الكاتب الليبي محمد العريشية
الكتّاب العرب يلهثون وراء الترجمة وهم غير مقروئين في بلادهم!

حاوره محمد الأصفـر: محمد العريشية اسم ليبي مهم في مجال الأدب والفن.. عرفته قارئا نهما.. ما سألته عن كتاب إلا ووجدت لديه معلومات عنه أو أنه قد قرأه.. كتب مقالات سياسية وأدبية في عدة صحف ليبية.. وساهم في إعداد عدة برامج ثقافية للإذاعة قدم من خلالها إضاءات لبعض الأعمال الإبداعية العربية والليبية.. كاتب يتكيء علي ثقافة دسمة جمعها من الحياة والكتب ومن هدوء الصحراء التي اشتغل فيها من أجل لقمة العيش عدة سنوات.. من يقرأ له سردا سيلاحظ جدا تأثير البيئة الليبية التي عاش وسطها في كتاباته.. ومن يقرأ له شعرا سيجد نفسه أمام العالم كله.. لأنه في الشعر يبدأ دائما من الأنثي منتجة الحياة.. كاتب عرف البحر والبادية.. ولد وعاش في قرية صغيرة مذكورة في التاريخ لكن في الواقع يكاد لا يعرفها غير ساكنيها.. كاتب من طينة خصبة.. خياله لا يضيء إلا علي الماء والخضرة والخصوبة.. وإن أضاء علي غير ذلك يوقظه ويتشاجر معه ويهدده بالإيقاف ويعاتبه بحرقة.. لم ينجر هذا الكاتب إلي ما يمارسه الكثير من المثقفين الآن من اللهاث خلف المكاسب الآنية.. يقول يكفيني أن أعيد قراءة موبي ديك علي الركض خلف السراب الذاهب..
هنا حوار معه:
*في الكثير من قصصك وفي روايتك الأيام الأخيرة في علاّج نجد احتفاء كبيرا ومفصلا بالمكان، خاصة قريتك الزعفران التي ولدت وعشت فيها.. هل الاشتغال اركنولجيا تماهيا مع أدب أمريكا اللاتينية وخاصة بما يعرف بالواقعية السحرية حيث نجد في الأيام الأخيرة في علاّج الكثير من الأفعال الغرائبية أو الواقعية السحرية، أم لديك أزمة هوية تحاول أن تدافع عنها بابراز القري المنسية أمام المدن التي نهبت كل شيء من مقدرات الحياة البشرية؟
يمكنك أن تعتبرها مرثية لقرية شوّهتها مدنية مزيفة، أو ذكريات ومشاعر وأشياء لم يمدها الحاضر بالحياة فتحولت إلي خيبات أمل، إنها سيرة مكان مسور بالعزلة وأحاول بشكل أو بآخر كسر هذه العزلة بالكتابة أو هذا ما أحاول فعله علي الأقل، وبالنسبة للوسط القروي الذي تنبثق منه أغلب القصص فإنها تقع في مكان وزمان محددين في قرية الزعفران وما جاورها من قري ميتة وإلي فترة زمنية محددة هي النصف الثاني من القرن العشرين. أنا من قرية كانت الحكايات الممزوجة بالخرافة والأسطورة حرفة سكانها الأولي حتي أن قصة الجد الأعلي الشيخ بن همال تتماهي بشكل كبير مع قصة حي بن يقظان. قرية كانت الحياة فيها قاسية، لم يترك الفقر فيها بيتا إلا واكتسحه والأمراض والتخلف والتقوقع حول النفس وعدم الاندماج. تلاحظ في القصص وفي الرواية أيضا أن الايمان بالماضي وتمجيده أقوي من الايمان بالحاضر والمستقبل، والاستعانة بالخرافات والأفعال الغرائبية لفك عقدة المعضلات التي تواجههم. يمكنني أن أقول أني قمت بتحديد الفترات التاريخية وتأثيرها علي القرية وسكانها لأن أوضاعهم وإن لم تتغير كما ينبغي لها أن تكون فقد تجرعوا خيبات أمل جديدة حين فقدوا الأمل والطمأنينة وأصبحت الوجوه تكسوها طبقة سميكة من الكآبة والتجهم والتهكم والسخرية المرّة، إني أسترجع مكاناً عشت فيه وعاشت فيه أسرتي منذ أكثر من ثلاثمئة سنة، إن الحياة في هذا المكان صنو الفشل إن لم يكن الفشل بعينه حتي أن المعتقدات الخرافية بالنسبة لشخوص القصص والرواية الذين يظهرون وكأنهم من عالم سفلي بدائي هي بمثابة المخلص أو دافعهم للخلاص أو ربما يبحثون عن لا شيء وراء الأشياء الكثيرة الغامضة المتناقضة التي تحيط بهم. وبالنسبة للواقعية السحرية التي يتحدث عنها البعض أعتقد أن الأيام الأخيرة في علاّج هي انعكاس لسيرة المكان الذي أعرفه تمام المعرفة، الفضاء المكاني الذي لم ينتج شيئا له قيمة أكثر من حكايات غرائبية، والشخصيات مصورة ببلاغة مستمدة من الفلكلور الليبي، حتي أن الحوارات في الرواية هي تنميق أو إعادة كتابة الحوارات الشعبية وبعض الأمثال الشعبية الليبية لهذا تلاحظ قوة الحوار في الرواية، وإن كنت قارئا نهما لأدب أمريكا اللاتينية العظيم إلا أن الأيام الأخيرة في علاّج هي رواية ليبية لا تنفصل عن محيطها الشعبي المليء بالكثير من الوقائع التي تتقاطع مع السحري.
*من خلال مجموعتك القصصية الرمل الخايب و الأيام الأخيرة في علاّج وروايتك القادمة نساء باليرمو.. وجدت أنك منجذب كثيرا إلي ابراز مشهدية الصورة حتي أنني وجدت فصولا يمكنني أن اقول أنها بصرية وإذا أرادوا انتاجها مرئيا أو سينمائيا فلا تحتاج إلي كتابة سيناريو.. لماذا التركيز علي الصورة حتي أن القارئ تكاد لا تترك له ما يتخيله بصريا في المشهد الذي تكتبه؟
منذ أن أصبحت كاتبا توجهت إلي كتابة السيناريو، لأن السينما، وإن كانت لا توجد سينما فعلية في ليبيا، تخدم العمل الروائي وكذلك للرواية فضل كبير علي السينما، أحاول لفت انتباه القارئ إلي الزاوية التي أنظر من خلالها إلي وقائع الأشياء، لهذا السبب وضعت معرفتي بتقنية السيناريو السينمائي في كتابتي. كتبت عدة سيناريوهات منها السنبلة و الزين وهو مسلسل بدوي لكن ما يزال الحديث جاريا مع المنتج رغم الكثير من المعوقات التي تواجهني لخلاف في وجهات النظر، لأن المنتج عادة ينظر إلي المسائل التجارية ولست من أولئك الذين يلهثون وراء نجاح مؤقت تفقد فيه أو تساهم في تهديم قناعاتك أو تشويه تصوراتك لأجل حفنة من المال، ما زلت من تلك الفئة من الناس التي تقيم وزنا للقناعات والأفكار لأني أعيش أغلب أوقاتي بين الكتب وأشاهد القيم من حولي وهي تتهدم في مجتمعي الذي أعيش فيه، والمهيمن عليه بالمال والاستهلاك وبطيش وتهور أصحاب النفوذ والمظهرية والسطحية. وكتبت كذلك سيناريو الباب الموصد وهو سيناريو روائي طويل يدور حول ضياع الفرد وانحداره نحو العنف في مجتمع انحرف فجأة بشكل عشوائي نحو الاستهلاك. ومنذ فترة جمعتني أفكار مشتركة مع الممثل الليبي المعروف علي أحمد سالم للعمل علي الرواية الليبية فوقع اختياره علي رواية ابراهيم الكوني نزيف الحجر وامكانية تحويلها إلي عمل سينمائي ليبي وما زلنا ننتظر، لكن دائما في غياب المنتج الليبي أو العربي المغامر والمؤمن برسالة العمل السينمائي ستكون كل الطموحات مجرد طموحات، وفي ليبيا هناك الكثير من الكلام عن السينما لكنه مجرد كلام.
*ماذا تعني لك المرأة علي الصعيد الانساني والإبداعي ولاسيما أن حضورها طاغ في أغلب كتاباتك؟
في آب (أغسطس) من العام الماضي وصلني ايميل من سيدة عربية مقيمة في باريس تعترض فيه علي الوصف المشوّه للمرأة في الأيام الأخيرة في علاّج وترفض حسب قولها الوصف الذي جاء علي لسان الزارعي من أن المرأة كالمسامير تشد الرجل إلي الأرض ولا يخلعه إلا الموت. أعتقد أن الزارعي في الرواية كان يتحدث عن فكرة الرحيل. وحضور المرأة في أعمالي ليس طاغيا، بل هي أقل حضورا وبالشكل الذي تتواجد فيه أمامي في الواقع، يبدو لي أن طبيعة حياة المرأة شبه المظلمة تاريخيا لها تأثير علي الكاتب إذ لا يمكنني ان أكتب عن المرأة وكأنها في باريس أو روما لأن المرأة في المدينة التي أعيش فيها مثلا لا تستطيع مهما كانت الظروف أن تجلس في مقهي، يقول البعض ان المجتمع الليبي مجتمع محافظ ربما لكنه متزمت أيضا ولا مجال فيه للاختلاف ولا يتقبل الاختلاف. الروائي الامريكي هنري ميلر كان يعتقد بنبوءة المرأة. إنه علي صواب فالمرأة بمثابة نبي يقودنا من الخشونة والكثافة إلي شفافية تشفّ عن جماليات الحياة، إني أؤمن بالمرأة، أؤمن بفاطمة عثمان الشاعرة الأمية التي جسدت وكثفت معاناة الشعب الليبي في أقل عدد من الكلمات، أؤمن بجميلة بوحيرد المناضلة، أؤمن بإيلينا اليسارية المغامرة التي رافقت المخرج ميغيل ليتين أثناء عودته إلي سنتياغو لفضح ديكتاتورية بينوشيه، أؤمن بفيرونيكا غيرين التي قُتلت وهي تناضل من أجل أن تكون دبلن بلا مخدرات، أؤمن بوردة في رواية صنع الله ابراهيم... الخ. أعتقد أن المرأة بمثابة كوة أو نافذة في الجدار الذكوري يحاول الرجل النظر من خلالها إلي نسغ الحياة.
*العديد من الاحتفاليات والأمسيات والمعارض التي أقيمت لم نر فيها محمد العريشية مشاركا أو حتي ضيف شرف؟ لماذا هذا العزوف عن المشاركة والاندماج في الوسط الثقافي الليبي؟.
صدقني إني أشعر بسعادة غامرة لعدم دعوتي إلي أي شيء في ليبيا حتي المناسبات الثقافية التي تقام في سرت لا أدعي إليها. والمؤسسات الثقافية تعاملني كما لو أنني لست ليبياً أو كما لو أنني أنتمي إلي جالية ليبية مقيمة في ليبيا وهذا لا يحزنني لأني لست من الأصوات التي تزيف الواقع أو الذين يمارسون الابتزاز لأغراض شخصية أو بتعبير أدق لست ممن يجملون القبح.
*نسمع كثيرا من النقاشات التي تدور عن دور المثقف ورسالته وعن المثقف التابع والمثقف المستقل، ما هو دور المثقف برأيك؟
ذكر نيكوس كازنتازاكي في مذكراته أن زوربا دعاه لرؤية حجر أخضر لكنه لم يستجيب لتلك الدعوة لأن البشرية كانت أمام تداعيات الحرب العالمية الثانية واعتبر أن تلبية الدعوة لرؤية حجر أخضر هي بمثابة خيانة للبشرية لكن بعد أن قامت الحرب بحرق الأخضر واليابس وليس في مستطاع المثقف أن يحد من انتشار الخراب، أدرك انه علي خطأ عندما رفض تلك الدعوة البدائية أي وكأنه يقول أن البحث عن الجمال أكثر قيمة من تهويمات وتخيلات لا تعود علي أحد بشيء. أين هي الملايين التي خرجت ضد غزو العراق ؟ فاجتياح العراق صاحبته تنظيرات المثقف الحالم بالحرية والديموقراطية لكننا اكتشفنا أن الحرية المعمدة في نهر الخارجية الامريكية منتجة للطائفية والجثث المشوّهة والمشبعة بالدم، والديموقراطية في بغداد هي انتخاب الموت الرخيص للأطفال والأمل والمستقبل، وإن كنت لا آسف علي صدام. وبتعبير آخر لا أميل إلي جعجعة المثقف وتنظيراته. لا أعرف أين قرأت أن أحداث ايار (مايو) 68 في باريس لم تخطر علي بال سارتر وكانت معاكسة لتوقعاته، وأن ريجيس دوبريه تخلي عن أحلامه النضالية بعد مقتل غيفارا في قرية لاهيغيرا البوليفية، وأن المثقف العربي الذي كان يحلم بتغيير الكون عاجز اليوم تماما عن تغيير واقعه اليومي الملغز الغامض والمعقد الذي تتلاعب به مصالح سياسية متقلبة، أعتقد أن نجوم كرة القدم والطرب والكوميديا هم أكثر شهرة وأكثر تأثيرا من المثقف، إني أفضل دائما متابعة شروق الشمس وغروبها أو العودة لقراءة موبي ديك علي أن يكون لي دور وأتوهم أنه يخدم الناس أو يقودهم إلي التغيير.
*لك قراء عرب أكثر من القراء الليبيين كيف تقيم مستوي القارئ الليبي أمام القارئ العربي؟ وما هي ثقافة القراءة؟
هناك كلمة جميلة لغارسيا ماركيز عند الجوع لا يوجد خبز سيء. أي كلما كانت هناك نسبة قليلة من القراء سأعتبرها نجاحا عظيما كأي نوع من الخبز عند الجوع. في القاهرة رأيت حارس عمارة يتخذ من مدخلها بيتا، ويبدو فقيرا معدما لكني وجدته في ساعة متأخرة من اللــــيل وهو منهمك في قراءة عمارة يعقوبيان لعلاء الأسواني، وفي طرابلس وجدت فتاة في صيدلية تطالع رواية للجوع وجوه أخري للكاتبة الليبية وفاء البوعيسي.
الشاعر أوكتافيو باث في كتابه الصوت الآخر أشار إلي نقطة مهمة وهي القلة الهائلة. يجب أن نحتفي بهذه القلة الهائلة من القراء سواء في ليبيا أو في الوطن العربي، ألا تلاحظ معي أن اغلب الكتاب لدينا وكأنهم يكسبون رزقهم من الغضب والتذمر لغياب القارئ، وانهم يغازلون الحكومات كي تفعّل ثقافة القراءة في مجتمعاتهم. يا أخي للأفكار حياتها وسفرها الجميل. من جهتي ان مهمة الكاتب ان يكتب بشكل جيد وبالنسبة للقارئ فإني لست جشعا إذ أكتفي بقلة هائلة.
*برأيك لماذا يبدو الأدب الليبي مجهولا لدي الكثير من القراء العرب ولماذا لم يترجم إلي لغات أخري باستثناء الروائي ابراهيم الكوني الذي ترجمت أعماله إلي لغات كثيرة؟ ما السبب يا تري؟
لم يتح للقارئ العربي أن يطلع علي الأدب الليبي بصورة كافية لعدة أسباب أولا أن الكاتب الليبي ليس مغامرا لأنه يكتفي بدور نشر محلية لا طموحات لها لأنها تعتمد علي تمويل الدولة حتي تفلس وتُحل وتظهر أخري وهكذا. ثانيا لا تستطيع أن تتهم الصحف العربية بأنها تغض الطرف عن الأدب الليبي أنت أيضا لن تجد رواية عربية مهمة أو مترجمة صدرت عن دار نشر ليبية إلا بنسبة واحد في الألف لأننا متخلفون جدا في النشر ودائما وكأننا عميان بحاجة إلي وسيط ليبشر بنتاجنا الثقافي لغيرنا، وأعتقد أنه من أكبر الحماقات أو الفضائح أن تدفع مبالغ مالية لنقاد عرب حتي يكتبوا دراسات علي الأدب الليبي إني لا ألوم المؤسسات التي تقوم بشراء حبر النقاد العرب لأنها لا تملك مقومات النجاح أو مقومات الناشر الحقيقي بل ألوم أصدقائي الكتاب الذي سمحوا بأن تدخل أعمالهم المضيئة في هذا المزاد الأسود وينبغي أن يكون لهم صوت أو أقرأ لهم شيئا عن هذا، لأن هذا يعيب الثقافة الليبية التي تعود إلي ثقافة الأكاكوس فالأدب الليبي ليس سلعة بائرة حتي يروج له بشكل فجّ وقبيح ومخل بالثقافة الليبية، لدينا أسماء مهمة فالشلطامي وخليفة حسين مصطفي والعماري والعوكلي والطويبي أسماء محترمة ولا تقل قيمة عن أي روائي أو شاعر عربي. بالنسبة للترجمة الكل يلهث نحو الترجمة دون أن يقرأ في بلده ومن وجهة نظري أن عدم الاقبال علي ترجمة الأدب الليبي باستثناء الكوني وأسماء أخري يعود إلي أن الأدب يفسر الحراك الاجتماعي، ولو تلاحظ أن الترجمات الجديدة أغلبها في السعودية لأسماء شابة وفي مصر أيضا، تقريبا ان العقلية الغربية تحاول فهم هذه المجتمعات المنتجة للارهابيين والانتحاريين ليحاولوا فهم تركيبة هذه المجتمعات من خلال الرواية، وبما أن المجتمع الليبي من المجتمعات الساكنة التي لا تكاد تسمع لها صوتا في أي شأن من شؤونها لهذا السبب لا يهتم المستشرق بترجمة الأدب الليبي لأن الأدب الليبي بعيد كل البعد عن الحراك الاجتماعي أو السياسي الراهن.
وبالنسبة لابراهيم الكوني فالكوني روائي كبير جدا وأعماله كبيرة لكن أعتقد أن السبب الرئيسي وراء اهتمام الغرب بأدب الكوني يعود إلي التسعينات بعد تفتت الاتحاد السوفييتي وظهور الأقليات وأدب الأقليات إلي الواجهة والكوني لا يتحدث في كل أعماله باستثناء روايته الأخيرة نداء ما كان بعيدا عن المجتمع الليبي بكل نسيجه الاجتماعي والثقافي بل عن طائفة محددة هي الطوارق. لكن يجب ان تعرف أن الكوني كبير جدا ومن الحكائيين العظام.
*حدثنا عن روايتك القادمة نساء باليرمو؟
في عام 1221 يرحل بطل الرواية، ب. م الرجل الذي ينزع بطبعه نحو المغامرة وحياة الخطر، من مسقط رأسه جزيرة قوصرة، إلي باليرمو، متوجها إلي تمبكتو، سعيا وراء امرأة تزوره في أحلامه ليلا، ولا شك أنه يسعي أيضا للبحث عن ذاته. وعندما يصل باليرمو تتغير تصوراته التي رسمها رأسا علي عقب، حيث بدأت تلوح في الأفق بدايات الحروب الصليبية، فيعيش مع صديقه أحمد بن مأمون صانع الأبواب والقريب من الامبراطور فريدريك الثاني، ويقع بطل الرواية في غرام بياتريتشي، بعد أن ينتشلها من القبو المظلم وهو وكر للرذيلة لكن هذا الحب بين مسلم ونصرانية يثير حفيظة بعض العقول المعبأة بالتعصب، حيث يهيمن علي أجواء الرواية الحقد علي المسلمين الذي تغذيه مواقف البابا غريغوري التاسع وكرادلته وجماعات اللمبارد المتعطشة لدماء المسلمين ويلاحق العاشقان في طرقات باليرمو ويقتلان بعد أن تقوم مجموعة من نساء باليرمو بمحاولات يائسة لحماية آخر قصة حب في صقلية بين مسلم ونصرانية. وتقع المذبحة التي حدثت في باليرمو لإخماد الثورة ويرّحل المسلمون من جزيرة صقلية علي دفعات وتنطلق من هناك الحملات الصليبية نحو المشرق. نساء باليرمو هي محاولة لفهم بدايات الحروب الصليبية.
*في السنوات الأخيرة طغت نغمة الإصلاح في الأوساط السياسية والثقافية وصار النظر إلي الأمام هو النغمة المطلوبة إعلاميا ومؤسساتيا وهناك نقاشات كثيرة حول الأمل والغد والتفاؤل وإصلاح ما فات وعلي أثرها ظهرت صحف ومجلات وغيرها من وسائط الاعلام تتبني الإصلاح وتروّج له وتنشر كل شيء مؤيد لفكرتها وبرنامجها المستحدثة من أجله.. هل الإصلاح من وجهة نظرك يقوم بطريقة العطار الذي يصلح
ما أفسد الدهر أم بطريقة الطبيب وأعني بها بالأساليب العلمية الحديثة والمثمرة؟
من الصعب دائما الحديث عن الاصلاح نتيجة الخلط واللبس الحاصل حتي أن الاصلاح أصبح مجرد كلمات فارغة من المحتوي أو كليشيهات، ومع ذلك، سأحاول، هنا، أن أقول أن الاصلاح ينبغي أن يكون صوت المنطق، ينبغي أن يكون مثلا يحتذي، والصحافة الحرة الاصلاحية يجب أن تعمل علي فتح النوافذ أمام الحكومات لتري كيف يعيش الشعب في عوز وحاجة وليري الشعب في أي بحبوحة تعيش الحكومات والكائنات الطفيلية التي تعيش في حضنها. إن صوت الاصلاح الحقيقي يقول أن القناع الذي يختبئ خلفه الفساد سيقع، عاجلا أم آجلا سيقع. إن الاصلاح لا يمنح كهبة للشعوب وفي هذه الحالة ستشوبه الانتقائية أي تتعمد السلطات انتقاء ما يلائمها وتبطل مفعول الجهود الاصلاحية الرامية إلي خدمة الناس، الاصلاح الحقيقي هو صوت الشعوب وحراكها المدني، وما لم يكن الاصلاح ثمرة المجتمع المدني ومؤسساته سنحتاج إلي معجزات لاصلاح الاصلاح وحينئذ سيصبح صوت الشعوب ومطالبها بحقوقها ترابا ولن تري إلا النجوم في رابعة النهار.
*أخيرا كيف تري المستقبل ؟ ولا أريد أن أقول لك كيف تشمه.
لا أعرف عن أي مستقبل تتحدث؟!
المستقبل العادي الزمني أي بعد قليل وغدا وبعد شهر وعام وقرن وملايين السنين إلي ما لانهاية... الرؤية غير محددة.. بصريا.. توقعات.. قراءة.. كيف سيكون.. أيضا إلخ..
حسنا.. دعني أعود بك إلي كتاب تاريخ القراءة للبيرتو مانغويل فقد ذكر المؤلف ان إحدي حلقات مسلسل منطقة الشفق تروي قصة قارئ نهم ينجو في العالم لوحده إثر كارثة نووية، حيث تصبح جميع كتب العالم تحت تصرفه، إلا أن نظارته تنكسر فجأة. أنظر، في العالم اليوم من أقصاه إلي أدناه، الكل يتحدث عن السلام دون الحديث عن القوي الخفية التي تسعي دائما إلي تقويض العدل والسلام بشكل كارثي، وأن حقوق الانسان لا تنادي بها إلا أصوات ضعيفة وهشة ومخنوقة، والحكومات العربية لا تتوقف هي الأخري وبشكل مضحك عن الحديث عن الحريات العامة وتوزيع الثروات لكنها في الحقيقة تقوم بتوزيع القمع والتهميش بالمجان علي شعوبها. يا أخي إن أي محاولة لقراءة المستقبل لا تستقيم لأن النظارة تكسرت.