محمد بازيد من سيدني:رغم أن اختراع السينما وتحولها لفن مستقل جاء في فترة كانت فيها الدول العربية إجمالاً تعاني ويلات الاستعمار والحروب والجهل والفقر، إلا إن مصر بادرت باتخاذ موقف إيجابي تجاه الوافد الفني الجديد. إذ يعود تاريخ أول فيلم مصري إلى بدايات العشرينيات من القرن الماضي أي أنها جاءت متزامنة مع الكثير من السينمات العالمية ذات التأثير والثقل العالمي كما هو الحال مع السينما الفرنسية أو الأمريكية التي لم تتضح ملامح نضج الصناعة السينمائية فيها سوى في تلك الفترة. بل إن السينما المصرية بدأت بالإنتاج قبل ظهور الكثير من المهرجانات السينمائية العالمية، مما يعني أنها كانت عنصراً فاعلاً في صناعة السينما حول العالم وليس مجرد عنصر متأثر أو تابع. وبالطبع واصلت السينما المصرية انطلاقها نحو الاحتراف السينمائي للحد الذي كانت فيه السينما المصرية تقدم للعالم سنوياً عدة أفلام تصل إلى العشرة أحياناً تنال نصيبها من الترشيحات لأكبر الجوائز في المهرجانات السينمائية العالمية!

من فيلم أوقات فراغ

سقت هذه المقدمة الطويلة نسبياً لأؤكد أنه ورغم الواقع المظلم تماماً للسينما المصرية اليوم إلا أنها تمتلك مقومات نجاحها وبذرة حياتها في إرثها الفني الضخم الذي ورثته للأجيال. والذي يلوح بين الحين والآخر عبر فيلم شبابي يطل بخجل بين ركام الأفلام التجارية المبتذلة.
في منتصف العام الماضي 2006 وبهدوء تام ودون أي مقدمات بدأت بعض دور العرض السينمائي في مصر بعرض فيلم quot;أوقات فراغquot;. اسم ينم عن كثير من الفراغات في معلومات هذا الفيلم ومصدره! فيلم ينطبق عليه مصطلح quot;فيلم شبابيquot; من حيث الشكل والمضمون والكوادر. فكاتب السيناريو quot;عمر جمالquot; 19 عاماً والمخرج quot;محمد مصطفىquot; وبقية طاقم الفيلم كلهم يعملون للمرة الأولى أمام أو خلف الكاميرا! ربما كان الاستثناء الوحيد الممثلة quot;رندا البحيريquot; ذات التجربة المتواضعة في بعض الأعمال السينمائية السابقة.
ما الذي يدفع منتجاً سينمائياً متميزاً بحجم quot;حسين القلاquot; ndash;أنتج الكثير من الروائع السينمائية المصرية في الثمانينيات والتسعينيات- أن يتحمس لفكرة هؤلاء الشباب ويثق في موهبتهم البحتة التي لا تدعمها أية تجربة ويقدم على إنتاج العمل وهو مجرد حبر على ورق كما يقال؟؟
أول ما يلفتك إلى فيلم quot;أوقات فراغquot; هو تلك البساطة والواقعية الشديدة التي يتسم بها العمل. فشخصيات العمل الرئيسية quot;حازمquot; الشاب الثري الذي تعتمد عليه الشلة بحكم نفوذ والده وثرائه والذي يعيش حياته بالطول والعرض كما يقال، وquot;أحمدquot; الشاب المنحدر من أسرة شديدة الفقر والذي لا يبالي بكل هموم والده ويغرق في العيش في وهم الفرصة التي ستغير حياته ويكمل هذا الوهم بقصة الحب مجهولة النهاية التي يعيشها مع quot;ميquot; التي تحاول بدورها أن تكون متزنة وعاقلة قدر الإمكان وسط عالم يموج بالجنون من حولها! وquot;طارقquot; الذي يعيش مع والدته المنفصلة عن والده في حياة متساهلة لا تسير وفق أي قاعدة أو منطق، وأخيراً quot;منةquot; التي تتأرجح يوماً بالحجاب بعد سماع عمرو خالد ويوماً في أحضان زميلها الشاب تحت وطأة الحاجة للعاطفة المفقودة!

مشهد من الفيلم

هذه الشخصيات التي تبدو من خلال الوصف ثنائية الأبعاد تتجلى بغاية الواقعية خلال أحداث الفيلم. وكأن كاتب السيناريو لم يكلف نفسه سوى عناء رصد حالات زملاءه في الجامعة والثانوية ليخرج بهذه الحوادث والقصص الواقعية للغاية! واقعية الشخصيات وواقعية المعالجة من الأمور المفقودة منذ زمن في السينما العربية. فغاية ما تقدمه السينما العربية مؤخراً هو اقتباس الواقع مسرحاً للأحداث بينما تحلق المعالجة في سماء التنظير والأحلام التي لا تمس للواقع بصلة!
ورغم أن المخرج في العمل السينمائي يفترض أن يكون هو صاحب البصمة الأولى والمميزة في الفيلم، إلا إننا في فيلمنا هذا لا نجد حضوراً للمخرج أكثر من الجانب التنفيذي سوى في بعض المشاهد القليلة. أما الحاضر الأكبر في هذا العمل فهو أصغر العاملين في الفيلم سناً وهو كاتب السيناريو quot;عمر جمالquot; 19 عاماً والذي تميز باحترافية مفقودة حتى لدى بعض كبار كتاب السيناريو في العالم العربي من حيث منطقية الحدث ودقته وقوة الحوارات وامتلاءها رغم ما تبدو عليه من سطحية أحياناً ولكنها سطحية مقصودة تتماشى مع واقع الشخصيات ومنطق الحدث.
من مزايا الفيلم الأغنية الجميلة quot;دوايرquot; التي كتبها الشاعر quot;عبدالرحمن الأبنوديquot; ولحنها وأداها المغني اللبناني quot;مروان خوريquot;. ويأتي الحديث عن الأغنية في سياق المراجعة النقدية للفيلم لأنها أتت هنا موظفة تماماً لتكون عنصراً سينمائياً وليست مجرد استعراض غنائي راقص أصبح علامة راسخة في أفلام الموجة التجارية التافهة.

ملصق الفيلم
ا يؤخذ على الفيلم بعيداً عن مجاملته كتجربة شابة أولى، ضعف الأداءات التمثيلية بشكل عام وإن أتت في بعض اللحظات كومضات متألقة لكنها ما تلبث أن تنطفئ بانتهاء المشهد. ضعف التمثيل لا يعود إلى ضعف الموهبة في اعتقادي حيث ظهرت جلية في بعض المشاهد كما أسلفت، بقدر ما كان غياباً واضحاً لجانب الخبرة مع حماس مبالغ فيه أحياناً لإظهار القدرة وإنجاح الفيلم. القليل من التحكم لو كان في يد المخرج ربما كانت ستظهر تلك المواهب بشكل أفضل وأوضح.
يعد الفيلم بكل ما فيه من إيجابيات وسلبيات من أنضج وأجمل التجارب الشابة مؤخراً لما تحمله من رؤية جادة لصناعة السينما ومحاولة حقيقية لعكس صورة الواقع عبر الفن وقبل هذا وذاك لما تحمله تلك التجربة من أمل في جيل سينمائي لا يبالي بكم التفاهة الموجه له باسم السينما!
الجدير بالذكر أن الفيلم حصل على لقب quot;أفضل فيلم لعام 2006quot; بحسب جمعية النقاد السينمائيين المصريين.

كادر داخلي

بطاقة الفيلم
سنة الإنتاج: 2006
الدولة: مصر
تصنيف الفيلم عمريا: 18 سنة فما فوق
الصنف: دراما
إخراج: محمد مصطفى
سيناريو: عمر جمال
تمثيل: رندا البحيري ndash; أحمد حاتم ndash; كريم قاسم ndash; أحمد حداد ndash; عمرو عابد
دخل الفيلم في الصالات المصرية: تجاوز الخمسة ملايين جنيه مصري
نبذة عن الفيلم: مجموعة من الشباب المتنوعين من حيث المستوى الثقافي والمادي والاجتماعي، تجمع بينهم أحلامهم الطموحة رغم تفاوت إمكانية تحققها. تتأرجح أحلامهم بين سطوة التأثير الديني، وقوة الغريزة الجنسية، وانغلاق الأفق السياسي لتتوه في عالم الواقع الذي لا يرحم، وتتحول تلك الأحلام إلى دوائر من اليأس لا تنتهي!

كادر داخلي (2)

حين يؤمن المنتج!
ربما يكون غريباً بعض الشيء أن نتحدث عن منتج فيلم سينمائي ونخصه بالذكر خصوصاً في السينما العربية. حيث لا يتجاوز دور المنتج دور خزانة النقود التي تعطيك ما فيها على أمل أن تعود إليها في نهاية المطاف لتملأها بأضعاف ما أخذت. ولكن المنتج المصري ذو الأصل الفلسطيني الشهير quot;حسين القلاquot; يعد استثناء في موجة الإنتاج التجاري الذي تعج به ساحة السينما المصرية. حيث تخصص في الإنتاج السينمائي وآمن بأهميته وقدرته على إثراء الساحة الفنية والثقافية بأعمال سينمائية ذات مستوى رفيع.
وقد أنتج quot;القلاquot; عدداً كبيراً من أبرز أفلام التسعينيات الفترة التي شهدت كساداً سينمائياً كبيراً على مستوى السينما المصرية كان آخرها فيلم quot;سهر اللياليquot;. ومن أبرز إنتاجات quot;القلاquot; تعاونه المثمر مع المخرج quot;داود عبدالسيدquot; حيث أنتج له quot;القلاquot; أفلام: quot;أرض الخوفquot; مع الراحل quot;أحمد زكيquot;، وفيلم quot;أرض الأحلامquot; مع سيدة الشاشة العربية quot;فاتن حمامةquot;، وفيلم quot;الكيت كاتquot; مع محمود عبدالعزيز.
ويكفي أن نذكر أن quot;القلاquot; أنتج لكبار مخرجي الواقعية المصرية الجديدة من أمثال: quot;محمد خانquot; وquot;خيري بشارةquot; وquot;داود عبدالسيدquot; وquot;يسري نصر اللهquot; وquot;عاطف الطيبquot; الذين يشكلون طليعة الجيل الشاب ndash;آنذاك- وطليعة السينما المصرية الناضجة فترة الثمانينيات ومطلع التسعينيات.
وفي أحد أيام صيف العام 2005 وبينما كان quot;القلاquot; جالساً على مقهى في وسط القاهرة أقبل عليه شابان مراهقان وقدما له نصاً مكتوباً على أساس أنه سيناريو فيلم كتباه هما. وبالفعل أخذ quot;القلاquot; الموضوع بجدية وقرأ النص الذي أعجبه كثيراً وقرر أن يعود بهذا النص للإنتاج السينمائي بعد توقف لسنوات محققاً نسبة ربح عالية تؤهله لإعادة تدوير عجلة الإنتاج الجاد من جديد.