يسجل لإيلاف، بعرفان كبير، أنها تشرع أبوابها على مصاريعها لقضايانا العراقية، دون قيود ولا حدود، وأنها، رغم قسوة حرارة شمسنا العراقية الحارقة، سارت على رمالنا الساخنة، وخاضت معنا معاركنا الفكرية والسياسية، بهدوء، متحملة أشواك بعضنا، وزهور بعضنا الآخر وتقديره وامتنانه.


سرني كثيرا ذلك الكم الهائل من تعليقات القراء على مقالي الأخير حول الانسحاب الأمريكي من العراق.
ولم يزعجني تهجم بعضهم علي، واتهامهم لي بما لا يعرفونه حق المعرفة. وأغلب الظن أنهم استندوا في ذلك إلى أقاويل سبق أن طيرها بعض الكتاب العراقيين البارعين في استخدام الخناجر والسيوف الكلامية، حين يكرهون أو يحبون على حد سواء.
لكن، وفي الوقت نفسه، سعدت كثيرا بحماسة المنصفين الآخرين من القراء الذين تطوعوا لسرد الحقائق كما عرفوها.


وما دام المادحون والقادحون قد أثاروا حكاية وزارة الإعلام التي ألغاها بول بريمر، ضمن قراره الشهير القاضي بحل وزارة الدفاع والجيش العراقي، فقد يكون نافعا أن اروي الحكاية كما عشتها، لمن يريد مزيدا من المعرفة بما جرى.


فبقدر تعلق الأمر بي وبزملائي، محمد عبد الجبار الشبوط وإبراهيم أحمد وسامي العسكري وصادق الصائغ، أعضاء اللجنة الإعلامية في مجلس إعادة إعمار العراق IRDC، أؤكد هنا أننا دخلنا بغداد بعد صدور ذلك القرار بشهور، وليس لنا أية علاقة لا بأصوله ولا بذيوله، لسبب بسيط هو أننا كنا أقل أهمية بكثير جدا، لدى بريمر، من قادة المعارضة العراقية السابقة الذين اعتمدهم مستشارين وناصحين، حلفاء وخلفاء بلا منازع.


كان مجلس إعادة إعمار العراق حديث عهد، حيث تأسس بعجالة بعد سقوط النظام، ولم تكن له علاقة سابقة بالمعارضة العراقية السابقة، ولا بأي حزب من أحزابها. وليس له أية صفة سياسية. وعلاقته بإدارة بريمر كانت محدودة بحدود مهمته المهنية المحضة المقننة بإعادة إعمار العراق. أعضاؤه مئة وستون عراقيا من ذوي الخبرات والتخصصات العلمية المختلفة، تم اختيارهم على أساس الكفاءة والخبرة والنقاوة من التعصب الطائفي والعنصري، ممن برز في عمله في الجامعات والمؤسسات العلمية أو الخدمية، في أمريكا وأوربا.


أثار حميتهم عماد ضياء الخرسان مؤسس المجلس ومديره، فتركوا مراكزهم وامتيازاتهم وعوائلهم، ملبين نداء الواجب الوطني، ليتولوا إعادة تأهيل الوزارات والمؤسسات والجامعات والإدارات، وإعادة بنائها على أسس حضارية حديثة، بعد أن تم مسح الدولة السابقة بالكامل، ووضع اللبنات الأولى لنظام ديمقراطي صحيح يراعي ظروف العراق واحتياجات مواطنيه، وليكونوا وسطاء خير وسلام بين الشعب العراقي والمحتلين، يخففون أضرار جهل قوات التحالف بطبيعة المجتمع العراقي ومتطلباته من جهة، ومن جهة أخرى يقطعون الطريق على المنتفعين والانتهازيين الذي يظهرون، عادة، في كل مجتمع يتعرض لهزات اجتماعية وسياسية وأمنية كبرى كالتي تعرض لها العراق في نيسان/أبريل 2003.


كانوا أسرة واحدة منسجمة ومتآلفة، رغم أنهم جاؤوا من طوائف وقوميات ومناطق مختلفة، تدفعهم الرغبة المخلصة في تعويض أهلهم عما قاسوه في العقود الماضية، والعمل على ردم الهوة التي تفصلهم عن ركب الحضارة البشرية المتطورة.


لكن المجلس المذكور لم يصمد طويلا، ولم يستطع أداء الكثير من الأحلام التي راودت أعضاءه. فقد نجح بعض السياسيين العراقيين من استغلال جهل بريمر بالعراق والعراقيين، فعملوا على تهميش المجلس وعرقلة نشاطه والحد من سلطته على الوزارات والمؤسسات، من أجل انفرادهم بالسلطة لتحقيق مآربهم الشخصية أو الحزبية الضيقة، وبسبب كرههم لنزاهة أعضائه وإصرارهم على رفض التركيبة السياسية الخاطئة التي كان البعض منهم يصر على اعتمادها أساسا للدولة العراقية الجديدة، غير عابئين بما تسببه للوطن والمواطن من دمار وتعطيل وتفتيت. حتى أن عددا من أعضاء المجلس تم اغتيالهم من قبل عصابات السرقة والتهريب في الوزارات والمحافظات التي كانوا يشرفون على إدارتها.


ثم اشتد عداء بعض قادة الأحزاب للمجلس، وعملوا على إضعافه ثم إسقاطه، حين وافق بريمر على اقتراحه الداعي إلى تشكيل مجلس محافظات مؤقت ينتخب أعضاؤه مباشرة من قبل أبناء المحافظة، يتولى السلطة لمدة سنتين، بديلا عن مجلس الحكم، وبديلا أيضا عن فكرة نقل السيادة التي كان يروج لها بعض قادة الأحزاب الرئيسة، فيشرف على إجراء إحصاء سكاني وطني صحيح تجرى على ضوئه انتخابات نزيهة، ثم يسلم السلطة بعدها لمن يفوز فيها بجدارة، دون تزوير أو تلاعب أو ترهيب.


كان أعضاء مجلس إعادة الإعمار موزعين، حسب اختصاصاتهم، على الوزارات والمحافظات والمؤسسات العامة، كالجامعات والمصارف وهيئات الخدمات العامة، إلا نحن أعضاء اللجنة الإعلامية فيه. لم نجد لأنفسنا عملا يذكر. فوزارة الإعلام التي كان من المفترض أن نشرف عليها كانت قد ألغيت قبل وصولنا. وما تبقى من مؤسساتها وضعت اليد عليه قوات التحالف، وضمته إلى شبكة الإعلام العراقية التي كانت أمريكية خالصة ليس لمجلس إعادة الإعمار أي إشراف عليها. ثم وقعت وزارة الدفاع الأمريكية عقدا بقيمة مئة وستين مليون دولار مع شركة أمريكية خاصة تسمى هاريس كورباريشن HARRIS CORBORATION)) للإشراف على شبكة الإعلام العراقية التي تضم الإذاعة والتلفزيون وجريدة الصباح. ولأن تلك الشركة الأمريكية تجهل العراق والعراقيين فقد تعاقد مديرها للشرق الأوسط، وهو لبناني الأصل، مع شركة تلفزيون LBC اللبنانية لتسيير الإذاعة والتلفزيون والجريدة.


وعبثا حاولنا إقناع إدارة بريمر بضرورة منح لجنتنا دورا في الإشراف على العمل في شبكة الإعلام العراقية، على الأقل في النواحي البرامجية، بعد أن ارتكب المشرفون عليها فضائح خطيرة عديدة، سياسية واجتماعية وثقافية، وحتى جغرافية وتاريخية. وظل رئيس المجلس عماد ضياء يبذل جهوده في سبيل ذلك، إلى أن ألغي المجلس كله في حزيران/يونيو 2994، دون جدوى.
وبعد إلغاء مجلس الحكم، وتسلم أياد علاوي رئاسة الوزراء شكل الهيئة العليا للإعلام لكي تتولى مهمة إعادة تأهيل الإعلام في العراق، وتشرف عليه. وفي أول اجتماع رسمي للهيئة، بحضور الدكتور برهم صالح نائب رئيس الوزراء، طلب مني أن أتوجه فورا إلى مبنى شبكة الإعلام وأتسلم إدارتها. وحين أوضحنا له حقيقة الموقف، وأطلعناه على عدم إمكانية تحدي أوامر الأمريكان التي تمنعنا من التدخل، سأل عن المتبقي من مدة عقد شركةHARRIS وتلفزيونLBC، فقلنا له إن المتبقي شهران فقط. عندها قال بحزم شديد، إذن تصرفوا وكأن عقدهم ملغى. بعد هذا الاجتماع سافر إلى واشنطن في زيارة رسمية، والتقى هناك بالشيخ بيير الظاهر مدير عام LBC، فاتصل بنا قائلا: لاتفعلوا شيئا بالإعلام، لحين عودتي. وحين عاد جدد عقدهم سنة أخرى. بعدها غادرت إلى الأردن، ولم أعد إلى العراق ولم أعمل مع الحكومة العراقية حتى هذه الساعة.


أما موظفو وزارة الإعلام الملغاة، فلم يكن للجنتنا أية قدرة على مساعدتهم وضمان حقوقهم. وقد التقيت، أكثر من مرة، بوفد يمثلهم برئاسة الزميل علي عويد، بحضور السيد سمير الصميدعي رئيس اللجنة الإعلامية في مجلس الحكم، أحيانا، وأحيانا أخرى بحضور الزميل جلال الماشطة نائبا عن الدكتور الباجه جي. والحقيقة أننا لم نكن نملك أية صلاحيات ولا تخصيصات مالية. وكان أقصى ما نستطيع تقديمه لهم هو نصحهم بمواصلة التظاهر والإلحاح في طلب الحل.


ورغم أن تفاصيل هذه المشكلة معروفة وموثقة تاريخيا، وشهد تطوراتها موظفو وزارة الإعلام الملغاة أنفسهم، فقد تعرضت للشتم، وحدي، دون باقي زملائي في اللجنة الإعلامية. حتى أن بعض الشاتمين وظفني ربيبا أول للاحتلال، وصاحب قرار إلغاء وزارة الإعلام، والمسؤول الأول عن تشريد موظفيها، وهضم حقوقهم.


والغريب أن تلك الرياح الشتائمية اللاهبة هبت علي في صيف عام 2007، أثناء تأسيس المجلس العراقي للثقافة، وتوقف هبوبها نهائيا بعد انقضاء ذلك الصيف. وظني الوحيد أن شمس العراق الحارقة هي المسؤولة عن تلك الرياح الساخنة التي تملأ صدور بعض قرائنا العراقيين بهواء الغضب اللاهب، ولله في خلقه شؤون.

إبراهيم الزبيدي