يحتفل كثير من العراقيين ب 14 تموز ويعدونه عيداً وطنياً، وفجراً لعهد سعيد، ويحنون لعبد الكريم قاسم ويعدونه زعيما بناءً وعظيما، ويتحدثون عن نظافته،و الدينار والنصف الذي كان كل تركته المالية، غافلين أو متجاهلين لحقيقته،بينما يحزن عراقيون كثيرون في هذا اليوم وقد أدركوا أنه في الحقيقة ذكرى نكبة العراق وأهله التي بدأت قبل أكثر من نصف قرن ولم تنته حتى اليوم!
في هذا اليوم ينبغي التفكير الجاد والعميق لا خفة الشعارات والمظاهرات والهتافات. ولكن على ما يبدو هي عادة مأساوية متوارثة منذ أقدم العصور لدى العراقيين: فهم كثيراً ما فرحوا وهللوا لأيام كانت هي بداية نكباتهم وكوارثهم وخراب بيوتهم! وبكوا وغضبوا وربما حملوا السلاح وقتلوا بعضهم أو انتحروا لأيام هي بداية صلاحهم و خيرهم وأفراحهم، لو كانوا يعلمون ويقدرون!
كثيرون اليوم خرجوا من ذهول القداسة الثورية وأدركوا حقيقة ما حدث،وهم في ازدياد، ويشكلون الآن نواة الجماهير الحرة المستنيرة المتحمسة للديمقراطية ودولة المجتمع المدني، إذ لا يمكن أن يكون الإنسان حراً وديمقراطياً ومنخرطاً في عمل مدني أو ثقافي تنويري، وبنفس الوقت، يؤمن بالانقلابات العسكرية،أو حتى بالسماح للجيش أن يخرج عن واجبه الوطني المحدد له ليتدخل في شئون البلاد العليا ويفرض نهجه السياسي أو رأيه بمدافع الدبابات! مهما كانت دوافعه أو حسن نواياه، أو وقفت خلفه أحزاب وقوى تدعي أنها تمثل إرادة الشعب، بينما هي لا تعيش سوى أوهامها الخاصة!
إن جوهر وحقيقة ما حدث في 14 تموز 1958 هو تحطيم الدولة المدنية العراقية الحديثة بجزمة العسكر، وتمزيق الدستور الذي جهدت النخب العراقية لخمس سنوات لصياغته فجاء بشهادة كثير من فقهاء القانون المرموقين نصاً قانونيا راقياً ربما هو الأفضل من بين دساتير المنطقة! وتدمير السلطة القضائية في البلاد، بتعطيل المحاكم العليا، وشل محكمة التمييز، وإحلال المحاكم العسكرية، حيث بزغت ما سميت بمحكمة الشعب وهي ( المحكمة العسكرية العليا الخاصة) برئاسة فاضل عباس المهداوي، والمجلسين العرفيين الأول والثاني وكانا من أشرس المحاكم العسكرية،خاصة الأول الذي كان برئاسة شمس الدين عبد الله، وتعيين حاكما عسكرياً عاماً للبلاد ( أحمد صالح العبدي).
كانت الأحكام العرفية في العهد الملكي تعلن استثناءً اضطرارياً، ولكنها في عهد الانقلاب صارت هي القاعدة غير المبررة! فحلت المحاكمات الصورية بعيداً عن قانون أصول المرافعات الجزائية، وتفجرت البيوت والشوارع دماً تحت وقع الحبال والهراوات والرصاص. وجرت مطاردة آخر رائحة عطر تفوح من بذلة مدنية،وصار الخاكي وشبه الزيتوني منذ ذلك الحين ثوب الوطنية!
وهذه بالطبع نتيجة منطقية لعسكرة مجتمع ظل سادراً في انفعالاته الحادة،شارد اللب،مأخوذاً بالوعود والشعارات الخلابة، بينما فقد أهم سلطتين: التشريعية والقضائية،أما السلطة التنفيذية فقد صارت مع السلطتين السابقتين بيد رجل واحد هو قاسم يديرها ببزته العسكرية من ثكنته في وزارة الدفاع! ولكي يمنح نفسه الشرعية،بعيداً عن الدستور الناضج المتكامل الملغى،أوعز بصياغة دستور مؤقت، وقد ظل المحامي حسين جميل يفخر حتى آخر أيامه أنه صاغه بثلاثة أيام، وكان مكوناً من 15 مادة فقط لا غير!
لا أريد أن أبرئ العهد الملكي من سيئات كبرى أو صغرى، أو حتى جرائم وآثام، ولكن لا بد من الإشارة إلى أنه قام على ركام أربعمائة عام من الحكم العثماني المقيت، وفي مجتمع كانت نسبة الأمية فيه تصل إلى 99%،وإنه ورث النظام الإقطاعي ولم يصنعه،وورث الطائفية والعشائرية ولم يصنعها، وإنه ورث التخلف والجهل والفقر والمرض وبمستويات هائلة يصعب تصفيتها في فترة قصيرة،وإنه واجه فتوى متوارثة مسبقة لدى أئمة الشيعة،قادة أكثرية سكان البلاد، تقول أن كل حكم في غيبة المهدي المنتظر، باطل ويجب مقاطعته ومناهضته! وواجه فتاوى مشابهة من الشيوعيين بدفع من القطب الأحمر في الحرب الباردة!وأخرى من قادة السنة، ومن قادة الكرد، والتركمان،حتى لقد أعلن فيصل الأول يأسه من العراقيين أن يكونوا أمة أو شعباً متجانساً!
ومع ذلك عمل رجال العهد الملكي جاهدين بنزاهة وإخلاص من أجل تقدم العراق وجعله يلحق بركب الحضارة، فكان مجلس الاعمار مثالاً للشفافية وبعد النظر إذ كرس جميع موارد النفط تقريباً للبناء المتوازن والضروري، وقد حله الانقلابيون اللاحقون وبددوا أموال النفط في القمع والحروب، ومن المفارقات أن المثقفين الذين حرضوا على العهد الملكي والعسكريين الذين قضوا عليه،خرجوا من مدارسه ومعاهده وبعثاته إلى الخارج!
ولكن يبقى جوهر القضية وأساسها : وجود الدولة المدنية العلمانية،وآلية الدستور والديمقراطية، لا كيفية ممارستهما في دولة ناشئة ما تزال فتية قليلة التجربة وكانت خاضعة للتطور بحكم تنامي حجم المثقفين في البلاد، وتراجع الأمية نسبياً، وحتمية زوال الأشخاص المربكين أو المعيقين لعملها آنذاك كنوري السعيد والوصي وغيرهما،وقد جرى تحطيمها بلا قرار شرعي، ولا وعي، ولا روية، ولا تحضير لبديل أرقى منها أو يساويها، وهذا ما لا يمكن توقعه من ضباط محدودي النظرة سياسياً وفكرياً وتتركز خبراتهم وثقافتهم في فنهم العسكري والقتالي!
كما لا أريد أن أمضي في تعداد الكوارث والنكبات التي تلاحقت بعد انهيار الدولة العراقية المدنية الحديثة، لا لأنها معروفة للجميع، ولا يستطيع أحد أن يغالط بها، بل لأنها نتيجة منطقية أيضاً، لدولة أضحت مشوهة بلا ركائز دستورية أو تشريعية أو قضائية وهي خليط من عسكر متنافر متصارع على السلطة، وشخصيات مدنية من أحزاب مختلفة متناحرة متقاتلة دموياً بعد أن تنكرت بما سمي بجبهة الاتحاد الوطني وشجعت العسكر على تحطيم الدولة العراقية وآلياتها الديمقراطية، بدلاً من نصحهم بالتزام ثكناتهم وواجباتهم وترك التغيير لهم يعملون عليه مع الشعب، ضمن الأطر الشرعية والسلمية. لكنهم في الواقع كانوا أيضاً متهالكين على السلطة يريدون أخذها بسلاح الضباط معتقدين أنهم سيسلمونها لهم، بينما هم انتزعوها مقامرين بدمائهم، وقد استهواهم بريقها، فكان أن وقع بينهم جميعاً عسكريين ومدنيين ما يقع بين أفراد كل عصابة نهب أو سطو أو اعتداء لا تمتلك قيماً أو مبادئ!
وليس صحيحاً أن هذا الانقلاب قد سقط بسبب التآمر عليه في انقلاب 63، لقد سقط انقلاب 14 تموز لأنه ولد ميتاً كثورة منذ لحظته الأولى،إذ كان في الاتجاه الخاطئ تماماً،وقد تعفنت جثته أكثر عندما استأثر رجاله بالسلطة وراحوا يتقاتلون عليها كغنيمة، و لم يسلموها للشعب،ويحتكموا للدستور الشرعي، فكان عنف 63 امتداداً لعنف 58 !
لو افترضنا أن العراقيين قد أفلحوا خلال سنوات،بعد نزف كل هذه الدماء البريئة، وكل هذه التضحيات والآلام،بإقامة دولة حديثة ديمقراطية علمانية، ثم ذات يوم ربما في 14 تموز 2020 أو أي يوم مشؤوم أبعد أو أقرب، يقوم مجموعة من الضباط والشرطة من هذه الجهة أو تلك، من هذه الطائفة أو تلك، من هذه القومية أو تلك، بالقيام بانقلاب عسكري يطيح بهذه الدولة ودستورها الجديد ويعيد البلاد والناس القهقرى إلى عهد الفوضى والدمار ومزاج العسكر وجزماتهم، ماذا يكون شعور العراقيين؟ ماذا يكون وضعهم؟ هل يستطيع أحد بعد ذلك أن يحلم بمستقبل جديد للعراق؟
أية سذاجة وأي ضيق أفق أن يقف البعض عند الدينار والنصف الذي وجدوه في جيب عبد الكريم قاسم دليلاً على عفته،كرمز لغشاء البكارة الشرقي، ويتجاهل أو لا يريد أن يدرك الانهيار التاريخي للعراق في الجريمة الكبرى التي ارتكبها قاسم وصحبه ممن يسمون أنفسهم بالضباط الأحرار بتحطيمهم كل ما بناه العراقيون الرواد خلال فترة الحكم الملكي من قوانين ومؤسسات،وكل ما شاع في البلد من ثقافة التسامح ونسيج اجتماعي وطني عام،ومن كل العلاقات الطيبة مع دول المنطقة والعالم؟
أعتقد إن أحد المؤشرات التي ستثبت أن ثمة دولة مدنية حديثة شرعية ديمقراطية قد قامت في العراق فعلاً هي حين ترد الاعتبار لرجال العهد الملكي الوطنيين الأحرار، وتعتذر لمن تبقى من عوائلهم وللشعب العراقي المدين لهم بالكثير، وتحاكم الضباط الذين قاموا بانقلاب 14 تموز 1958،فجريمتهم لا تسقط بالتقادم،أو بموت أصحابها. والمادة التي سيحالون بموجبها واضحة: خيانة قسمهم وواجبهم العسكري وتحطيم أهم وأخطر وأعز ما يبنيه شعب في وطنه : دولته المدنية وقانونه الأساسي! وبالطبع إن هذا يعني بلغة كافة قوانين العالم المتحضر:الإدانة بجريمة الخيانة العظمى. أما العقوبة فمن المعروف أن الانقلابيين عاقبوا أنفسهم بأنفسهم، والبعض كما قيل ندم وأدرك في ساعة الحقيقة، أنه قد دمر عهداً جميلاً! وإنه بحماقته وتهوره وضع وطنه وشعبه على طريق الآلام!
إبراهيم أحمد
[email protected]






التعليقات