ذاكرة طفولة

إبن الملا ياسين، الكاتب والباحث ناصر الحزيمي:
جدّي أجهض محاولة هروبي إلى البصرة!

bull;كلاب السكك هي أول ما يقابلني حين أهرب من المنزل!
bull;حلمت أن أدخل (تكيّة) الدراويش، وتحقق حلمي بعدما تحولت إلى روضة أطفال!
bull;صديقتي quot;هاجرquot; ورطتني حين هربت معها من الروضة!
bull;بعدما آكل الكبدة أقول لصاحب المطعم: على حساب الملا ياسين!
bull;أستاذي في الإبتدائية خطفته الحرب العراقية الإيرانية!
bull;اختبأت في شنطة حديدية هرباً من خالي، وكدت أن أختنق!
bull;سمعت عن السينما وذهبت إلى حارة أخرى لأشاهد فيلم عن البلهارسيا!

ناصر الحزيمي: ما الذي يجب أن أكتبه عن طفولتي غير المعذبة وغير المحرومة، لم أكن يتيما ولم أعاني من أسرة عصف بها طلاق أو خلافات ولم أعاني من عقدة الأخ الأوسط، فأنا الكبير بين خمس أخوة (ولدان وخمس بنات) وبما أن ترتيبي الأول، ثم يأتي بعدي بنتان، فأنا قد ضفرت بكل مميزات الطفل الذكر الوحيد إلى حين، وهي ميزات لها أهميتها في تشكيل الشخصية خصوصاً في مجتمعات الفحولة.
كانت طفولتي عابثة جامحة أكثر منها خلاقة ومبدعة، إذ لم تظهر على محياي أي علامة تدل على النبوغ أو التفوق، فلم يكن عالمي صغير كما هو مفترض لمن هم في سني، فقد وعيت على عالم رحب جدا وهو عالم السوق وأي سوق.. سوق الخضرة والذي كان أكبر سوق في بلدتنا الزبير.

كان أبي يعمل موظفاً في الكويت شأنه شأن الكثير من أهل الزبير، ولكي يطمئن علينا فقد استأجر لنا بيت صغير طيني كحال أغلب بيوت الزبير، وذلك بقرب البيت الكبير بيت جدي لأمي (ياسين الحزيمي)، وفي عتمة الليل وقبل صلاة الفجر كنت أخرج من بيتنا مستغلاً نوم والدتي، كنت أفتح الباب على مصراعيه وأتركه مشرعاً، وأخرج غير آبه لكلاب السكك وهي أول ما يقابلني، فالسوق فيه مقصب، وحيثما وجد المقصب وجد الكلاب والقطط، ولأن دكان جدي في رأس الطريق، فأنا أتجه له وقد أضيء مصباحه وذهب صاحبه إلى جامع النقيب للأذان والإمامة، وأجلس في دكانه عابثاً حتى عودته من الجامع، فيأخذني من يدي إلى بيتنا ويتشاجر مع أمي بسبب إهمالها لي، فتوضع دعامات على الباب لمنعي من الخروج والتسلل فجراً، وأتمكن من فتحها، فيعود جدي للشجار مع أمي، ثم وضع أقفال على الباب بمفاتيح تضعها أمي تحت رأسها، ولم يمنعني ذلك إلا من الخروج مبكراً، أي قبل أذان الفجر.

عالم ملئ بالأسرار!
كان سوق الخضرة جنتي وعالمي، سوق ممتد من الشرق إلى الغرب، يتخلله تفرعات جانبية وقهاوي وخيول وحمير تجر العربات وعربات دف وباعة ومبتاعين. كنت أسير متنقلاً بين المحلات والبسطات، والكل يعرفني أو يعرف أني ابن الملا، هكذا كنت أتصور، والمكان الوحيد الذي يملئني خوف ووحشة هو المرور أمام جامع الزبير، والذي يقع في طرف السوق من الغرب، والسبب في ذلك أن هناك مجموعة من الفقراء يجلسون تحت جدار الجامع ومع كل شخص منهم صحن أو صينية معدنية صغيرة يرفعها أمام كل قادم نحوه، وسبب كثرتهم أنه يوجد قبالة الجامع من الشمال تكية للدراويش قد بناها أحد المحسنين للفقراء والمحتاجين، وغالبا هم ليسوا من أهل البلد، بل من الطارئين عليها، وبقدر ما كنت أهاب هذا المكان عموماً إلا أنني كنت أتمنى أن أدخل تكية الدراويش، وأستكشف ما بداخلها، كان عالماً مليئاً بالأسرار، وقد تحقق لي ذلك بعد حين، وإن كان بشكل آخر كما قلت سابقاً، فكنت طفلاً عابثاً، وكانت والدتي قد بدأت تستشعر الخطر الذي من الممكن أن يحيط بي لو أستمررت على هذا المسلك، فانبثقت عندها فكرة إدخالي رياض الأطفال، وكانت هناك رياض أطفال وحيدة في الزبير(روضة النجاة الأهلية)، وفعلاً تم ذلك بالرغم من أنها بعيدة عن منزلنا، الا أن هناك باص يوصلنا لها، وتم الأمر على ذلك فترة من الزمن، وفي أحد الأيام قالت لي إحدى أترابي، وأذكر أن إسمها (هاجر) أنها ستذهب لبيتهم، وكان بقرب الروضة، فتغافلنا الرقيب وخرجنا من الروضة، كل ذهب لبيته، وكانت المسافة بين بيتنا والروضة بعيدة جداً، بمقياس طفل عمره لا يتجاوز الأربع سنوات ونصف، ولكي أصل إلى بيتنا كان علي أن أقطع عبوراً شارع (الرشيدية)، ثم أشق دربي في سوق البنات، فأعبر شارع (الباطن)، ثم أستمر سائراً نحو الجنوب، إلى أن أصل إلى بيتنا، ولما دخلت البيت تفاجأت أمي بقدومي، إذ كنت مبكراً عن موعد وصول الباص، وحينما أخبرتها قررت أن لا ترسلني إلى هذه الروضة، خوفاً علي من السيارات، وبعد هنيهة أدخلتني روضة حكومية فتحت حديثاً قرب منزلنا، وكانت هذه الروضة هي نفسها تكية الدراويش (التكية)، بعد أن بنيت على الطراز الحديث، ولا أدري إلى أين ذهبوا بقاطنيها من الفقراء والعجزة.

كنت أحب الكبدة، بل لا أملك القدرة على مقاومتها، وفي أحد الأيام قررت أن آكل الكبدة في مطعم متخصص بالكباب والكبدة، وكان قريباً من سوق الخضرة، وكان صاحب المطعم يعرف جدي، فدخلت وطلبت كبدة لنفر، وحينما أنتهيت قلت له على حساب الملا ياسين، وهكذا أستمررت على هذه الحالة، حتى جاء يوم الحساب، وذهب الرجل لجدي طالباً منه ثمن الكبدة التي أكلتها، فثار جدي وأزبد وأرعد، ودخل في جدال حامي مع الرجل، وفي الآخر دفع له ثمن الكبدة التي أكلتها، ثم أخذ بيدي، وذهب بي لأمي ووبخها، وأذكر أنها حاولت أن تعاقبني أمامه، فلذت به محتميا فمنعها من ضربي.

مفاجأة جدي!
وفي أحد الأيام قررت أن أنحدر للبصرة، وكان أمراً مهماً بالنسبة لي، إذ كنت أسمع الكبار يرددون قولهم فلان انحدر للبصرة، وفلان منحدر للبصرة، فقررت أن أنحدر للبصرة مثلهم، وخرجت من البيت في صباح مبكر بعد أن لبست ملابسي، وكان معي خمسة عشر فلساً، وذهبت لموقف السيارات، وأخذ مني صاحب الباص الخمسة عشر فلساً، وركبت، ومن الصدف العجيبة أن جدي قد ركب بعدي، فلما رآني استدعاني بيده، وسألني أنت: وين رايح؟ فقلت له منحدر للبصرة، ثم سألني: معك أحد؟ فقلت له: لا! وهنا استشاط غضباً وأخذني من يدي، وأنزلني من الباص، ونادى صاحب الباص ووبخه، على قبوله إركابي الباص وليس معي شخص كبير أكون في عهدته، وأنه من الممكن أن أضيع في البصرة خصوصاً وأنه ليس معي نقود أخرى، ثم أخذني من يدي، وذهب بي لأمي ووبخها على ذلك.

قصة البيت الكبير!
كان البيت الكبير ملاذي الذي ألجأ إليه حال تضييقهم علي في الخروج الى السوق، وفي الحقيقة كان اسماً على مسمى، فهو بحق بيت كبير فيه فناء واسع وزريبة فيها أغنام ودواجن، والغريب أنني لا أتذكر وجبات الغداء أو العشاء في بيتنا بقدر ما أتذكرها في البيت الكبير، فجدي يحب أن يكون حوله أبنائه الصغار مثل خالاتي، وخالي إبراهيم الذي يصغرني بسنة تقريباً، كما كنت ضيفاً دائماً عندهم، وكثيراً ما صنع لنا جدي شاي أصابع العروس لإدخال البهجة على قلوبنا.
وحالما وصلت سني إلى السن التي تؤهلني لدخول المدرسة حجز لي مقعد في مدرسة طلحة بن عبيد الله الابتدائية، ودخلتها، وكان عالما آخر غير ما تعودت عليه، إذ كان زملائي في الدراسة شباب كبار، وأظن أنني كنت أصغر طالب بينهم، بل إن معي طلاب سبق وأن زاملهم ابن خالتي، ثم تجاوزهم، وأتيت أنا فزاملتهم، ثم تجاوزتهم، ثم أتى أخي خالد بعد مدة، وتجاوزهم. كان من المألوف أن يعمر الطالب في الفصل الواحد سبع سنوات، كما كان من المألوف أن يدخل الأولى الإبتدائي من هو في سن المراهقة، وقد أدركت زملاء لي تركوا المدرسة في السنة الأولى الإبتدائية، متجهين إلى سوق العمل والكد، كان الأستاذ حسن زبون الذي درَّسني في أولى ابتدائي من أكثر المدرسين رأفة بالطلبة، وصبراً عليهم، ولا زال يذكر بين طلابه -وهم كثر- بكل خير وامتنان، وكان -رحمه الله- يستعمل وسائل إيضاح محببة لدى الصغار، وبعد عشرين سنة من التدريس يُستدعى -رحمه الله- للمشاركة في الحرب العراقية الإيرانية، ويُفقد في هذه الحرب وتنقطع أخباره.. كم فقدت العراق في هذه الحرب من كفاءات نادرة.

حصص الموسيقى والسينما!
بعد مكوثي سنة في الصف الأول الابتدائي ذهبنا للعيش مع أبي في الكويت، وهناك أعيد تقييمي دراسياً، وبعد الإختبار لم تؤهلني معلوماتي إلى الإلتحاق بالصف الثاني الإبتدائي، فأعدت السنة الأولى الإبتدائي في مدرسة عمر بن الخطاب في خيطان، وهي مدرسة كبيرة جداً، ومبنية على أحدث طراز مدرسي، بحيث أنها تضم مسرح وساحات رياضية متعددة ومتنوعة، وحظائر للدواجن، وصالة كبيرة للطعام. وتعرفت فيها لأول مرة على البازاليا التي لم أكن أعرفها، وكانت تقدم لنا وجبة غداء جيده، وهناك تعرفت على أجواء جديدة عليّ، فالمدرسة كانت تتكفل بكل ما يلزم الطالب من الملابس إلى الكتب الدراسية والكراريس والأقلام، كما أن هناك حصة مخصصة للموسيقى. جميع هذه الأجواء لم تغرني بالدراسة والتحصيل، وتخطيت السنة الأولى، وفي السنة الثانية تعرفت على الهرب من المدرسة والتسرب، ووصل بي الحال إلى أن لا أدخل اختبارات نهاية العام، فعدنا إلى الزبير، وأدخلت مدرسة جديدة، وهي مدرسة أبي بكر الصديق الابتدائية، وكنت أتسرب من المدرسة إذا سنحت لي الفرصة، ومن الحوادث التي وقعت لي في هذه المرحلة أنني كنت جالساً عند باب البيت ألوح بغصن أثلة طويل، فرأيت خالي يوسف رحمه الله من بعيد فرميت الأثلة من يدي، ودخلت مسرعاً إلى البيت، وكانت والدتي في المطبخ، فصرت أبحث عن مكان أختبيء فيه منه خشية العقاب، إذ كان قد حذرني من الخروج من البيت، وكانت عندنا في غرفة الجلوس شنطة حديدية كبيرة جداً، فدخلتها، وأغلقت عليّ بابها، فدخل خالي، وسأل عني، فأخبرته أمي أنني في الشارع، فأخبرها أنه قد رآني أدخل البيت، وجرى البحث عني فوق السطح، وفي الغرف، ثم في السرداب (القبو)، ودخلوا في دائرة القلق، كل هذا وأنا في الشنطة أسمع حوارهم، وجهدهم في البحث، وكان الفصل صيف، فكنت أرفع باب الشنطة قليلاً لكي أتنشق الهواء وأتبرد، ثم أتت أمي بـ(ترمس) الماء، ووضعته فوق الشنطة، وكانت (الترامس) وقتها ثقيلة من الحديد، فصعب علي رفع غطاء الشنطة، فناديت والدتي من داخلها، فأزالت (الترمس)، وأخرجتني من الشنطة، ولم أعاقب ذلك اليوم، وإنما قال خالي: يكفيه ما جاه..
في هذه المرحلة تعرفت على الصداقات والخلاف مع الأتراب واللعب الجماعي، ففي أحد الأيام، وتحديداً بعد الغروب، قيل لنا أن هناك سينما تعرض أفلام في الحارة الفلانية، وذهبنا نحن أبناء الحارة إلى الحارة الأخرى، ووجدنا فعلاً أن هناك سينما تعرض فلم، والشاشة قطعة قماش مثبته على جانب السيارة، والفلم عبارة عن مادة إرشادية تتناول مرض البلهارسيا، ولكن هذا العالم كان بالنسبة لي وقتها عالم سحري عجائبي دفعني بعد ذلك إلى الاهتمام بالسينما والمسرح، ومتابعة كل ما يعرض من أفلام في سينما الرشيد، أو الوطن في البصرة في مرحلة مبكرة من عمري وهذه حكاية أخرى.

* مقال نشر في مجلة quot;قوافلquot; العدد 23 الصادر في نوفمبر 2007م