quot;حالة حصارquot;... آخر قصيدة لمحمود درويش نشرها في مجلة الكرمل هنا، عند مُنْحَدَرات التلال، أمام الغروب وفُوَّهَة الوقت، بلادٌ علي أُهْبَةِ الفجر. صرنا أَقلَّ ذكاءً، هنا، بعد أَشعار أَيّوبَ لم ننتظر أَحداً... هنا، لا أَنا في الحصار، تكونُ الحياةُ هِيَ الوقتُ هنا، عند مُرْتَفَعات الدُخان، علي دَرَج البيت، الألمْ يقيسُ الجنودُ المسافةَ بين الوجود وبين العَدَمْ نَجِدُ الوقتَ للتسليةْ: كُلَّما جاءني الأمسُ، قلت له: أُفكِّر، من دون جدوي: عندما تختفي الطائراتُ تطيرُ الحماماتُ، الوميضُ، البصيرةُ، والبرقُ غ إلي ناقدٍ: ف لا تُفسِّر كلامي شَجَرُ السرو، خلف الجنود، مآذنُ تحمي نحبُّ الحياةَ غداً قال لي كاتبٌ ساخرٌ: غإلي قاتلٍ:ف لو تأمَّلْتَ وَجْهَ الضحيّةْ غإلي قاتلٍ آخر:ف لو تَرَكْتَ الجنينَ ثلاثين يوماً، لم تكن هذه القافيةْ الضبابُ ظلامٌ، ظلامٌ كثيفُ البياض الحصارُ هُوَ الانتظار وَحيدونَ، نحن وحيدون حتي الثُمالةِ لنا اخوةٌ خلف هذا المدي. خسائرُنا: من شهيدين حتي ثمانيةٍ كُلَّ يومٍ. في الطريق المُضَاء بقنديل منفي قالت امرأة للسحابة: غطِّي حبيبي إذا لم تَكُنْ مَطَراً يا حبيبي أيَّها الساهرون ! أَلم تتعبوا |
بعد أن رسم ملامح أيامه الأخيرة والتقى المتنبي والمعري
محمود درويش يغمض عينيه .. ويعود إلى quot;خبز أمهquot;
كتب ـ نبيل شرف الدين: عن عمر يناهز 67 عاماً، وبعد رحلة مضنية بين منافي الشرق والغرب، وعشرات الأحلام المبتسرة والأمنيات المستحيلة، وضع أجمل شباب فلسطين ـ كما وصفه أبو مازن ـ رأسه على وسادة ونام .. ربما ذهب للقاء أمه، ربما قاده الحنين إلى خبزها وقهوتها، ربما أصابه الملل واليأس من توحش عصابات المتأسلمين في غزة، ومزاعمهم الباطلة عن امتلاك الحقيقة المطلقة .. وربما أدركه الإحباط وهو يرى بأم عينيه البندقية الفلسطينية ترفع في وجوه الفلسطينيين، وكيف يصدرون بعدها بقلوب باردة quot;بيانات النصرquot; المزعوم على عائلة فلسطينية، ربما .. وربما ..لكن المؤكد أن محمود درويش، خضع صباح الأربعاء الماضي لجراحة quot;قلب مفتوحquot;، في مستشفى quot;ميموريال هيرمانquot; الأميركي، في هيوستن بولاية تكساس الأميركية، وبعد أيام شعر بالضجر من كل هذا العبث الذي يحاصرنا، ففر إلى حضن أمه، وخبز أمه ، وقهوة أمه ..
ودرويش هو الابن الثاني لأسرة من أربعة أشقاء وثلاث شقيقات, فقدت أسرته كل شئ، لكن ماذا كان يمتلك والده الفلاح البسيط سوى منزلاً متواضعاً، وقطعة أرض صغيرة يزرعها تيناً وزيتونا ومحبة وآمالاً، يقول درويش: quot;اختار جدي العيش فوق تله تطل على أرضه، والى أن توفي، ظل يراقب المهاجرين اليهود يعيشون في أرضه التي لم يكن قادراً على زيارتهاquot; .
وشأن كل كبار الشعراء الذين يستشرفون نهاياتهم، وفي كتابه quot;جداريةquot;، تحدث درويش عن الموت وصراعه معه قائلاً : quot;لم يعد الموت يخيفني، بل صرت أصارعه لأنني أحكي عن تاريخ مصارعتي معه أثناء عملية جراحية، استعيد تاريخ مصارعتي أنا، لكن تنتهي المسألة إلى صداقة ووضع اتفاقيات كيف يكون شهماً وفارساً، ولا يكون غادرا، لأنه أقوى من ان يكون جباناً، فيأتي بهذه الطريقة كاللصوصquot; .
وتحدث درويش عن اكتشافه للموت وكأنه أمر يدعو للراحة والسعادة وحتى البهجة قائلاً : quot;لم يعد الموت مسألة تخيفني بتاتا، لأنه اذا كان الموت مثل هذا النوم، فهو ليس مشكلة، وخصوصا أنني مررت بتجربة سابقة عام 1984 عندما تعرضت لموت سريري، وقتها كنت أرى نفسي نائما وسابحا على غيوم بيضاءquot;.
الشاعر والمنافي
وفي السيرة الذاتية فقد ولد درويش عام 1941 في قرية quot;البروةquot; بقضاء عكا، وهي القرية التي دمرت عن بكرة أبيها عام 1948، ليهاجر مع عائلته الى لبنان قبل ان تعود العائلة وتعيش في الجليل، وأجبر درويش على مغادرة البلاد بعد ان اعتقل عدة مرات ثم عاد بعد التوقيع على اتفاقيات السلام ..
وفي العام 1961 انضم درويش إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، المعروف باسم quot;راكاحquot;، حيث اختلط العرب واليهود في حلم أممي يطمح للتعايش وتغيير العالم بالكلمة والقبلة والأنغام، ومع كل ذلك فحين خضع الفلسطينيون في إسرائيل لقانون الطوارئ العسكري واحتاجوا تصاريح للسفر داخل البلد، بين سنة 1961 وسنة 1969، سجن درويش عدة مرات، بتهمة مغادرته حيفا دون تصريح .
وخلال الفترة من عام 1973 حتى عام 1982 عاش درويش في بيروت, رئيس تحرير مجلة quot;شؤون فلسطينيةquot;، ثم مديراً لمركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية قبل أن يؤسس مجلة quot;الكرملquot; عام 1981, لكنه اضطر لمغادرة بيروت عام 1982 بعد أن اندلعت الحرب هناك، ومن يومها تجول درويش بين المنافي، من دمشق إلى القاهرة ومن تونس إلى باريس ..
المتنبي والمعري
عشق درويش عشرات المرات، وربطته علاقة عاطفية حميمة مع مجندة إسرائيلية، كانت بطلة واحدة من أجمل قصائده وهي quot;ريتا والبندقيةquot; التي يقول فيها:
بين ريتا وعيوني بندقية..
والذي يعرف ريتا ينحني ويصلي..
لإله في العيون العسلية
وتزوج درويش مرتين، الأولى من رنا قباني، ابنة شقيق الشاعر الكبير نزار قباني، ولم يدم زواجهما أكثر من ثلاثة أعوام، بعدها تزوج من مثقفة مصرية اسمها quot;حياةquot;، وبعد سنوات انفصلا بمودة وإحسان، وبعدها عاود ممارسة الوحدة، وظل وحيداً حتى عاد إلى خبز أمه، وقهوة أمه ..
وعن استشرافه للموت مبكراً، يروي محمود درويش قصة عملية جراحية سابقة كانت قد أجريت له، وما حصل قبلها وخلالها وبعدها من ملابسات انسانية، قائلاً: quot;في عام 1998 كنت في بلجيكا، أعطوني شهادة دكتوراه فخرية من جامعة هناك، وعرجت على باريس لإجراء فحوص طبية، قرر الطبيب إجراء جراحة عاجلة، فتحمست لاجرائها، لم أتردد أبدا رغم انه قال لي إنها خطيرة، لكن طبيب القلب اعترض على إجرائها لأن قلبي لا يتحمل، وبعد نقاش اتفق الطبيبان على القيام بها، إنها مغامرة، ومع ذلك دخلت غرفة التخدير، وكانت آخر كلمة سمعتها من الطبيب quot;نلتقيquot; وبعدها نمت في سلامquot; .
يواصل درويش : quot;لا أعرف ماذا جرى لي، لكن بعد الصحو قيل لي إنني مررت بخطر الموت الحتمي، بل حتى جرى البحث في ترتيب جنازة، لكني كنت غائبا، هذا لم يكن عذابي ولا المي، كان عذاب اصدقائي، هم الذين كانوا يعذبهم هذا الموت، اما انا فكنت نائما، لكن بعد ان صحوت وعرفت ما حدث لي quot;كانوا اناموني نحو أربعة ايام تنويما اصطناعياquot; صرت احس بهلوسات، وهذيانquot; .
ويمضي قائلاً : كنت مقتنعا بأنني لست في مستشفى، بل في قبو سجن، وبأن سجاني يعذبونني في كل يوم، ومرة زارني الياس خوري، دخل غرفتي في جناح العناية الفائقة، وتناقشت معه عن روايته بوعي كامل، ثم طلبت منه ان يهربني من السجانين الذين يضربونني، فإذا كنت في لحظة ما في كامل صحوي، وفي لحظة اخرى تحت الهلوسة نتيجة البنج، دخلت في عوالم قاسية جدا، واستحدث ذكريات بعيدة جداً، ورأيت مشاهد عجيبة، مثلا رأيت نفسي قاعدا مع رينيه شار، ورأيت المتنبي والمعري، فاختلطت الأزمنة والأمكنة، وكنت على يقين بأن ما أراه هو الواقع وليست مجرد خيالات، بل إن أصدقائي خافوا علي، قالوا ربما أصبت بالجنون، وخصوصا انني دخلت في خوف عميق من أنني نسيت اللغة العربية .
حكاية من فلسطين
ويعد درويش واحدا من أهم الشعراء العرب المعاصرين الذين امتزج شعرهم بحب الوطن والحبيبة وترجمت أعماله الى ما يقرب من 22 لغة وحصل على العديد من الجوائز العالمية، منها: جائزة لوتس عام 1969، وجائزة البحر المتوسط عام 1980..ودرع الثورة الفلسطينية عام 1981 لوحة أوروبا للشعر عام 1981، وجائزة ابن سينا في الاتحاد السوفيتي عام 1982وجائزة لينين في الاتحاد السوفييتي عام 1983.
ويحظى الفقيد الكبير بمنزلة كبيرة لدى كافة الساسة الفلسطينيين من مختلف التوجهات، خاصة الرئيس الراحل ياسر عرفات . وكتب درويش مئات القصائد، وكان من بين شعراء قلائل يحظون بشعبية جارفة تنافس المطربين، يمكن للمرء أن يلحظها في ندواته الشعرية التي كانت تغص بآلاف الحاضرين من الشباب، وما نسيت لن أنسى آخر أمسياته في الجامعة الأميركية بالقاهرة .. التي شدا فيها إحدى قصائده القديمة قائلاً :
مثلما سار المسيح علي البحيرة،
سرت في رؤياي، لكني نزلت عن الصليب
لأنني أخشي العلو، ولا ابشر بالقيامة
لم اغير غير ايقاعي لأسمع صوت قلبي واضحا
للملحميين النسور ولي انا: طوق الحمامة
نجمة مهجورة فوق السطوح
وشارع متعرج يفضي الي ميناء عكا ـ ليس اكثر او اقل ـ
أريد أن ألقي تحيات الصباح علي حيث تركتني
ولدا سعيدا لم اكن ولدا سعيد الحظ يومئذ،
ولكن المسافة، مثل حدادين ممتازين،
تصنع من حديد تافه قمراً
..
وداعاً يا درويش ..
التعليقات