عواد علي: لا ينافس شكسبير، في شغف المسرحيين العرب بعوالمه الدرامية، إلاّ لوركا، فلا يكاد يمر عام من دون أن يقدّم أحد المخرجين، في المشرق العربي أو مغربه، تجربةً إخراجيةً لنص أو quot;خلطةquot; من نصوصه، وخاصةً (بيت برنارد ألبا، عرس الدم، ويرما) برؤية جديدة، ومقاربة إسقاطية تلامس، بالإيحاء، قضايا سياسية واجتماعية لها حضور طاغ في واقعنا العربي. ومرد هذا الشغف، في اعتقادي، هو انفتاح نصوصه على الثيمات الإنسانية الخالدة، وارتفاعها من سياقها المحلي إلى أفق كوني، وتميز شخصياته المأساوية بالرهافة والحيوية العالية والمشاعر الحادة والقسوة والهيجان، في مواجهتها للاستبداد، وتمردها على القيود والمواضعات المغلقة أو المسورة، وتوقها إلى الحرية، وإشباع رغباتها المكبوتة، فضلاً عن تماسكها الدرامي وشاعريتها الآخاذة، مما يجعلها فضاءً ثرياً للتأويل، والمغامرة الجمالية، وإثارة الأسئلة حول كل ما يملأ حياتنا بالعتمة، ويدفعها إلى الهاوية.
في المسرح العراقي، الذي اطلعت على تجاربه أكثر من اطلاعي على غيرها من التجارب المسرحية العربية، كان، ولا يزال، نص لوركا المشتعل (بيت برنارد ألبا)، كما يسميه جواد الأسدي، هو الأقرب إلى أذهان المخرجين وقلوبهم من نصوصه الأخرى، بسبب الاستبداد السياسي الثقيل الذي ما انفك يهيمن على حياة العراقيين منذ جلجامش حتى الآن. وكانت تجربة سامي عبد الحميد في إخراج هذا النص لفرقة المسرح الفني الحديث، عام 1979، هي التجربة الرائدة. وقد شكّلت في حينها مغامرةً جريئةً، على الصعيدين الفني والدلالي، تميزت بشكل إخراجي جديد، وأداء تمثيلي رفيع المستوى، وسينوغرافيا رمزية، ولكن مباشرة، تمثلّت بتحويل البيت إلى قفص حديدي كبير وسط قاعة مسرح بغداد، دلالةً على السجن، تتنازع في داخله الشخصيات المكبوتة كحيوانات متوحشة. وبعد ثمانية عشر عاماً على تلك التجربة أقدمت عواطف نعيم، التي أدت احدى الشخصيات فيها، على تعريق هذا النص وتكييفه وإخراجه، شاحنةً إياه بهموم جوهرية كان يعيشها المجتمع العراقي في تسعينات القرن الماضي، في مقدمتها الخراب الذي آل إليه من جراء حربين مدمرتين، وحصار شامل طال كل صغيرة وكبيرة في نسيجه الاجتماعي.
يعيد جواد الأسدي، في تجربته الأخيرة (نساء السكسو..فون)، إعادة كتابة النص وإخراجه في مسرحه الخاص (مسرح بابل) ببيروت، ناقلاً أحداثه من بيت محكوم بالاستبداد في قرية إسبانية إلى بيت لبناني مسكون بالاحتقان والكراهية والنزاعات، بسبب الاستبداد أيضاً، مع الإبقاء على الأسماء الأصلية للشخصيات، بعد اختزلها إلى خمس نساء فقط هن: الأم برناردا، وابنتيها أديلا، وماجدولينا، الخادمة لابونتيا، والجدة.
وكما حملت مقاربة عواطف نعيم للنص مستويين، أو بنيتين هما: بنية الحضور، وبنية الغياب، فإن إعادة إنتاج جواد الأسدي له، إنتاجاً أقرب إلى التأليف منه إلى التكييف، تحمل أيضاً بنيتين مماثلتين، ولكنهما مختلفتان تماماً في منحاهما طبقاً لرؤيته ومنهجه المتفردين في الكتابة والإخراج. في بنية الحضور، وهي المستوى الظاهر، يبدأ العرض المسرحي بمشهد افتتاحي ترمي فيه النساء الخمس الورود على قبر الأب، وتُتلى عليه تراتيل شبه كنسية، لا تخلو من السخرية العابثة، التي تبذر أولى بذور مشاكسة أفق انتظار المتلقي وتصوراته عن التراجيديا، ثم يلي ذلك مشهد سباق جنوني محموم، شديد الجلبة، في عمق الخشبة بين ابنتي برناردا وخادمتها لتنظيف جدران البيت، إشارةً إلى رغبتهن المجنونة في طي صفحة قاتمة من حياتهن، وفتح صفة جديدة مع موت الأب، الذي سيتيح لهن فرصة الخلاص من كابوس عنوستهن، وتحطيم عالمهن الأنثوي المغلق، المسكون بالحرمان، والتطلع إلى الرجل/ الحلم الذي يمنحهن اللذة. ولكن الأم القاسية، ومغنية الأوبرا الشهيرة، التي ظلت تعاني عشر سنوات من عجز زوجها الجنسي، وابتعدت فجأةً عن عالمها الفني بسبب الحرب، ووفاة ذلك الزوج المريض، حتى أصيبت حنجرتها بما يشبه التصحر، تدفعها عقدتها إلى إصدار أمر لابنتيها بإقامة حداد طويل على الأب، وفرض العزلة عليهما بمنعهما من الخروج أو استقبال أي شخص غريب في البيت، بل حتى فتح أي نافذة تطل على العالم باسم التقاليد والأعراف الاجتماعية، وبحجة حماية شرف الأسرة وسمعتها من الخطر الخارجي. ولكي تخضعهما لنظامها الصارم تسلط عليهما الخادمة لابولين، الهاذية المغرمة بالوشاية (أدتها الممثلة المبدعة عايدا صبرا بمنتهى الظرافة، والحس الساخر، والحضور المدهش) رغم أنها أكثر منهما احساساً بالكبت الجنسي، لمراقبتهما وإحصاء أنفاسهما والتجسس على كل حركة من حركاتهما داخل البيت، تماماً مثل جهاز quot;شاشة الرصدquot;، في رواية جورج أرويل (عام 1984)، الذي وضعه الحاكم (الأخ الكبير) في بيوت رعيته ليرصد بالصوت والصورة كل ما يقومون به في حياتهم اليومية، ويلتقط كل صوت يتجاوز حد الهمسات الخافتة، وذلك باسم الدفاع عن الوطن والبروليتاريا!
إن برناردا هنا، الشخصية المركزية المهيمنة في الفعل الدرامي (التي أدتها المغنية الأوبرالية جاهدة وهبي بجدارة وحضور كبيرين)، ليست علامة امارية تحيل على الاستبداد والتعسف فقط، بل على الكذب والرياء والنفاق أيضاً، فهي تتظاهر أمام ابنتيها بأنها متألمة لموت زوجها، وحريصة جداً على تعظيم ذكراه، وإطالة أمد الحداد عليه بارتداء السواد وفرض العزلة القهرية على الجميع في البيت، وحين تجد متنفساً للبوح بمشاعرها نراها تلعنه وتفضح ماضيه المخزي معها (اغتصابه الوحشي لها في مراهقتها قبل زواجهما)، وتكشف عن كراهيتها له، وتحررها من عبوديته وجسده المعطل، وخيانته أيضاً. وفي لحظات الصفاء مع نفسها، أو حينما تداعب الخادمة غرائزها وتتملق لها لا تخفي ظماها الجنسي، ورغبتها في تحطيم الحواجز التي اختلقتها. إنها نموذج لشخصية مركبة ومراوغة، بالمعنى السيميائي، تجمع بين نقائض عديدة، وتقول شيئاً وتضمر شيئأ آخر، وتنزع إلى ممارسة الاستبداد، وارتداء قناع الجلاد، بعد موت الجلاد الحقيقي، تعبيراً عن رغبة مدفونة في لا وعيها للتخلص من صورة الضحية التي لازمتها سنيناً طويلةً، أو كنوع من التعويض عن القمع الذي مارسه عليها زوجها.
وأزاء هذا الكابوس الخانق، والقسوة الشديدة، والجو المحتقن يطلق جواد الأسدي العنان لكل ما يعتمل في داخله من غضب وسخط ومرارة وحس تهكمي لتهشيم المواضعات والزيف والحشمة الكاذبة، دافعاً شخصيات المسرحية، بمهارة المخرج الحاذق، إلى الكشف عن المستور، أو المسكوت عنه من نوازع البغضاء والحقد والخبث، والغرائز الشبقية، والغليان، والجموح الايروتيكي، فها هي البنت الصغرى ماجدولينا (التي مثلتها نادين جمعة بحس انفعالي ممزوج بالفجيعة) تتصنع الحرص على سمعة الأسرة، وتكره أختها أديلا وتناصبها عداءً غريباً، وتختلق صراعاً محتدماً معها، وتثور ثائرتها عليها لأنها تمردت على التابو، وخرقت العرف، بل أصبحت quot;قحبةٌquot;، حسب تعبيرها، بممارستها الجنس مع أي عابر سبيل، أو quot;سريرquot;، كما تسقط الكلمة سهواً عن لسان أديلا! وتقع في غرام عازف ساكسفون. ولكن ماجدولينا تتضح على حقيقتها في المشاهد اللاحقة حينما تُجن، فتعترف بأنها هي التي قتلت أباها بدسها كمية حبوب كبيرة في فمه، انتقاماً منه لمحاولته اغتصابها ذات يوم، وأنها لاتقل عن اختها امتثالاً لرغبات جسدها، وقرفاً واشمئزازاً من الجو الذي فرضته دكتاتورية الأم، في حين تظهر أديلا (التي مثلتها إيفون هاشم بتركيز شديد على الأداء الجسدي) امراةً قُدّت من شبق وشهوة، فلا تبالي بشيء اسمه العرف والعيب، ولا تفهم معنى كلمة quot;شرفquot;، وتتلذذ بالحديث عن مغامراتها الجنسية، ولا تتردد في التغزل بذكورة الحصان، وتخلع ثياب الحداد لترتدي فساتين ملونة تكشف عن مفاتن جسدها، وتستعمل مكياجاً صارخاً، وتحتسي الكحول بشراهة، متحديةً سطوة أمها ونواهيها الصارمة. وتلك الجدة العجوز، المتصابية الخرقاء، التي تذكرنا بعجائز ماركيز، تعيش على فتات الماضي لتعوض عن جفافها ، وتهلوس في تعليقاتها، وتسهم بين حين وآخر في فضح سلوك برناردا، وتتعاطف مع أديلا في توقها المحموم إلى اللذة الجنسية، وتطرب لحكايتها مع عشيقها في الاسطبل، ووصفها لذكورة الحصان لأنها تثير غريزتها، وتبعث في نفسها حنيناً إلى أحضان الرجل، وحسرةً على شبابها الضائع، وهي أيضاً جزء من المناخ العام للبيت الآيل للخراب. وقد برع الممثل رفعت طربية، بأدائه المتقن، في تقمص شخصيتها، وتحبيبها إلى المتلقي، وحافظ على وتيرة إيقاعها، وصورتها الملتبسة، الغريبة الأطوار، التائهة بين هويتين: هوية الأنثى وهوية الذكر، طوال العرض.
يزيح جواد الأسدي، في عرضه المبهر هذا، الغطاء عن الكثير من الأسئلة المطمورة، مثلما تزيح النسوة المرتبكات والممزقات ستارة النايلون الشفافة، التي ترمز إلى غشاء البكارة حيناً، وإلى جدار السجن، وحاجز الفصل عن العالم حيناً آخر، ليظهر خلفها أثاث كئيب (بضعة كراسٍ، ومائدة طعام، يوظفها العرض لأغراض أخرى أيضاً،). يزيح الأسدي تلك الأسئلة من خلال نفاذه إلى أعماق النسوة، والإمساك بهواجسهن ورغباتهن وتناقضاتهن، وتفجيرها في بنى مشهدية (حركية وتشكيلية وإيمائية) مؤسلبة وساخنة، وحوارية عنيفة وصادمة، وألفاظ جارحة قد تخدش الحياء الاجتماعي في المسرح، وتنتهك السياق المألوف للتلقي الذي اعتاد عليه المتفرج، رغم أنها شائعة في الحياة اليومية، وكذلك في الخطاب السردي، مثل لفظة quot;الخرهquot; التي تتكرر على لسان الخادمة، ولفظة quot;قحبةquot; التي تنعت بها ماجدولينا أختها أديلا، ولفظة quot;مضاجعةquot; واشتقاقاتها التي ترد على لسان الأم وابنتها الصغرى، ناهيك عن كثير من الألفاظ والاستعارات الأخرى التي توحي إلى الجنس أيضاً. ولكن ينبغي التوكيد هنا أن هذه الألفاظ لم تكن مبتذلةً، أو تهدف إلى الإثارة الرخيصة، بل جاءت في سياق تعبير الشخصيات عن مواقفها ومشاعرها الصادقة الجريئة، وتبرمها من واقعها المرير.
تلك هي بنية الحضور في عرض (نساء السكسو..فون)، أما بنية الغياب فيه فإنها تتمثّل بمستواه الآخر غير الظاهر، مستواه الاستعاري الرمزي الذي يوحي إلى قضية أكبر من قضية خراب أسرة وبيت دمره استبداد الأم وأخطاء الماضي، إنها، كما تشير جملة قرائن في نص لوركا ونص جواد الأسدي ومقاربته الإخراجية، قضية وطن تنخر جسده الصراعات والاحتقانات، ويستبد بأهله القلق والخوف، ويكتنف مصيره الغموض، ويفتقر أصحاب القرار فيه إلى لغة الحوار الوطني الدافئ والتفاهم العقلاني.
لقد قُرأ بيت برنارد ألبا في نص لوركا بوصفه اختزالاً لاسبانيا الوطن زمن الديكتاتورية الفرنكوية، أما في نص الأسدي فقد أصبح اختزالاً للبنان الوطن، الذي quot;ينزلق الى الهاويةquot;، حيث يقع الخراب في بيت بيروتي مهزوز، ويجري جزء كبير من الحوار بالعامية اللبنانية (المدينية والقروية)، وهي تكشف عن هوية الشخصيات المغايرة للهوية التي تشير إليها أسماؤها، وربما أزياؤها (التي صممها الفنان جبر علوان برؤية تشكيلية تتناغم وتجربته اللونية في الرسم، وتجمع بين سياقين مرجعيين من الإيحاء البيئي). كما أنه، أي نص العرض، يلمّح إلى العراق، الذي تحول إلى حطب في فرن الاحتلال والميلشيات الإرهابية والأحزاب الطائفية، من خلال المزاوجة بين الفلامنكو والطقوس الكربلائية، وعبر قصديدة تغنيها برناردا تتحدث عن quot;مدن محروقة تفوح منها رائحة الموت، وبيوت مهدّمة، ومرايا مهشّمةquot;، وعن quot;آلاف الثيران المسلّحين يجرّون البلدة من قميصهاquot;، وتتألم لعدم وجود quot;هواء نظيف يطهّر الحدائق، ولا مطر يغسل الحقولquot;. هذه القصيدة هي شبح عراق يحترق، وهو quot;معتقل في دائرة ضيّقة لا تتسع لأحلامهquot;، ومنها ينبثق سؤال جواد الأسدي: quot;ماذا سيحصل لبيروت وأهلها الذين يمشون في الشارع تحت ضغط جريمة متوقعة في أية لحظة؟quot;.
[email protected]