإجتماعي. لئن سقط مشروع لينين فلعل لينين في هذه الحالة لم يكن ماركسياً حقيقياً ولذلك فشل في اكتشاف الخطوة الصحيحة التالية للمجتمع الروسي لدى نهاية الحرب الأهليه وحروب التدخل عام 1921، وفي قراره بانتهاج طريق الإشتراكية. ولعلنا أيضاً لسنا بماركسيين حين انتصرنا بقوة للمشروع اللينيني. لعل لينين واللينينيين وراءه كانوا الأغبياء وفي هذه الحالة يتأكد غباء الذين قالوا بسقوط الإيديولوجيا نتيجة لسقوط مشروع لينين حيث تكون اللينينية قد نسبت خطأً لماركس. أما في حالة أن تكون اللينينية هي الخطوة الصحيحة للتاريخ في العام 1921 في روسيا فعندئذٍ لن يكون المشروع اللينيني هو الذي سقط، بعد أن خاض أصعب التجارب بنجاح منقطع النظير ما بين 1921 و 1954، إنما هو مشروع خروشتشوف المعادي للينينية حيث سقط في كل منعرجاته سقوطاً مدويّاً. وفي هذه الحالة أيضاً يتأكد غباء أعداء الماركسية القائلين بسقوطها.
لم يدرِ ِهؤلاء عمّا يتحدثون فقالوا بسقوط الماركسية باعتبارها إيديولوجيا لصالح الليبرالية باعتبارها المنهج البراغماتي الذي أسس لاقتصاد السوق الرأسمالي. لقد ضلّوا في ذلك ضلالاً مبينا وقلبوا الحقائق على خلاف ما تكون. الثورة الفرنسية 1789 هي التي أسست لليبرالية السياسية والإقتصادية عبر شعارها المشهور (دعه يعمل، دعه يمر ـ laisser passer،laisser faire) لكن هذه الليبرالية لم تعمر لقرن. لقد تلاشت ودخلت متحف التاريخ خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعد أن ارتقت الرأسمالية إلى مرحلتها العليا، الإمبريالية، دخلت متحف التاريخ وباتت إيديولوجيا قديمة ومهجورة (obsolete). بعضهم يجهد اليوم في بعث الليبرالية من جديد ونجاحهم في ذلك لن يكون أكثر من نجاح المتأسلمين في إعادة ما يسمى بالعالم الإسلامي إلى عصر الخلافة. الليبرالية السياسية تترافق مع السوق الحرة وما يسمى باقتصاد السوق، لكن سوق اليوم لم تعد حرّة واقتصاد السوق أصبح أثراً بعد عين. القوى المسيطرة في عالم اليوم تؤكد أن إقتصادها العامل حالياً إنما هو quot; إقتصاد المعرفة quot;، لكن أحداً من علماء الإقتصاد لم يشرح لنا حتى اليوم كيف تدخل المعرفة إلى السوق. كي نسلّم بأن الليبرالية الجديدة تحظى بفرصة إلى التحقق يترتب على أحد الليبراليين قبلئذٍ أن يدلّنا عن كيف تدخل المعرفة السوق، وأي صنم سيكون لها فيها؟ وما مهابة ذلك الصنم؟ هذا تحدٍّ كبير أمام الليبراليين الجدد من فرانسيس فوكوياما وصموئيل هنتنغتون إلى أكبر ليبرالي عربي.
لو أن اقتصاد العالم العامل اليوم يقوم على أساس السوق الحرة، كما يزعم الليبراليون الجدد، لما اختنق بالأزمة الماثلة حالياً والتي كنا قد تنبأنا بحدوثها في مثل هذا الوقت قبل خمسة عشر عاماً. لو أن السوق حرة لما استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية أن تبيع إلى العالم مئات التريليونات من الدولارات التي لا تساوي حبر طباعتها. ليقل لنا أحد الليبراليين المزعومين السبب في رواج الدولار في أسواق العالم، هل هو ثقة الأمريكان بالله (GOD) أم ثقتهم بالمدفع (GUN) طالما أن الدولة الأميركية لا تكفل عملتها الوطنية (الدولار) لفقرها في الذهب وقد انسحبت من معاهدة بريتونوود بسبب ذلك في العام 1971، ولفقرها في الإنتاج أيضاً وهي تستدين يومياً أكثر من مليارين من الدولارات لتغطي نفقاتها. القانون الأساسي للسوق الحرة يقضي بأن تحافظ السوق على أسعار العملات المتداولة فيها إلى أقرب سنتيم، لكن هذا القانون الأساسي كان قد أنتهك بفظاظة من قبل الدول الخمس الغنية (G 5) ومعها إيطاليا بإعلانها من رامبوييه/باريس 16 نوفمبر 1975 عن إعفاء نفسها من تغطية عملاتها الوطنية (!!) والتعويض عن ذلك بوعد قاطع يقول بأن هذه الدول لن تسمح بأي تدهور لأسعار عملاتها ـ ليس عبر الذهب وليس عبر الإنتاج المادي بل عبر الكلام الرنان (!!) فأي حرية يتبقى بعد هذا في سوق الليبراليين التي لا يحركها سوى النقد الحر؟!!
إقتصاد السوق الذي يؤسس وحده للبنية السياسية الليبرالية كان قد عبر إلى متحف التاريخ قبل أكثر من قرن طويل واستقر مجرد إيديولوجيا مهجورة في متحف التاريخ، غير قابلة للحياة من جديد. وأخيراً ما يستوجب الإعتراف به هو أن من يسمح لليبراليين الأغبياء أن يسدروا في غيّهم دون أن يعترفوا بضلالتهم هم الماركسيون، نعم الماركسيون أنفسهم، حيث، بالرغم من عبقرية الماركسية، لم يبرز من بينهم، بعد لينين وستالين، أي عبقري يؤشر إلى طبيعة الخطوة التالية واتجاهها التي على التاريخ أن يخطوها بعد انهيار الإقتصاد الإستهلاكي الذي احتضن العالم منذ العام 1975 وحتى اليوم بسبب انهيار مشروع لينين في الثورة الإشتراكية العالمية وقد بدت علائم الإنهيار عليه منذ الستينيات. ما يعيق بروز مثل هذا الماركسي العبقري هو قبل كل شيء إحجام الجيل الماركسي المتقدم اليوم عن القيام بأية مقاربة علمية وموضوعية لأسباب انهيار المشروع اللينيني، الإنهيار الذي دفع بالعالم إلى حضن الإقتصاد الإستهلاكي (consumerism)، وذلك لخشيتهم من أن أية مقاربة علمية من شأنها أن تدينهم شخصياً وهم الذين شاركوا خروشتشوف بحماس بالغ في الإرتداد على السياسة اللينينية في عبور مرحلة الإشتراكية. أخشى ما يخشاه المرء المراقب هو أن العالم لن ينتظر طويلاً جيلاً آخر من الماركسيين يحدد اتجاه خطوته التالية قبل أن يتفجّر.
فـؤاد النمري
www.geocities.com/fuadnimri01
التعليقات