يوم الثلاثاء الموافق 11 سبتمبر 2001 تمكن 19 (مجاهدا) من خطف أربع طائرات مدنية واستخدامها، مع ركابها، في هجمات انتحارية ضد العملاقتين التوأمين في منهاتن ليكتب التاريخ بتلك الطائرات بداية مرحلة دموية أغرقت الكرة الأرضية كلها انطلاقا من أفغانستان ثم العراق بعد ذلك.

قبل تلك الكارثة بأسابيع كنت أتناول طعام الغداء في أضخم وأشهر مطعم في العالم، ذلك هو الكائن في إحدى التوأمين، بدعوة من رئيس طباخيه المواطن المصري محمد غصوب. كانت دهشتي كبيرة وأنا أتأمل عظمة تلك البناية الهائلة، بسلالمها ومصاعدها، وأناقة جدرانها وبلاطها وزجاجها، وأثاث قاعاتها وصالاتها العديدة المتناثرة في جميع طوابقها.

وكان أكثر ما أدهشني زحمة البشر في مداخلها وعلى سلالمها ومصاعدها. خليط عجيب من رجال ونساء جاؤوا من جميع أرجاء المعمورة. كنت أسمع فيها لغات لم أسمعها من قبل. عيون مختلفة الأشكال والألوان. جباه عريضة وضيقة، بارزة وضامرة، فرحة وحزينة. شوراب ولحى كثيفة وذقون حليقة. عمائم وقبعات وشعور منمقة وصلعات لامعة مضيئة. نساء ساحرات الجمال وأخريات أخذ منهن العاطي كل جمال، ولم يتكرم عليهن سوى بالأصوات والكعوب العالية.

كان على يميني، في المطعم الأنيق العاطر الوثير، رجل في الأربعينيات، بشوارب مرسمومة بدقة مثل خط من الفحم الأسود على لوحة بيضاء، وسكسوكة حمراء تتدلى من ذقنه الطويل، وإلى جانبه على المائدة، وليس قبالته، صبية جميلة ساحرة تجاوزت العشرين من عمرها بقليل، لم تكن تبدو سعيدة جدا بتلك الرفقة، وكان لا يكف عن احتضانها وتقبيلها، ثم يطلق ضحكة سمجة مفتعلة في أعقاب كل قبلة وكل احتضان.

ورغم أن المطعم كان من أغلى المطاعم التي أكلت فيها في حياتي، إلا أنه كان عامرا بالآكلين القادرين على تحمل ضخامة فواتيره الباهضة. ومع ذلك فلم لم يكن من السهل عليك أن تدخله دون حجز مسبق وبالأرقام.

يومها خطر على بالي سؤال: أليس في اجتماع كل هذه المجاميع البشرية الهائلة الأتية من كل بقاع الكرة الأرضية في بناية واحدة كهذه البناية ما يدعو إلى الخوف من خطر الموت في لحظة من لحظات غضب أحد أبناء عمومتنا العربية أو الإسلامية الذين فهوا تعاليم الدين الإسلامي بالمقلوب، وتوهموا أنهم، وحدهم، ورثة الله وجنوده المكلفون بتطهير الأرض من الكفرة الذين يجلسون على كراسي وطاولات لا على فرش من إستبرق، ويحلقون شواربهم ولحاهم ولا يطلقونها، ويرتدون البدلة وربطة العنق الصليبية، ويحتسون عصير العنب الأبيض والأحمر، ويستمعون إلى موسيقى الجاز، ويدخنون الغليون والسيكار، ويدفعون فواتيرهم بالدولار؟

ماذا لو دخل علينا هنا في هذا المطعم الخالي من أي حارس أو رقيب أحد مجندي حسن البنا أو أسامة بن لادن فألقى علينا قنبلة حارقة وهرب؟

وأجبت نفسي قائلا، ستكون كارثة. ولعل أكبر خسائرنا، أو أكبر خسائري أنا شخصيا، هما عينا هذه الفتاة الساحرة التي لا يتوقف هذا العاشق الكريه عن مص شفتيها أمامنا دون حياء. ثم تذكرت أنني سأكون ميتا أيضا فأحرم من لذة الإحساس بتلك الخسارة الفادحة.

عدت بعدها إلى جدة، حيث كنت أقيم، وغرقت في عملي اليومي المضني في مقاتلة صدام حسين، على موجات أثير إذاعة صوت الشعب العراقي المعارضة. لم يكن يخطر على بالي يومها أنني أناضل من أجل تسليم العراق وأهله لجحافل المجاهدين، إياهم، المحليين والقادمين من أعالي البحار لحرق الوطن كله بنيران قنابل الظلام. لقد ندمت كثيرا لأنني قاتلت ظالما واحدا وسارقا واحدا وجاهلا واحدا لأنصب من بعده وفي مكانه مئاتٍ بل آلافا من الظالمين والقتلة والجهلة واللصوص.

بعد ذلك الغداء الحافل الثري بأسابيع، وبالتحديد في 11 سبتمبر 2001 فتحت عيني على شاشاتCNN فصعقت وأنا أشاهد طائرة بيونغ ضخمة تدخل البناية التي يقع فيها المطعم ذاته، لتخرج منها وهي كرة من نار.

لم يكن يخطر ببالي أبدا أن يصبح كل ذلك الجمال والأناقة والضخامة، في دقائق، نثارا من حديد ورماد ودخان.

لم أعرف ماذا حل بتلك الجموع من الرجال والنساء الذين يدخلون البنايتين التوأمين كل صباح ويخرجون منها كل مساء، ولا ماذا حل بصديقي محمد غصوب رئيس الطباخين في ذلك المطعم الأنيق، ولا ما حل برواده السياح القادمين من أرجاء الدنيا الواسعة، وبعض منهم قد يكون مسلما تقيا ورعا لم ينقض وضوؤه بعد.

ولكن الأسوأ من كارثة التفجير، بكل هولها وبشاعتها، كانت كارثة أن يكون، يومها، رئيسا لأمريكا، واحد فاق جميع من سبقه من رؤساء، وقد يفوق من سيجيء بعده أيضا، بقصر نظره وصغر عقله وقلة خبرته وشحة مروءته ونفاذ صبره، ليدشن حربه على الإرهاب، فيزيد من عمى حياتنا، كلنا، وكان يقصد تكحيلها.

ولا أريد هنا أن أدخل في تلافيف الحكايات والرويات التي روج لها رفاقنا المحللون والكتاب العرب المؤدلجون، والتي زعموا فيها بأن فجيعة 11 سيبتمبر كانت تدبيرا بوشيا يهوديا صهيونيا لاختلاق الحرب على الإرهاب، وتصفية حسابات صليبية قديمة مع الإسلام الحنيف. فهذا كله في تقديري كلام فاضٍ لا يدخل في رأس بعوضة.

أما بالنسبة لي فإن (أصخم) نتائج غزو المجاهدين الــ (بن لادنيين) لمركز التجارة العالمية في مانهاتن هي تلفيقات ديك تشيني والمحافظين الجدد التي صدقها الرئيس الهمام ليدخل العراق، غازيا، من الكويت، فيسقط نظام (القتل الديكتاتوري)، ويقيم على أنقاضه، نظام جديدا عبقريا لـ (القتل الديمقراطي) الجديد، تديره الكرة الأرضية كلها، أمريكا وإيران وسوريا وإسرائيل وتركيا وحزب الله وحماس وطالبان والأردن والسعودية والكويت والإمارات والبحرين والسودان والصومال وجيبوتي وجزر الوق واق.

بصراحة يغمرني حزن شديد في كل عام حين تعودني ذكرى ذلك اليوم الأسود الكريه، على كل ما حصدته تلك الحماقة من نفوس بريئة، وما نثرته على البشرية كلها من مآتم وفجائع ومصائب لم تنته بعد، ولن تنتهي.

وفي كل عام أيضا أكون أكثر حزنا حين أتذكر عيني تلك الصبية الساحرة التي كان ذلك العاشق الكريه لا يتوقف عن اعتصار خصرها أمام أعيننا دون حياء. ترى هل هي الآن ترقد في أمان في إحدى مقابر شهداء الحادي عشر من سبتمبر اللعين؟ أم هي احترقت أيضا مع من احترق وتبعثرت أشلاؤه بين حطام البنايتين التوأمين؟

إبراهيم الزبيدي