عبد الله كرمون: مانيسيوس دار نشر صغيرة تعنى بإصدار وإعادة نشر الأعمال الجيدة، النادرة منها والقديمة وضمن كل تحفها، خرجت علينا، خلال العام الماضي، في سلسلتها quot;الفيلسوفquot; بكتيب صغير ولطيف للكاتب الفرنسي بول هيرفيو (1915ـ1857) تحت عنوان quot;ديوجين الكلبquot; وقد صدر لأول مرة منذ 1882.
هيرفيو هذا لم يكتب سيرة كلاسيكية للفيلسوف ديوجين وإنما وضع نوعا من النثر الجميل حول بعض اللحظات الحاسمة في حياة الفيلسوف.
في البدء ليس سهلا أن يخط أي كاتب، لو لم يصب بفوران مجنون، إهداء من قبيل الذي يسطع مثل عويل في مفتتح كتاب بول هيرفيو: quot;إلى الكلاب الضالة!quot; وما يحمله ذلك من إحالات إلى تشرد الروح الحالمة.
quot;كانت أمنية الأم أن يحمل ابنها، عوض ديوجين الذي فرضه الأب، اسم ألكاتوس، غير أنها أُرغمت وأذعنت لكونها ليست سوى مجرد أم!quot;.
منذ البدء ظهرت على ديوجين أعراض شخص منقاد كما يلزم إلى رغباته التي يشبعها كلما لاحت أطيافها، فأحب الحلاوة والجلوس متمتعا بدفء الشمس حتى توفرت له الفرصة اللازمة فانتهزها واتخذ له عاشقة. نيسيديا كانت امرأته الأولى، هذه الأنثى الشبقة التي لا تأبه بعاذل؛ إذ رآها الجميع عارية وثملة. أما ديوجين الذي، ما لبث أن اكتشف أنها تخونه حتى أشبعها ضربا مبرحا. ارتأت، من تبعات ذلك، أن ترمي بنفسها في النهر وتغرق، غير أنها فارقت الحياة خلاف ذلك تماما جراء تخمة وخيمة. نقش ديوجين على قبرها عبارته الجميلة في سوداويتها: quot;أبكي عصفورا صغيرا قد طار!quot;.
خرج ديوجين بعد ذلك لأول مرة مرغما إذ تورط في أمر اختلاس المال العام في المصرف العمومي الذي أسند إليه والده مسئولية عظمى فيه. سُجن والده إلى آخر أيامه، وتاه ديوجين هو في أرض اليونان. عاش لسنوات حياة منفجرة ببذخ عال بفضل كل الذهب الذي حمل معه.
على مائدته تباين المدعوون وأتيح لهم أن يتصرفوا بكل حرية حسبما طاب لهم. النساء والرجال، يشربون خمرا ذا جلل ويحكون عن أمور وأخرى.
quot;زينون الذي كان بحاثة ودوما سكرانا يشرح للفتيات نظريته في الخلق وفي النجوم: quot;بدن الإنسان قد كونته الأرض والشمس. روحه هي مزيج من الحار والبارد، من الجفاف والرطوبة. الآن انصتن إلي جيدا: فالشمس تتجه مائلة إلى قرص فلك البروج، تقتات من المحيط، ما يجعل القمر يتبع طريقا كثيرة الالتواء كي يتغذى من الأنهار. هكذا إذن أيتها الأثينيات الحسناوات، تتغير الفصول وتفقد النساء بضاضتهن، مثل ورود عابرةquot;.
كانت تلك هي ليالي ديوجين مع ندمانه ونساء متعهم، كان من بينهم أفلاطون، ديموقريط وآخرين. الليالي التي سرعان ما تداهمها أنوار شمس صباحية قبل أن يستنفذ القوم كل الذي يمكن من دردشات غنية ومن رغبات مشبعة. ذات يوم كانت نفس الشمس ذات الأنوار قد حملت لديوجين علما حادا بأنه قد أفلس. quot;خرج من بيته ذاك كي لا يعود إليه قطquot;.
غير بعيد عن أبواب أثينا صادف رجلا يدعى أنتيستين الملقب بquot;مجرد كلبquot; قائما يدرس الفلسفة. لقد عُرف بحذقه وصياغته لعبارات جد متقنة مثل ما صرح به يوما: quot;الحذر أكثر متانة من حائط، لأنه ليس يمكنه أن ينهار أو أن يبلى. أو لما قال مرة أخرى: في روح الفيلسوف حصن منيعquot;.
في ذلك اليوم بالذات انبرى أحد من أثينا يجادل أنتيستين في كون quot;الجمهورية تحتاج بكثير إلى نجار أكثر منه إلى خطيبquot;. ولما أفحمه الفيلسوف ولم يعد يقوى على مجاراة المحاججة بادره بكونه ليس أثينييا لأن أمه بالفعل جاءت من مدينة أخرى. quot;رد عليه الفيلسوف ببرودة دم عليا قائلا: لا يلزم أن نبالغ كثيرا في أهمية جنسية نقتسمها مع الحلزون والجرادquot;. (ما أحوج رئيس فرنسا اليوم، في هذا الشأن نفسه، أن يقرأ التاريخ قبل أن بلفه هذا الأخير بين مهملاته الكثيرة؛ ما لامحالة منه بالتأكيد!).
في اللحظة نفسها، ها رجل يدفع بالمناكب القومَ ويصل إلى الفيلسوف مخاطبا إياه: quot;اسمي ديوجين، إذا شئت سأعيش معك، ستكون الشيخ وأكون المريدquot;. بعد تردد قبل الفيلسوف طلب ديوجين وكانت فترة تتلمذه على يديه شديدة الشظف والعناء. ألم تكن قولة أنتيسين له، واضحة الدلالة، لما داعبه النوم ذات قيظ وأراد أن يرتخي لهنيهة: quot;على الرجل أن يتمرن على الانتصار على رغباتهquot;.
على أن صحبة ديوجين لأنتيسين حنّكته في خبرة الحياة وتعلم أشياء كثيرة، غير أنه أحس ذات يوم quot;بثقل معلمه، نفاقه، وقلة علمه حتى بالقياس إليه، ضجر منه، إذن وبحث عن تعلة ما لفراقه. لم يجد أفضل من أن يتهمه أمام الملأ بأنه سرق له ثلاث حبات زيتون. ما أقلق جدا أنتيسين وطردهquot;.
بعد ذلك، quot;كَلَّ ديوجين من أن يقضي لياليه في العراء ويفيق في الصباح بألم في رأسه وشدة فتورquot;. كتب لأحد أصدقائه الذي يدين له بمال كثير عله يتدبر له بيتا يأويه. أجابه هذا الأخير بأن ثمة برميلا هائلا يوجد في معبد أم الآلهة، متينا ومريحاquot;.
سكن ديوجين في البرميل وارتبط حينها ببائعة ثمر فينيقية وتعاطى معها، خاصة في المساء، لمجون بلا نظير.
لكن ديوجين متعطش للترحال، مثل كلاب الروح الضالة، فتوزعته الطرقات، تراه اليوم هنا ويأتيك نبؤه من الهنالك بعد غد. على كل حال وجد نفسه يوما في لاكوني بين أيدي أناس يُخشى منهم، وهو في ثياب أبلاها طول ترحال مغبرا وأشعث. كان أولائك النفر هم رقيق إسبارطة الآبقون، يقطعون طريق الأحرار (ضد العبيد) يأخذون أموالهم ويتركون علامة على أنوفهم!
كعادة بول هيرفيو، كما رأينا فهو يصور جيدا مواقف اللقاء التراجيدي، مثلما يصف ديوجين قلقا، مفزوعا بين أيدي القّطاع، غير أن زعيمهم يتقدم منه ويمسد لحية ديوجين مخاطبا إياه: مرحبا بك بيننا يا أخ! لقد مُست عزة ديوجين غير أن جلده قد سلم!
بعدما أطعمه مضيفه واستراح قليلا في مغارة بذات الجبل وشرب خمرا عذبا، هب وخاطبهم بقوله: quot;أيها اللصوص، لا تعتقدوا أنني أحتقر مهنتكم، أتساءل فقط إن هي كانت مربحة. لأنه لا يجب طرح أسئلة أخرىquot;.
حدثهم بعد ذلك عن أمور أخرى مستبعدا الحكم القيمي، ونبههم إلى كون عساكر إسبارطة قد يفوزون يوما بجلودهم ووضح لهم أهمية أن يستعدوا للموت المحدق يهم حتما، غير أنه لم ينس أن يعزز صدق وقوة إيمانهم بأن الإله هرمس، الذي يمجدونه كثيرا، يحفظ بالتأكيد على القيم الذكية والحيوية، ثم مضى كعادته!
في تيهانه الدائم، وصل ثانية إلى ميسين، وسلم على معلمه الأول أنتيستين، ومر ليلقى أصدقاءه فيريقراط وأولمبيادور، وكلبا (كلبيا) يعرفه في حي ميليت. مر على باب أفلاطون وقرأ مكتوبا فوق: quot;لا يدخل هنا من لا يدرك الهندسةquot;. أراد أن يرى الفيلسوف غير أن أحد عبيده أخبره أنه غائب في رحلة إلى سيسيليا في محادثة مع الملك دونيس. خرج ديوجين يخبر الناس بأن أفلاطون يتعامل مع الجلاد!
علم هذا الأخير بالأمر وخرج ليصادف ديوجين في الخلاء يعد طعامه، بادره أفلاطون: لو تعاملت مع دونيس لما بقيت تقشر الأعشابquot; أجابه ديوجين صارخا بكل قواه وأنت لو قشرت الأعشاب لما غازلت دونيس!
دون أن يكون بوسعي الآن أن أتناول كل الكتاب على جماله في تفاصيله، أشير أن ثمة أشياء جميلة لم أذكرها، كأن يلقن ديوجين فضيلة الكذب مادامت الحقيقة سهلٌ تبيانها متى اقتضى الحال ذلك. علاقته مع القحبة لايس وغيرها. بيعه في سوق النخاسة وأمور أخرى ما أجملها في الفلسفة الكلبية. غير أن ديوجين لما احتواه القبر، ثمة دوما تلك النهاية المحدقة، وُضع عليه بعناية ولحسن حظه كلبٌ من حجر!
[email protected]