أو التفاعل المفتوح بين المحلي والعالمي


إيهاب حسن / ترجمة: محمد سمير عبد السلام


1. مقدمة المترجم
يصف إيهاب حسن في هذا المقال، تحولات اللحظة الحضارية الراهنة، انطلاقا من صيرورة سياق ما بعد الحداثة، وقد تجاوزت نفسها كظاهرة في الهندسة المعمارية، والأدب، والفلسفة، والفنون منذ الستينيات، فيما يعرف بظاهرة ما بعد الحداثية. وينطلق إيهاب حسن من خاصية انعدام الحدود الواضحة فيما بعد الحداثة كما بدأ بوصفها مع آخرين منذ أكثر من ثلاثين عاما، ليبدأ بوصف التناقضات، وأسئلة الهوية المحلية، والعالمية، واللغة التفاعلية الجديدة بين المحلي والعالمي على الإنترنت، ومن ثم فهو يتوقع لسياق التفاعل المفتوح أن يعيد التساؤلات الحضارية القديمة والمتجددة، حول الهوية الثقافية، حيث يسهب في شرح أصولها البيولوجية، والقبلية القديمة، ليصل إلى امكانية انفتاح الحدود بين الثقافات، والأفكار في تفاعلية إبداعية تجمع بين المحلي، والعالمي، وتتجاوز وحشية القوة المؤكدة للأنا في مقابل الآخر.
ويعد هذا المقال بيانا ينتقل فيه إيهاب حسن من تكرار ظهور شبح الظاهرة ما بعد الحداثية، والتحقق التأويلي التاريخي المتجاوز لما بعد الحداثة، وفيه تتحرر نقاط التفاعل، من حدود التميز القديمة التي بدأت تتسلل لظاهرة ما بعد الحداثة، إذ يشترك الجميع بوعي أو بغير وعي في معايشة التحول الراهن لسياق ما بعد الحداثة. ويختلف وصف إيهاب حسن للسياق الثقافي / التاريخي الجديد عن غيره من المفكرين والنقاد الذين ترتكز رؤاهم حول علامات فارقة في الحقبة الراهنة بين ما بعد الحداثة، وما يتجاوزها، فهم يضعون ظواهر جمالية، وثقافية جديدة، أو يتحدثون عن عودة جديدة للحداثة التكنولوجية، لكنه يجعل من تحول سياق ما بعد الحداثة مجالا مفتوحا للتفاعلية، دون وضع لحدود أخرى.
وتتميز كتابة إيهاب حسن بتأكيد تعددية الهوية، والجمع بين المجاز ـ مثل شبح ما بعد الحداثة ـ والسياق الثقافي، أو التاريخي، أو ما يدعى بالحقيقي، كما يعيد تركيب بعض المصطلحات بشكل إبداعي، مثل كلمة Glocal التي تجمع المحلي والعالمي معا. إن الشبح يتجانس مع خاصية انعدام التحديد التي يؤكدها حسن من بداية البيان إلى نهايته، وأرى أنه همزة اتصال خفية بين ظاهرة ما بعد الحداثية، والسياق التفاعلي الجديد بين الثقافات والأفكار، حيث يميل الآن إلى تجسد غير واع من داخل تكراره الملح في السابق، ومعاينته لأفول يحتمل بدايات جديدة.
كما تتداخل في كتابة إيهاب حسن الأخيلة السردية المولدة عن الأعمال الأدبية، ومظاهرها الواقعية على الخريطة دون انفصال، أما اللغة التفاعلية التي يقترحها تتجاوز تأكيد الأنا لإدخاله في الروح الكونية، ومن ثم نجد الأدب حاضرا في الجغرافيا السياسية، والنسيج الكوني معا. ولي ثلاث تعليقات على بيان إيهاب حسن:
الأول: عندما وصلت نزعة الشك، واللامبالاة واللعب السوداوي، في الفن إلى الحدود القصوى بدأ إيهاب حسن يتحدث عن نهاية هذه النزعة، واستبدالها بشيء من التصديق تنفتح فيه الحدود، ولكن من داخل سياق التفاعل الجديد يمكن لهذه النزعات أن تعود بصور جزئية، وممزوجة بعناصر تاريخية، وفنية أخرى.
الثاني: خصص حسن جزءا من البيان حول علاقة ما بعد الحداثية، بالبراجماتية الأمريكية، ولم يتطرق للآلية السلوكية التي ميزت فكر بعض روادها مثل بيرس وديوي وسكنر، حيث يرتكز حسن على الأداء المتجاوز للقضايا العقلانية الكبرى، وهنا تبدو نقطة اللقاء، والتداخل، وتصير احتمالا مضافا لما بعد الحداثة يدفع بها إلى ما يتجاوزها، دون أن تكون عنصرا تكوينيا، فاللغة التفاعلية التي تبدأ من نبذ التمركز حول القوة الذاتية تنفتح أدائيا، في مجال النصوص، والجغرافيا، والعناصر الكونية لتتلاشى النزعات الحتمية، أو تتحول إلى فضاء أكثر اتساعا هو فضاء تجاوز ما بعد الحداثية.
الثالث: مثلما يفكك إيهاب حسن العنصر الزمني المتضمن في تعبير ما بعد الحداثية، بما يتجاوز التاريخية، فإنه يحرص ضمن السياق الجديد أن يفكك أحادية الهويات الثقافية بما تتضمنه من احتمالات الآخر بداخلها.
2. مقال إيهاب حسن
أولا: ماذا كانت ما بعد الحداثة، وماذا تمثل الآن؟
أعتقد أن ما بعد الحداثة صارت الآن شبحا، أو عودة لمدلول منفلت من الحدود، وكلما نظن أننا قد تخلصنا منها، ينهض شبحها مرة أخرى، فهي تماثل هذا الشبح؛ إذ تستعصي على التعريف، أو محاولة وضعها في إطار. أعرف اليوم دونما شك ـ القليل عن ما بعد الحداثة، مقارنة بما كنت أعرف منذ أكثر من ثلاثين عاما، عندما بدأت الكتابة عنها؛ ربما لأنها قد تغيرت، مثلما تغيرت، وتغير العالم. هذا التغير يؤكد نفاذ بصيرة فريدريك نيتشه ؛ إذ يرى أنه إذا كان للفكرة تاريخ، فإنها تصير تأويلا، أو موضوعا للمراجعة، والتنقيح في المستقبل. أما الفرار من التأويل، ومن ثم إعادة التأويل، فهو مفهوم أفلاطوني، أكثر انتماء للتحليل النظري، مثل الدائرة، والمثلث، والإنسانية، والرومانسية، والواقعية، والحداثية، وما بعد الحداثية، وسوف تخضع هذه المفاهيم للتحول المستمر، خاصة في فترة صراع الأيديولوجيات، والنشاط المفرط للميديا.
ولكن أفكار ما بعد الحداثية مازالت تتردد في خطاب الهندسة المعمارية، والفنون المختلفة، والعلوم الإنسانية، وأحيانا الفيزياء، كما أنها لم تقتصر على المؤسسات الأكاديمية، بل نجدها أيضا في الخطاب الشعبي، وعوالم السياسة، والبيزنس، والميديا، وصناعات التسلية، كذلك شاعت في لغة الأساليب الشخصية للحياة ؛ مثل طريقة طهو ما بعد حداثية، ومطبخ ما بعد حداثي. والخلاصة، ليس هناك إجماع حول معنى ما بعد الحداثية. إن المصطلح، فضلا عن المفهوم ينتمي إلى ما يطلق عليه الفلاسفة الفئة المتنازع عليها جوهريا، وبلغة أبسط، إذا وضعت أهم المفكرين الذين ناقشوا المفهوم مثل ليسل فيدلز، وتشارلز جنكس، وجان فرانسوا ليوتار، وبرنارد سميث، وروزاليند كراوس، وليندا هاتشون، بالإضافة إلي، في غرفة واحدة، ثم أضفت الإرباك الملازم للمفهوم، وأغلقت الغرفة، وألقيت بالمفتاح بعيدا، لن يحدث اتفاق بين المناقشين، ولو مر على اجتماعهم أسبوع، بل ستجد خيطا من الدماء يبدو أدنى عتبة الغرفة.
دعنا لا نستسلم لليأس، فإذا كنا غير قادرين على تعريف شبح ما بعد الحداثية، أو التخلص منه، فيمكننا أن نقترب منه، أو نفاجأه من أكثر من زاوية، فربما نثيره ليدخل نطاقا جزئيا مضيئا، وخلال هذه العملية نستطيع الكشف عن عائلة من الكلمات تتجانس مع تعبير ما بعد الحداثية، وأشير هنا إلى بعض الاستخدامات الحالية للمصطلح:
1 - بعض أعمال الهندسة المعمارية، درست كأمثلة لعمارة ما بعد حداثية، مثل متحف جاجنهيم لفرانك جاري في مدينة بيلباو الأسبانية، وقصر أشتون ريجات مكدوجال في ميلبورن بأستراليا، ومركز سكيوبا لأرتا أيسوزوكي في اليابان، وأصحاب هذه الأعمال تجنبوا خشونة الزوايا الهندسية للباوهاوس، ونقاءها التجريدي، فمثلا الأطر ذات الحد الأدنى من المعدن مع الزجاج عند فان دير روه تخلط العناصر الجمالية، بالتاريخية، كما تعبث بالشظايا، وتستخدم العناصر الرديئة.
2 في كتابه الصادر مؤخرا الإيمان والنسبية، يستخدم البابا جون بول تعبير ما بعد الحداثية ؛ لإدانة النسبية المفرطة في النظر إلى القيم والمعتقدات، وكذلك النزوع إلى السخرية، والشك في العقل السببي، ومن ثم إنكار فكرة الحقيقة.
3- في مجال الدراسات الثقافية انغمس مصطلح ما بعد الحداثية بشدة في الحقل السياسي، وعادة ما يستخدم في مقابل ما بعد الكولونيالية، فقد اعتبر الأول غير مبال، وغير فعال من الناحية التاريخية، والسياسية، فهو الأسوأ لأنه لا يحمل تعديلا سياسيا.
4 في نطاق الثقافة الشعبية تشير ما بعد الحداثية، أو بو مو كما يسميها بعض المحترفين إلى مدى واسع من الظواهر، والأحداث، من أندي وارهول حتى مادونا، ولصوق الموناليزا الكبيرة، وقد شاهدت صورة العملاق لديفيد ميكلانجلو في إعلان شركة باشينكو في طوكيو، وكان من الضخامة بحيث تمر الكاميرا على كل جزء من كتفه المفتولة بمعزل عن الجزء الآخر، وكذلك شاهدته في إعلان شركة الرحلات كونتكي في نيوزلندا.
في أي شيء يشترك هؤلاء؟
حسنا يمكننا الإشارة إلى سمات مثل اختلاط الأساليب، والشظايا، والنسبية، والمحاكاة الساخرة، والقص واللصق، ومقاومة الروح الشمولية، والأيديولوجيا. ولهذا سوف نبدأ في بناء عائلة من الكلمات تتلاءم مع ما بعد الحداثية، وسوف نبدأ بإنتاج السياق، إذا لم يكن هناك من حد له، ويمكن للقارئ الذي يريد التوسع أن يراجع كتاب فكرة ما بعد الحداثية، لهانز برتنز، فهو أوسع مقدمة أعرفها عن الموضوع، لكنني الآن يجب أن أقوم بحركتي الثانية، الخدعة الثانية للاقتراب من ما بعد الحداثية من منظور مختلف.
ثانيا: ما بعد الحداثية، وما بعد الحداثة
لم أرتكز بقدر كاف في أعمالي المبكرة، على كشف الاختلاف بين ما بعد الحداثية، وما بعد الحداثة. هذا الاختلاف سيشكل النقطة الرئيسية في هذا البيان، وسوف أعود إليه بالتفصيل لاحقا. دعني أقول ببساطة في هذه اللحظة، بأنني أعني بما بعد الحداثية الإشارة إلى المجال الثقافي، خاصة الأدب، والفلسفة، والفنون المختلفة، متضمنة الهندسة المعمارية، بينما تشير ما بعد الحداثة إلى مجال الجغرافيا السياسية، وقد كانت أقل أهمية من تعبير ما بعد الكولونيالية المربك، وقد انتشر في العقود الأخيرة ؛ ليبرز نطاقي العولمة، والتموضع المحلي، ويدمجهما بأساليب غريبة.
الاختلاف هنا ليس بين بناء فوقي، وآخر تحتي كما هو في الماركسية، ذلك أن الحقول السياسية والدينية، والتقنية، والاقتصادية الجديدة يصعب أن تتلاءم مع الفكر الماركسي. ولا تستوي ما بعد الحداثة بتعبير ما بعد الكولونيالية ؛ فقد تشكل الأخير من خلال القلق إزاء الإرث الاستعماري.
يمكننا إذا التفكير فيما بعد الحداثة بوصفها عملية عالمية، لا يفترض أن تتماثل في كل مكان على الإطلاق، كما أنها ليست شاملة، ويمكن تخيلها كمظلة واسعة، تقف تحتها مجموعة من الظواهر المختلفة، مثل ما بعد الحداثية في الفنون، وما بعد البنيوية في الفلسفة، والنسوية في الخطاب الاجتماعي، ودراسات ما بعد الاستعمار، والدراسات الثقافية في الأكاديمية، وكذلك تضم الرأسمالية العالمية، وتكنولوجيا الاتصالات، والإرهاب الدولي، والاختلاط العرقي، والقومي، والحركات الدينية، كل هذه الظواهر تقع في سياق ما بعد الحداثة، دون أن تكون متضمنة فيها بشكل سببي.
ويمكننا أن نستنتج نقطتين مما سبق:
الأولى: تتواءم ما بعد الحداثية كظاهرة ثقافية مع التقنية العالية، والمستهلك، وقيادة الأجهزة الإعلامية الاجتماعية.
الثانية: تشير ما بعد الحداثة كعملية جغرافية سياسية عالمية، إلى ظاهرة كوكبية تفاعلية، يتخلل نسيجها القبلية، والإمبريالية، والأساطير، والتكنولوجيا، والهوامش، والمراكز هذه المفاهيم غير المتكافئة تخرج طاقاتها المتصارعة، في أغلب الأحيان على شبكة الإنترنت.
ذكرت من قبل أنني لم أميز بقدر كاف بين ما بعد الحداثية، وما بعد الحداثة، وللإنصاف فقد لاحظت وقتها ـ سمة داخلية في ما بعد الحداثية نفسها، تتفق مع السياق الكوكبي الجديد لما بعد الحداثة، ففي مقالي المعنون ب quot;الثقافة، وانعدام الحدود، وأصالة الهوامش في العصر ما بعد الحداثيquot; سنة 1977، صغت التعبير quot;أصالة انعدام التحديدquot; لوصف ميلين متباينين في ما بعد الحداثية، يشير الأول إلى انعدام التحديد في المجال الثقافي، والثاني إلى أصالة المجال التكنولوجي. مثل هذه الميول ذات الطابع الاختلافي تصير بديلا عن الجدلية، إذ تتغير باستمرار خارج التركيب الهيجلي، أو الماركسي. ومن ثم أعتقد أنه ليس هناك شخص ينتمي إلى سياق ما بعد الحداثة بدرجة أقل من الآخر.
تتضمن العناصر غير القابلة للتحديد مفاهيم عديدة منها ؛ النزوع إلى الانفتاح، والتجزؤ، والغموض، واللامركزية، والتعدديه، وانقطاع المتوالية الاتصالية، والهرطقة، ونقد البنية الشكلية، أو إرجاء المدلول، وسنجد أن المفهوم الأخير وحده يتضمن دستة من المصطلحات مثل التفكيكية، والإزاحة، والتفكك، والاختلاف، والاختفاء، والغياب، ومقاومة المتوالية الاتصالية، ومقاومة التعريف، والحقيقة، والنزعة الاستعمارية، والفكر الشمولي..، وبواسطة هذه العناصر، والحركات ستبطل مؤثرات التجسد السياسي، وتجسد الإدراك، والجنس الجسدي، والروح الفردية، والعالم الكامل الحقيقي في الفكر الغربي. وفي مجال الأدب وحده سوف تتغير أفكارنا جميعها، حول المؤلف، والجمهور، والقراءة، والكتابة، والكتاب، والنوع، والنظرية النقدية، والأدب نفسه. كل شيء يخضع للتساؤل، والمراجعة ؛ ليس بسبب العجز، وإنما لإعادة الإنشاء في مسارات عديدة، ومختلفة، كما أن هذه العناصر فضلا عن انعدام التحديد، والمراجعة المستمرة، ذات طبيعة تناثرية، وانتشارية، نظرا لتدفق التقنيات المعاصرة.
وهذا هو الميل الثاني فيما بعد الحداثية، وأستخدمه هنا دون أصداء أيديولوجية، لتعيين قدرة العقل على دمج نفسه في الرموز، ويتخلل هذا الميل الطبيعة، أكثر فأكثر، كما يؤدي من داخل تجريده الحاص، ويبني مشروعه الإنساني الواعي في نطاق كوني. هذا الميل العقلي يوصف بكلمات مثل الانتشار، والتناثر، والتغيير الأساسي، والتفاعل، والاتصال، وكلها مشتقة من حالة انبثاق البشر كحيوانات لغوية، أو جنس تصويري إشاري، أو مخلوقات تعيد إنشاء نفسها، برموز جعلت ملكها، ويمكننا أن نطلق عليها هرطقة نصية خارقة للمعرفة، إذ يختلط الحقيقي والقصصي، ويصير التاريخ حدثا إعلاميا، إذ تؤخذ نماذجه كوقائع يسهل الحصول عليها، أما علوم الاتصالات فتتحدانا بلغز الذكاء الاصطناعي، فكمبيوتر الأزرق العميق يتحدي كاسباروف بطل الشطرنج، كما تضع خطوط التقنية مدركاتنا الحسية على الحافة، في أبحاث الذرة، والإطار الواسع للكون معا.
تتفاوت هذه الميول ـ بلا شك من بلد لآخر؛ ففي الولايات المتحدة، واستراليا، وألمانيا، واليابان صارت ما بعد الحداثية مألوفة داخل الجامعة، وخارجها، وفي أغلب المجتمعات الكبرى نراها كظاهرة ثقافية تشير إلى ميل مضاعف لتجاوز الحدود، والأشكال الأقرب للمتاهة، والتشابك، وتعود جذورها لجيل دولوز، وغتاري. ورغم ذلك فالأرض أكثر أهمية من كوكب هوليود، أو بنك دويتش، أو ميتسوبيشي، لقد تغيرت صلة ما بعد الحداثة، بانعدام التحديد على المستوى الثقافي لما بعد الحداثية، إلي سياق جديد من صراع النزعات المحلية والعالمية، مثل الإبادات الجماعية، في البوسنة، وكوسوفو، وألستر، وروندا، والشيشان، وكردستان، وسيريلنكا، والتبت وغيرها.
في الوقت نفسه تحول الجانب الثقافي في ما بعد الحداثية، إلى التجسد في مجموعات ساخرة، وألعاب مسدودة النهايات، أو مجرد إثارة في وسائل الإعلام.
لقد أضفنا هنا بعض المصطلحات الجديدة لعائلة ما بعد الحداثية مثل أصالة عدم التحديد، والنزعة النصية، والتشابك، والتقنية، والمستهلك، والقيادة الاجتماعية للإعلام، فضلا عن مفردات أخرى ثانوية، فهل دفعنا شبح ما بعد الحداثية إلى دائرة الضوء؟ ربما نحتاج لدفعه أبعد من ذلك بسؤال آخر. ألم تكن هذه المقالة فحصا للأفكار والدوافع التاريخية؟ ألم تقترح بأن عقل ما بعد الحداثية يميل إلى الانعكاس الذاتي، كما لو كان هدفا لكتابة سيرة ذاتية ملتبسة؟

ثالثا: سيرة ذاتية ملتبسة:
نشر إيمانويل كانط في عام 1784 مقالا بعنوان quot;ما هو التنوير quot;، وقد تناوله بعض المفكرين، وبخاصة ميشيل فوكو، ليمثل المرة الأولى التي يرتد فيها الفكر إلى نفسه، فيسأل من نحن؟ من زاوية تاريخية، كما يتساءل عن معنى المعاصرة، ومن ثم يتساءل العديد منا في الوقت الحاضر، هل كنا ما بعد حداثيين؟ وبينما يخفق فوكو في ملاحظته، يمكننا أن نعيد طرح السؤال نفسه، ولكن من دون ثقة كانط في إمكانية تحقق المعرفة، وكذلك ثقته بالذات التاريخية.
من الصعوبة بمكان أن نميز ما بعد الحداثية مثلما ميز كانط تعبير التنوير؛ فهناك الشكوكيون، وأنصار التعددية، واللامركزية، ومبدعوا المحاكاة الساخرة، والأعمال المناهضة للهوية، والبراجماتيون، وغيرهم. يمكننا بدلا من محاولة التحديد، أن نراوغ حماسة المعاصرة ظاهريا، وكذلك قلق التسمية والمصطلحات التي انتشرت، وارتبطت بما بعد الحداثية مثل ما بعد الحداثية الكلاسيكية، أو العالية، أو البوب، أو بو مو، والتفكيك، وإعادة إنشاء الرؤى، والنبوءات، وبعد ما بعد الحداثية، وما قبلها. مثل هذه الكلمات الجديدة تؤدي إلى انفجار في معمل اللغة. على أي حال يمكننا أن نتخيل بصعوبة عصرا يتعذب كثيرا حول نفسه، فقط ليخترع صوتا تمثيليا لمهرج يدعى ما بعد الحداثية، ومع ذلك يمكن أن نميز ما بعد الحداثية كسؤال مستمر لفكرة التحقق الذاتي، ولا يقتصر هذا الاندفاع على ما يسمى بالغرب فقط، ولكن يشمل تفاعلات عديدة في الكرة الأرضية، فكثير من السكان يتحركون، ويتدافعون، ويتصارعون.
إنه عصر التشتت، والاختلاف، إذ تثار فيه الأسئلة الكثيرة حول الهوية الثقافية، والدينية، والشخصية، وقد يصير الإحساس بها حادا وأحيانا خادعا. وفي التحول من ما بعد الحداثية، إلى ما بعد الحداثة يمكنك أن تسمع البكاء حول العالم، مع طرح أسئلة مثل من نحن؟ ومن أنا؟
لهذا يمكننا إضافة كلمات عديدة، إلى عائلة ما بعد الحداثية، مثل المعنى التاريخي، والانعكاس الذاتي المعرفي، وقلق التعيين، والتسمية، والأعمال متبدلة الهوية، والإحساس بالمعاصرة، وتشتت الإحساس بالزمن الخطي، والدوري، والنبوئي، والحلم بالزمن. كل هذه الأوقات الرؤيوية، هناك، تصاحبها هجرات ضخمة، ومفاهيم أخرى مثل الحرية، والقوة، وأزمة الهويات الثقافية، والشخصية.
رابعا: تاريخ قصير للمصطلح:
هذه المحاولة من الإدراك الذاتي، والتي أطلقت عليها سيرة ذاتية ملتبسة لما بعد الحداثية، تبدو في التاريخ الفريد للمصطلح، فهو يسهم في توضيح المفهوم الذي نستعمله في الوقت الحالي، ولهذا يجب أن أحدد هذا التاريخ بدقة، خاصة أن كلا من تشارلز جنكس، ومارجريت روز، قدم تفصيلا له في موضع آخر.
في عام 1870 استعمل الرسام الإنجليزي جون واتكنز شابمان المصطلح، في سياق الحديث عن ما بعد الانطباعية، وفي عام 1934 استخدمه فريدريكو دي أونز، ليقترح من خلاله حركة مضادة للصعوبة، والنزعة التعبيرية في الشعر الحداثي، ويقر أرنولد توينبي المصطلح في عام 1939، بمدلول مختلف، إذ يشير إلى نهاية الوضع الحداثي، والطلب البورجوازي الغربي الذي يعود إلى القرن السابع عشر. وفي عام 1945 يستخدمه برنارد سميث، للدلالة على حركة في الفن التشكيلي تتجاوز التجريد، والتي نطلق عليها الواقعية الاشتراكية. وفي الخمسينيات تحدث عنه في الولايات المتحدة تشارلز أولسون، بالاتحاد مع مجموعة من الشعراء في كلية بلاك مونين، ويرجع أولسون ما بعد الحداثية بدرجة أكبر عند عزرا باوند وويليم كارلوس وليم، عن الشعراء الشكليين مثل ت. س. إليوت. وفي نهاية ذلك العقد جادل كل من أرفنج هاو، وهاري ليفين على التوالي بأن ما بعد الحداثية تعني انحدارا للثقافة العالية للحداثة.
وقد بدأت مع لازلي فيدلر، وآخرين في أواخر الستينيات، وأوائل السبعينيات في كتابة مقالات، تناولنا فيها المصطلح بشكل متميز، وقاطع أحيانا، ومتطور في الثقافة الأمريكية، كتعديل نقدي للحداثية، إن لم يكن نهاية فعلية لها. وأعتقد أنه وفقا لهذا المعنى مازالت وجوه ما بعد الحداثية، وأقتعتها تتغير حتى اليوم. ليس في الأمر انحياز للستينيات، لكنها بالفعل حملت كل الافتتاحيات، والانكسارات التي حدثت في تطور مجتمع المستهلك، وقد دعا أندريس هايسين ذلك العقد الذي يقع بين الستينيات، والسبعينيات، بالخط الفاصل العظيم، ففي خلال عشر، أو خمس عشرة سنة واجهت الولايات المتحدة سلسلة متوالية من حركات التحرر، وحركات المقاومة الثقافية مثل خطاب الحرية عند بركلي، والحركات المناهضة لحرب فيتنام، ومجموعات السود، والحركات البيئية، والنسوية، وكذلك مسرح الشارع، وأحداثه، والتأليف المبني على الصدفة، وموسيقى الروك، وشعر العوالم الملموسة، والمجموعات اللغوية، وفن البوب، وانتشار الأحداث الإعلامية، وتعددها.
و بدأت الحدود تذوب بين الثقافة العالية، والثقافة الشعبية، والفن والنظرية، والنص والنقد، الأطفال والرجال، كما يزدحم كل من رجال المقاومة، ورهبان الزن في المشهد الطبيعي، ونهاية التسلسل الهرمي، كما انتقلت أشكال الفن والتفكير من الاستاتيكية، إلى الأدائية، ومن التكنيك العالي، إلى ما يتجاوز التكنيك، ولهذا لم يفضل ضمن هذا السياق هيدجر، ولكن دريدا، وليس ماتيس، ولكن دوشامب، وليس شونبرج، ولكن جون كيج، وليس همنجواي، ولكن بارثليم، وبشكل أوضح ليس جروبيوس، أو ميس، أو لي كروبيوسير، ولكن فرانك جاري، ورينزو بيانو، وأيسوزوكي في الهندسة المعمارية، وغيرهم. على أية حال ليست ما بعد الحداثية متماثلة في الفنون المختلفة كما سأناقش ذلك لاحقا.
في هذا المناخ الثقافي غير المحدد، فضلا عن مقاومة النزعة الكلية عند فرانسوا ليوتار، نما مصطلح ما بعد الحداثية، واتخذ مظهره الأخير، وأعتقد أنه مات رغم أن شبحه مازال يطارد أوربا، وأمريكا، واستراليا، واليابان. هذا الشبح يجد الآن حياة جديدة، واسما جديدا، فقد ضغطت على مصطلح ما بعد الحداثية، في محرك البحث على الإنترنت، فتحولت إلى اثنين وتسعين ألف رابط في ست ثوان فقط.
خامسا: صعوبات مفاهيمية:
مازال شبح ما بعد الحداثية يلازمنا، لكن تأثيره أقل ؛ فهو يتصدع من الناحية الدلالية، وذلك منذ أن اكتشفت الصعوبات النظرية الكامنة فيه ذاتيا، كما أن الزمن لا ينتظره، وسوف أشير هنا إلى خمس من هذه الصعوبات:
1 لم يكن مصطلح ما بعد الحداثية مربكا، وملتبسا، وحسب، ولكنه أوديبي أيضا، إذ يشبه المراهق الثائر الذي لا يستطيع عزل نفسه كليا عن والده. إنه لا يبتكر لنفسه اسما جديدا مثل الباروكي، والركوكي، والرومانسي، والرمزي، والمستقبلي، والتكعيبي، والدادي، والتفكيكي. فتظل إذا العلاقة ملتبسة، وأوديبية طفيلية بين ما بعد الحداثية، والحداثية، أو كما يشير برنارد سميث في كتابه quot;تارخ الحداثةquot; إلى بقاء حوار متصارع دائما مع الحركة الأقدم، فالمصطلح يحمل إشكاليات عديدة بداخله.
2 الاستعمال الخاطئ لما بعد الحداثية من قبل برنارد سميث، والذي يصر عليه، يصلها دوما بالحداثية، وليس أبعد منها، وحتى وقت متأخر ليس أبعد من وصف نتاج الثقافة العالية ما بين 1890، و1940، فتعبير الحداثي في شكله النموذجي يتضمن حفظ التقدم إلى الأمام، والتقدم التاريخي الحاد، منذ ان استعمله كل من شكسبير وأبوت سوجر حتى وقتنا هذا.
3 مصطلح ما بعد الحداثية غير متجانس بشكل مضاعف، أي لا ينتمي لما بعد الحداثية، فما بعد الحداثي، وبخاصة ما بعد البنيوي يرفض الامتداد الخطي للزمن، من الماضي للحاضر، والمستقبل، ومن ثم البادئات مثل قبل، وبعد.وقد قلت إن حقبة ما بعد الحداثية بحد ذاتها خارقة للهوية، وتبطل التكرار المطلق، والخطي للزمن. وعلى سبيل المثال هناك متوالية مفيدة في دراسة تاريخ الأدب الإنجليزي من العصر الإليزابيثي، واليعقوبي، والكلاسيكي الجديد، والرومانسي، والفيكتوري، والإدواردي، حتى الحداثي، وما بعد الحداثي.
4 الأكثر أهمية أن ما بعد الحداثية لا تتجانس مع فترة زمنية معينة، أو مع تركيب تسلسلي (دياكروني) متطور تاريخيا. فهو يعمل نظريا بشكل متزامن (سنكروني) ظاهراتي، فالكتاب الأقدم مثل صمويل بيكيت، أو خورخي لويس بورخيس، أو رايموند راسل، أو فلاديمير نابوكوف من الممكن أن يكونوا ما بعد حداثيين، وذلك في مقابل بعض الكتاب المعاصرين الأحياء مثل جون أبدايك، أو توني موريسون، أو نايبول الذين لا ينتمون لما بعد الحداثية. كما لا ندعي أن الأعمال التي سبقت 1960 حداثية، والتي تلتها ما بعد حداثية، فقد ظهرت مورفي لصمويل بيكيت عام 1938، ويقظة فينيجان لجيمس جويس 1939، وكلاهما من وجهة نظري ما بعد حداثي بامتياز.
لا يمكننا إذا أن نقول إن جيمس جويس كان ينتمي للحداثية، أو ما بعد الحداثية. أي جويس؟ إنه في quot;الدبلنيونquot; قبل حديث، وفي quot;صورة الفنان في شبابهquot; حداثي، وفي quot;يقظة فنيجانquot; ما بعد حداثي.
كل هذا يؤكد أنه يتطلب لوصف نموذج ما بعد حداثي، مجموعة من الأساليب، والخصائص والحالات توضع في سياق تاريخي بعينه. وأي واحدة من هذه الخصائص بمفردها، مثل المحاكاة الساخرة، أو المرح الأسود، قد نجد من سبق إليها منذ مئة عام، أو ألف، مثل ستيرن، أو يوريبيدس، ولكن تجمعها في السياق الحالي هو ما يجعلها تنتمي إلى الظاهرة التي ندعوها ما بعد الحداثية.
5 هل تتطور ما بعد الحداثية، وفق الخطوط نفسها، في الحقول الفنية والثقافية، بعد بناء هذا النموذج؟ هل تظهر نفسها بصور متشابهة في الهندسة المعمارية، والتصوير، والموسيقى، والأدب؟ وفي الأخير بمفرده، في الشعر، والقصة، والمسرحية، والمقالة؟ وكذلك في الحقول المتباينة مثل العلم، والفلسفة، والسياسة، والثقافة الشعبية؟.
إننا نهاب تحديات بناء نموذج شامل لما بعد الحداثية. ولكن هل نحتاج بالأساس لهذا النموذج؟ هل نحتاج هذا المصطلح؟
سادسا: ما بعد الحداثية كمقولة تأويلية:
يجب أن نتساءل حول نقطة الإرباك فيما بعد الحداثية، سواء أكنا في القاهرة، أم سيدني، أم كوالالمبور، وقد اقترحت إجابة واحدة هي تحول ما بعد الحداثية، إلى ما بعد الحداثة في سياقنا المحلي / العالمي الراهن، وسأعود لهذه النقطة لاحقا لأختتم بها فكرتي الرئيسية. ولكن هناك إجابة أخرى أكثر إلحاحا، وهي تحول ما بعد الحداثية بحد ذاتها ـ بصورة واعية، أو غير واعية ـ إلى أداة تفسيرية، فهي تمس عملنا كطلاب ثقافة، وأدب، وفنون، نظرا لدراسة أكثر من فترة، ومجموعة من الأساليب، والاتجاهات الفنية. لقد أصبحت ما بعد الحداثية ـ بعد زوالها الجزئي ـ طريقة نرى من خلالها العالم، وربما كان رأي برنارد سميث صائبا حول حوارها المتصارع مع الحداثية. ولكن كلا من الحوار والمقاومة، يصبحان مصفاة ننظر من خلالها للتاريخ، وبها نترجم الحقيقة، وننظر إلى أنفسنا. ما بعد الحداثية هي الآن ظلنا الرفيق.
إن كل جيل بالطبع يؤول أسلافه، ويعيد ابتكارهم، فإذا نظرنا للوراء سنجد أسبقية لتوجه ما بعد حداثي في أعمال مثل quot;تريسترام شانديquot; 1759 - 1767 للورنس ستيرن، وكذلك قلعة فرانز كافكا 1926، والغثيان لجان بول سارتر، ويقظة فنيجان لجيمس جويس 1939. هذا يعني أننا قد قبلنا فرضيات، ومميزات ما بعد الحداثية، وأننا الآن نعيد قراءة الماضي ضمن شروطها. هذه النزعة حتمية لكنها من الممكن أن تصير عدوانية عندما تفكك أيديولوجيا ما بعد الحداثية الماضي، وتدمجه كليا في نسيجها. نحتاج لاحترام آخرية الماضي، مثلما نعيد مراجعته.
من الممكن أن تصير نظرية ما بعد الحداثية مفيدة في نطاق الدراسات الأدبية بشكل عام، فهي تمثل نموذجا قويا للإدراك الذاتي، وكذلك النقد الذاتي لأساطيرها، ولاهوتها السري، وكذلك قدرتها على التسامح، واحتمال ما لا يتطابق معها. وسنصل عند هذه النقطة للحديث عن البراجماتية، فهي تتجنب الحدود القصوى لكل من الدوجماتية، والشكية المتأخرة.
وكما قال ت س إليوت في ملاحظاته لتعريف الثقافة، أن الشكية المطلقة تدفع الحضارة العالية إلى الانحدار.
سابعا: ما بعد الحداثية، والبراجماتية:
نتحدث هنا عن البراجماتية في الفلسفة، وهي من أكثر الكلمات حسما، لكي تضاف إلى عائلتنا اللفظية المتزايدة حول ما بعد الحداثية. عندما نشرت كتابي quot;التحول ما بعد الحداثيquot; في عام 1987، كنت قد بدأت بالتساؤل ـ مثل الآخرين ـ عن كيفية استعادة النبض الإبداعي لما بعد الحداثية، دون الارتداد إلى نوع آخر، أو العودة إلى فكرة الأصل، دون انتكاس للأشكال الأضعف، أو الدوجماتية القاسية، أو التعصب المذهبي. لقد افتقر الوثوق في نزعة الشك، إلى نوع من التصديق، مثلما كانت السياسات الأيديولوجية مملوءة بالحماسة الكاذبة. إن كلا من البراجماتية الفلسفية عند وليم جيمس، والبراجماتية في الفن عند جون كيج، يسمح بمساحة من التصديق، أو روحانية غير مرتبكة، فالبراجماتية في الفلسفة مجرد عروض، وليست دواء شافيا أبدا، لكن اتساعها الفكري، والمعرفي يجنبها الجدل حول العقل، والقضايا الكبرى مثل، الحرية، والضرورة، والطبيعة، والغذاء، وهي تتصل بفكرة المجتمعات المفتوحة، والمتعددة الثقافات، وتؤيد حل القضايا بالوساطة، والتفاهم كبديل عن القوة الديكتاتورية، والمراسيم المقدسة. كل هذا يجعلها متجانسة مع ما بعد الحداثية، دون قبول للعدمية المتأخرة، وروح اللامبالاة، واللعب السوداوي. وإن مزايا الإمرسونيين، والجيمسيين فيها أعلى تأثيرا بكثير من الرورتيين، في الدراسات الأدبية بوجه عام، وليس فقط على نظرية ما بعد الحداثية.
إن المزايا الروحية السابقة تقاوم كبرياء النظرية، ونفاد صبر الأيديولوجيا، وحماسة رغباتنا، وحاجاتنا. إنها باختصار تغذي قابلية السلب التي اعتبرها كيتس ضرورية للأدب العظيم. لقد حمل جون كيج ـ أحد أهم طلائع ما بعد الحداثية في الموسيقى، والرقص، والفنون البصرية ـ قابلية سلبية براجماتية، تؤسس بدايات انعدام التمييز، والتعصب، فهو ينحدر من التفوق الأمريكي، وكذلك من تأملية مذهب الزن. إن رؤية كيج الطقسية تطرد الغرور الذاتي، والتمركز حول الأنا من البدء، إلى المنتهى، فمركباته المبنية على المصادفة، تتفق مع السعادة الصينية، فالفم الضاحك يحاكي المرح الصاخب للمولعين بالدين في العصور الماضية. إضافة إلى اللطف القوي الواسع في فلسفة وليم جيمس. هذا هو صوت البراجماتية الذي أحلت إليه، حيث تهدأ الإيقاعات، وتصير ملهمة للجميع، وبخاصة في الدراسات الثقافية، وما بعد الكولونيالية.
ثامنا: تجاوز ما بعد الحداثية.. التفاعل المفتوح بين المحلي والعالمي:
كان السؤال المستتر خلف هذا البيان، هو ماذا يقع وراء ما بعد الحداثية؟ وبالطبع لا أحد يعرف حقا، ولكن إجابتي الضمنية كانت سياق ما بعد الحداثة، وإيجابيته على شبكة الإنترنت. ولا يدعو هذا للابتهاج، فالواقعية تعلمنا، أن الأزمات التاريخية، لا تأتينا دائما بحل سعيد، نحتاج أن نتعلم ما يمكن أن يعلمنا إياه التاريخ، وما لا يمكن أن يعلمه أيضا. مازال الجور قائما هناك، وقد يكون أكثر قسوة، ولكن ليس كله متعذر العلاج في الأشكال الجزئية التي يكمن فيها.
ثمة عاملان يثيران أزمات ما بعد الحداثة في وقتنا الراهن هما ؛ التفاوتات البارزة للثروة بين الأمم، وبداخلها، وكذلك الغضب الذي يرتكز على الهوية الكلية، والمشاعر الجماعية المتمركزة حول الذات الأولى، وما تحمله من عصبية متوقعة. هذه المشاعر تشارك وحشية علوم الاقتصاد، والجغرافيا السياسية. ولي بعض الملاحظات حول النقطة الثانية:
يمكن قول الكثير حول الاختلاف، والآخرية، لكن أغلبه يقع تحت دائرة الوعظ، فمن ينادون بالانحياز لنوعهم لا يقبلون دائما من الأنواع الأخرى. والحقيقة أن المخ البشري قد طفر بصورة غامضة، قبل أكثر من مليون سنة، لابتكار استراتيجيات سريعة من أجل البقاء، وقد تضمنت الانفصال بين الأنا، والآخر، نحن وهم. ويبدو هذا الانقسام واضحا في العالم البيولوجي، ليس فقط بين الأنواع المختلفة، ولكن بين أفراد النوع نفسه. تلك أعجوبة حصانتنا. إن الأنظمة التي تميل ـ بشكل كهرو كيميائي سريع ـ بالتمييز بين الأنا والآخر يمكن أن تخدع أحيانا، فتهاجم الأصدقاء، وتهمل الأعداء.
ويتضح الانفصام بين الأنا والآخر في لغاتنا جميعها، وفي التراكيب التحتية للقواعد، وفي مفردات الضمائر المختلفة، ولهذا نضع حدا بين ضميري، أنا وأنت، نحن وهم... الخ، فضلا عن ذلك فالانفصام يعمل أيضا في طبقات العقل، كما يرى الفرويديون، واللاكانيون ـ حيث تنفصل غرائز الأنا المتمركزة نحو الذات، والغرائز الجنسية المتمركزة حول الآخر، أو الطلب الرمزي في مرحلة المرآة عند جان لاكان، وهي أكثر ارتباطا بموضوعنا. على أية حال الانقسام واضح في التطور التاريخي للعائلة، والجماعة، والقبيلة. كان من الممكن أن ينقرض البشر منذ عهد بعيد في الكفاح من أجل التطور، أمام الحيوانات الأكثر قوة، وسرعة مثل النمر حاد الأسنان، ومن ثم كان من الممكن أن ينعدم العقل الإنساني، واللغات الإنسانية، والمنظمات الاجتماعية. ومن الغريزة العميقة للقبلية تطورت الهويات العرقية، والثقافية المختلفة. هذه الغريزة أساسية، لكنها موغلة في البدائية. كتب البلغاري إلياس كانيتي أن الروح الجماعية تتحرك في أنفسنا كحيوان ضخم متوحش، وبصورة أكثر جدية كتب الأحيائي إي أو ويلسون عن قواعد التخلق الجنيني المتعاقب الذي يحكم علاقات القرابة، وممارسات التعاون، والإيثار في المجتمعات الإنسانية.
قد تكون الغريزة العشائرية، وروحها الجماعية أساسية، ولكن الخيال والحب، والعطف، والإحساس بشعور الآخرين أساسي كذلك. ربما كان انعزال الأنا عن الآخر ضروريا من قبل؛ لأجل البقاء، لكننا لا نحتاجه الآن كثيرا، نحتاج لجذب أشكال مختلفة في سياقنا التفاعلي، حيث يعتمد كل شيء على الشيء الآخر، وأن نقبل عوالم الإنترنت، وعصر المحلي / العالمي هذا التعبير الجديد غير المقبول يمكن أن يستعمل لمرة واحدة في عصر ما بعد الحداثة.
لا أعتقد أن الانقسام بين الأنا والآخر، نحن وهم سيختفي قريبا، خاصة إذا استمرت تناقضات كل من الثروة، والقوة، وأفكر أن نستبدل الحديث عن جانب الانقسام، بإمكانية أن نصنع منه ما يتجاوزه في حياتنا، ويتطلب هذا صدقا، وشجاعة، وقوة في الإدراك لأنفسنا، وليس فقط للآخرين، كما نحتاج لزرع الإحساس بالحوارية، فيما يتعلق بالثقافات المتنوعة، وكذلك الطبيعة، والكون الكامل نفسه، كما نحتاج التنوع في أنماط الإعلاء لأجل البؤس الأرضي، إذ يبطل الاندماج في المجموعات الشمولية القائمة على استبعاد المجموعات البشرية الأخرى.
أعلم تماما أن قول ذلك أسهل من عمله، خاصة للمهتم بالمسألة الجماعية. ولكنني يمكن أن أبقي التصور الروحي لسياق ما بعد الحداثة مفعما بالحيوية في الأدب والفنون المختلفة. وبالطبع يمكن أن نعرف تصور ما بعد الحداثة ببساطة ضمن الشروط السياسية كحوار مفتوح بين المحلي والعالمي، والهامش والمركز، والأقلية والأغلبية، والجزئي والكوني، وكذلك بين المحلي والمحلي، والهامشي والهامشي، والأقلية والأقلية، وبين عالمية الأنواع المختلفة ؛ ولكن بشرط ألا ينفجر الحوار المفتوح إلى العنف. وليس لدي علاج للطخة العنف الإنساني القديمة، ولكنني أتساءل حول إمكانية الإفادة من عملية ما بعد الحداثة. هل تصير الأرض روحا تنبثق منها القيم البيئية، والكوكبية الجديدة التي أسميها في النقد الهامشي quot;الغنوصية الجديدةquot;؟
أعرف أنه خلافا للروح، والإحساس بالدهشة الكونية، بالوجود، والفناء في الحافة الأوسع التي نشترك فيها جميعا، نحتاج أن نطلق سراحنا من قبضة العشائرية، وقلق التمركز حول الذات. ليست كل الموسيقى من إبداعنا في هذا العالم.
إيهاب حسن (1925 ـ ) ناقد ومفكر أمريكي من أصل مصري، من أهم المنظرين الأوائل لاتجاه ما بعد الحداثة الأدب والثقافة، من أهم مؤلفاته أدب الصمت نيويورك 1967، والأدب الأمريكي المعاصر 1973، والتحول ما بعد الحداثي 1987، وبين النسر والشمس حول آثار اليابان 1996. ويعد هذا البيان استشرافا لتحول ما بعد الحداثية إلى ما يتجاوزها، وقد نشره إيهاب حسن في مجلة الفلسفة والأدب بالإنجليزية صيف 2001، ثم أعاد نشرة بالإنجليزية على موقعه الشخصي على شبكة الإنترنت.
www.ihabhassan.com

نقلا عن quot;الكلمة: مجلة أدبية فكرية شهريةquot;