quot;أهدي باقة حياتي لمن يجعل منها مشعلا للتبصر في نفق الفكرquot; (محمد شكري)

منير بولعيش من طنجة: لا أعرف هذه المرّة كيف أستهلّ رسالتي إليك، أنت المتعوّد على رسائلي التي أبعث بها منذ أربع سنوات إلى عنوانك الأخير: مدفن مرشان، حتّى دون أن تتاح لي فرصة التأكّد إن كانت تصلك تلك الرّسائل أم لا، ذلك أنّني مع كلّ رسالة سابقة أرسلتها كنت أحاول التّعبير عن افتقادنا المبرّح لك و لأستعيد مع كلّ رسالة من تلك الرّسائل انبهاري الأوّل بنصوصك، بتلك الجرعات المركّزة من مورفين الأدب الذي طوّح بي في فضاءات الجنون و الحرية و التمرّد و الرّفض... الفضاءات التي لم أكن قد خبرتها سلفا و التي لم أعد معها كما كنت من قبل، لكن هذه المرّة، أنا أكتب إليك من موقع مختلف، و بشعور مختلف، أكتب إليك مباشرة بعد أن انتهى احتفاؤنا ليلة أمس بعيد ميلاد صديقك الكبير: (العربي اليعقوبي)، ثمانية و سبعون سنة أكمل هذا القدير الذي أصرّ قبل أن يطفأ شمعته و يشرب نخبه و في التفاتة وفاء و عرفان نادرين، أن يقرأ هذا المقطع الجميل من سيرتك البهيّة (وجوه): [كنت جالسا وحيدا في مطعم الدورادو حين مر العربي اليعقوبي ليذكرني بعيد ميلاده القادم، شربنا الشامبانيا احتفالا بعيد ميلادي في انتظار عيد ميلاده، هكذا زال المعنى المقلق لعيد ميلادي الرابع و الستين، إنها لحظة صداقة)، طبعا لم تكن التفاتة العربي اليعقوبي لتمرّ في الحفل دون أن تهزّني أنا على الأقلّ، و تورثني تساؤلات رافقتني لحدّ السّاعة التي أكتب فيها إليك، موقف لم يكن ليشي فقط بنبل الرجل و عظمته، و إنما يعبّر أيضا عن المعنى العميق للصّداقة و المحبّة كما علّمتنا أنت دائما و كما تجسّدت تلك اللّيلة في شخص العربي اليعقوبي، و هو ما جعلني أقف ذاهلا أمام هذا المشهد النّادر الذي عمّق من ألمي و جعلني أكتشف بالفعل حاجتنا الكبيرة إليك، و حاجتي الخانقة في كتابة رسالة عاجلة قد تصل أو لا تصل هي الأخرى إلى حيث تستريح هناك، أيّتها العين السّاهرة على بؤسنا، هناك، حيث تطلّ على فتوحاتنا المنعوتة مجازا ب(الثقافية) و تضحك في السّرّ ممّا يحدث و يجري، رغم أن رسالتي إليك هذه المرة كما قلت، لا تأتي فقط من الحاجة إلى إحاطتك بما يقع، أنت العارف بخبايا الأمور و كواليسها و دهاليزها المعتمة، و لا من حاجتنا فقط إلى إخبارك بافتقادنا إلى حضورك الخرافيّ الذي كان يمنح المدينة بُعد الأسطورة الذي تستحقّه، و لا لأننا خبرنا جيّدا نفق الثّقافة الأسود و تلك الصفقات الفاوستية التي تعقد في البارات و الحانات، و إنما تأتي أيضا لأنّني اليوم و أكثر من وقت آخر، أستطيع أن أستشفّ مدى القهر الذي عانيت منه، ليس فقط لتواجدك في محيط موبوء كهذا و إنما لافتقادك أيضا لأعداء كبار، كأن قدر هذه المدينة أن لا تولمنا سوى المتسلّقين و الفاشلين و أرباع الكتبة و صغار الأعداء الذين لا يتقنون سوى النّميمة و الطّعن من الظّهر، أكتب إليك اليوم إذن، لأنني أستطيع أن أستشف قهرك... حزنك... نزيفك... و حاجتك الفاجعة إلى أعداء كبار!!
أعرف قد يتشعّب معك الحديث و يتفرع و يذهب في سياقات غير التي أريد أن أخوض فيها، لكنني أجد من الضّروريّ أن أخبرك أيضا، أننا و منذ أربع سنوات و نحن نتخبط في هذا الوضع الثّقافيّ بالمدينة، منذ أربع سنوات و نحن أمام هذا اللّغط نتوازى و لا نتماس، تماما كما علّمتنا:خارج التّكتّل و التّحزّب و التّخندق في هذا المستنقع أو ذاك، منذ أربع سنوات و نحن نبحث بإصرار الأنبياء عن نقطة ضوء صغيرةhellip; بصيص أمل فالت نستطيع أن نبدأ معه مشوار الرّكض في الأفق الصّحيح، لكن ماذا يمكن للمرء أن يحصد في أفق مشحون بالألغام و المنعرجات القاتلة!؟ ماذا يمكن له سوى أن يخاصم العالم و يدخل في حرب ضدّ ما يقع، الشهادة الزور و التواطؤ مع التّيار السّائد و الحكمة القائلة بإبقاء الوضع على ما هو عليه، ترف لا يعنيني بالمرّة.
ما معنى أن نشاهد مزبلة الثّقافة و نصفّق؟!
ما معنى أن نرى بورنو الأدب و نطبّل!؟
بالنّسبة لي، كان الأمر واضحا منذ أوّل خطوة مشيتها في هذا الطّريق/طريقك، منذ أوّل صرخة رفض أطلقتها في الأفضية التي حدّدتَ أبعادها أنت و التي لم أتردّد في التّحليق بها دونما أيّ تفكير في حسابات الرّبح و الخسارة و دون أن أعبأ بالمقاطعة و التضييق و الدّسائس المكشوفة التي كنت واعيا بها منذ أن اخترت أن أتحرّك في الأفق الذي خلقته أنت و أبدعته أنت، كلمة كلمة و معركة رابحة إثر أخرى، الأفق الأصفى و الأعمق و البعيد عن أيّ توازنات بئيسة، ذلك أنّني ومنذ أن وعيت على نصّك، أدركت أنّ الأدب الخالد هو ما يكتب دائما خارج التّحزب و التّمأسس و التّراتبية التي تفرضها قوانين دّاخلية لمؤسّسات ثقافية تنخرها البيروقراطية و تديرها قبضات الحديد و كاريزما الزّعماء!!
أعرف... قد تستغرب أن أذكر لك تفاصيل ما يحدث، أنت الرّاقد هناك تراقب المشهد وتضحك على سيرك الثّقافة الذي صارت تتخبط فيه المدينة، سيرك الثقافة الذي يجرّنا بالضّرورة إلى طرح هكذا سؤال:(من يكتب اليوم في طنجة؟)، سؤال يبقى بالنّسبة لي جوهريا رغم أنّني أعرف أنه قد يغضب (الكبار)، المتكالبين على كرسيّ الزّعامة الأدبيّة اليوم و المطمئنين إلى تحالفاتهم المكشوفة مع مهندسي المشهد الثّقافي في العالم عبر المراكز الثّقافية الأجنبيّة المبثوثة في المدينة، سؤال قد يبدوا جزافيّا لكنه بالنسبة لي يكشف عن ضحالة المشهد و فساده والذي بتأمّلنا له ندرك على التّو أنّه: (لا يكتب اليوم في طنجة سوى الهباء)، من يستطيع هنا ادّعاء الكتابة بالمعنى العميق؟!
بالمعنى المغيّر و الرّافض و الغاضب و القادر على قلب الموازين و تحطيم الطّاولات على رؤوس الجبناء.
صدّقني... لا يكتب في طنجة اليوم، سوى الهباء...
المسرح هنا يحترق... يحترق و ينهار على رؤوس الكلّ، و الجميع يصفّق و يهلّل لهذه المهزلة التي تثقب أيامنا و تشوّهنا حدّ المسخ.
لا أريد أن أطيل عليك أكثر، لكن دعني قبل أن أنهي هذه الرسالة أن أحيّي كتّاب طنجة الشّباب، طلائع الحبر الغاضب و الرّافض و الفاضح و النّبيل، دعني أحيّي الزمرة التي تكتب من عنق الزّجاج و لا ترضخ للمساومة و لا لليأس و الإنكسار، جيل الثقافة البديلة و اللاّءات المشهرة في وجه المتواطئين، خوارج الأدب و منشقّيه، دعني أحيّي هؤلاء و أعتذر إن كنت بهذه الرسالة قد أحييت فيك شجونا و جراحا قديمة، لكن ماذا نصنع عندما ينعدم من نكاشف و نصارح؟ عندما نعجز عن العثور على أصدقاء كبار و على أعداء كبار في مستوى التّحديات و الرّهانات اللاّمتناهية التي يتيحها لنا الأفق العظيم للأدب، هذا اليتيم الذي يلبس كلّ مساء قبقابه الخشن و يطوف المدينة بحثا عنك، قبل أن يعود إلى زاويتك الأثيرة في بار البريد، كي يشرب نخبك بيقين أنّك الوحيد الذي له مقدرة المنادمة حدّ الموت!!
لن أطيل أكثر، لكن دعني أرفع قبّعتي و أنحني لك أيّها الشحرور الأبيض...
يا صديقنا...
يا عدوّنا الكبير...!!