ترجمة القصيدة عن الألمانيةصالح كاظم

مقدمة بقلم عبدالقادر الجنابي

مدخل:
لم يترك جورج تراكل لقرائه نصا ذا طابع نظري، ولا حتى رسالة تشرح quot;مذهبهquot; الشعري، فرسائله كلها تدور حول مسائل صداقية أو توجيهات طباعية حول ما يرسله من قصائد للنشر. إذن، ليس فقط نحن نجهل إن كان له موقف معيّن من قصيدة النثر أم لا، بل نجهل، كذلك، موقفه من الشعر ومذاهبه. كان تراكل شاعرا منغمرا في العملية الشعرية إلى حد لم يكن له لا الوقت ولا الجلد لكتابة تنظير حول شعره أو شعر الآخرين... لم يترك أي رأي في أي موضوع، لا في رسائله ولا في مقال، ناهيك عن انه لم يكتب مقالة واحدة أبدا.
وما يصعب تصديقهتراكل هوالشاعر الوحيد الذي (رغم جهده الواضحمنأجل خلق قصائد كونية متحررة من أي بعد شخصي) لم يكن يدرك المضمر الثوري لقصائده الذي سيطفو، فيما بعد، انقلابا في اللغة الشعرية الألمانية. بل حتى أصدقاؤه الذين كانوا معجبين به جدا لم ينتبهوا إلىما كان ينطوي عليه هذا القلق الشعري التراكلي من بعد ستضعه في قلب الفلسفة المعاصرة.إن ريلكه هو الوحيد الذي عرف خطورة شعر تراكل: quot;في تاريخ القصيدة، تعتبر كتب تراكل مساهمة مهمة في تحرير الكيان الشعري. بهذه الأعمال يتجلى بعد جديد للفضاء الروحي محسوبا وفق مقاييس دقيقة بما ينفي الحكم العاطفي المجسد ماديا، كما لو كانت الشكوى تقيم في اتجاه الشكوى: هناك أيضا عالم يتجلىquot;.

من النثر مرورا بالشعر إلى قصيدة النثر

يمكننا التصريح بأن تراكل بدأ حياته الأدبية ناثرا. ذلك أننا لاحظنا، بعد اطلاعنا على طبعة أعماله الكاملة، أنأول ظهور له في ساحة النشر، كان 3 قطع نثرية (quot;موطن الحلمquot;، quot;باراباسquot; وquot;وحشةquot;) وحوارية قصيرة عنوانها quot;مريم المجدليةquot;، نُشرت كلُها في صحيفة سالزبورغ فولكتزايتنغ ما بين 12 آيار و 20 ديسمبر 1906. وأن له مسرحية عنوانها quot;يوم الموتىquot; تم عرضها في نهاية آذار، من العام نفسه، على مسرح بلدية سالزبورغ ولم تلق أي نجاح يذكر. وأنه توقف بعدها عن الكتابة وبالأخص عن النشر حتى السادس والعشرين من شباط عام 1908 تاريخ نشر أول قصيدة له وذلك في الصحيفة ذاتها وعنوانها quot;أغنية صباحيةquot;، ذات مضمون نيتشوي وموزونة. وأن عام 1909 يعتبر منطلقه الشعري الفعلي حيث بدأ يكتب، بتواتر ونضج، أشعارا حتى وفاته 1914. وأنه لم يعد إلى كتابة النثر إلا أواخر عام 1913 بأربع قصائد نثر فقط: ثلاث منها توزعت في ديوانه quot;سيباستيان في حلمquot;، على النحو التالي: quot;تحوّل الشرquot; (مكتوبة في تشرين الأوّل 1913) نهاية القسم الأول، وquot;ليلة شتاءquot; (مكتوبة في أوّل كانون الثاني 1914) نهاية القسم الثالث، وquot;حلم وخبلquot; (مكتوبة في أوّل شباط 1914) تشكل القسم الخامس وخاتمة الديوان؛ أما الرابعة quot;رؤيا وسقوطquot; فكتبها بين آذار ونيسان 1914 ونشرت بعد وفاته في كتاب quot;الحارقquot; السنوي عام 1915.

كما قلنا في مقدمتنا لقصيدته quot;مزمورquot;، بأن تراكل اكتشف قصيدة النثر عند قراءته الترجمة الألمانية لـquot;استناراتquot; رامبو. على أنه كان لقراءته هذه تأثير أولي في دفع تراكل إلى كتابة شعر حر متحرر من العدد الثابت للتفاعيل، والتحرر من القيود الوزنية. وهذا ما نجده في quot;مزمورquot; التي تعتبر أول قصيدة مكتوبة وفق الشعر الحر كتبها تراكل؛ لكنه حر ذو أبيات خط طولية؛ مكتفية بذاتها. فالبيت المنغلق يليه بيت آخر أكثر انغلاقا يخلق توترا شبيها بتوتر قصيدة النثر النموذجية. وتجدر الإشارة هنا إلى أن تراكل جاء إلى قصيدة النثر عن طريق تجربته لكتابة الشعر الحر، وحمل معه التوتر بين بيت وآخر إلى قصيدة نثر غالبا ما يحدث فيها انقطاع فجائيبين جملة وأخرى فيتغير السرد من جملة مفيدة الى جملة بلا افعال، معلقة وكأن شيئا ما جذب انتباهها وجمدها. ففي قصائد النثر الأربع التي كتبها تراكل، تكثر صور لا إنشاء فيها مما يحدث طلاق بين الصوت الإيقاعي للجملة وعنصرها الصوري. فمثلا، في ّتحول الشرquot; ينفقد، أحيانا، مركز القصيدة وتتعدد أخيلة من مقطع الى مقطع، فهناك رجل، أطفال، صياد، فريسة، وظلمة... كثير من الظلمة.ومع هذا، فإننا لا نحصل على سير سردي متتابع لشخص سيء اسمه الشر، كما يريد ان يجعلنا العنوان ان نفهم، وإنما على مجموعة من الأخيلة ربما للشر او لشيء آخر وهكذا يأخذنا تراكل، خصوصا في quot;الرؤيا والسقوطquot; (التي هي امتداد مفصل لقصيدته quot;تحول الشرquot;)، في متاهة سردية رغم أنها مسورة بالشر، إلا أنها مفتوحة لكل احتمال... مستخدما إستراتيجية قصيدة النثر بامتياز: القفز من جملة فعلية الى جمل ينقصها فعل، وبالعكس. كما يجب ملاحظة نقطة أساسية في قصيدة النثر التراكلية، هي أنها تبدأ بضمير الشخص الأول، ممهدا لسيرة ذاتية بالإفاضة الغنائية ثم ينتقل الى المونولوغ الداخلي، فينحدر، أحيانا، في quot;أوهquot; المناداة... ضمن سرد شيزوفريني مبني على سطور مقفلة سواء كانت اسمية او فعلية او بلا فعل. سرد يكسر التحديدات، فـquot;أناquot; ليس لأنها غير موجودة وإنما تتيه في هويات غير محددة: quot;هوquot;، quot;هيquot;....

اللاغرضية
من المعروف أن شعر تراكل كله مستمد من حياته، ومعاناته مع المخدرات ولحظات الانشطار الفكري (الشيزوفرينيا) التي كانت تنتابه. بل يمكن القول أن الكتابة لديه عيادة يجري فيها تحليلات نفسية لحالته الخاصة. وكما يقول أحد النقاد أن تتابع الجمل المتضاربة ليست توسلا لخلق صدمة شعرية لدى القارئ، وإنما هي محاولات نزول الى قاع نفسه لتفهمها. وكأنه يعيش حالة ذنب... فقد صرح في جلسة مع كارل هاور قائلا quot;حين تستيقظ تشعر بمرارة العالم. في هذا كل إثمك اللا محلول و(بالتالي) قصيدتك تكفير ناقصquot;.إن الشعور بالذنب من شرور العالم، كان عميقا إلى درجة يشعر معها بندم.وهكذا موضوع الشر، مثلا، لا يُطلق، عنده، كما عند رامبو، إلى الخارج وبصور نارية تفوح منها رغبة عميقة في تغيير الواقع تغييرا ثوريا، وإنمايتحمله الشاعر نفسه فيصب جام غضب هذا الشرعليه.
في رسالة أرفقها مع نسخة مصححة لقصيدته quot;مرثيةquot;، بعثها عام 1911 الى ايرهارد بوشبيك، يوضح تراكل نقطة جوهرية في مشروعه الشعري؛ تشذيبه من كل طابع شخصي رغم ان هذا المشروع منبثق وموحى من تجارب شخصية محضة، قائلا: quot;... إنها أفضل من النسخة الأصلية بما أنها الآن ليست شخصية وتطفح بالحركة والرؤى. أنا مقتنع بأنها ستقول الكثير وستعني لكم أكثر بشكلها وأسلوبها الكونيين مما في نسختها الأولى ذات الأسلوب الشخصي المحدود.quot;
إذن، الشخصي يتحول إلى مادة شعرية متحررة من كل إشارة إلى مصدر. وفي هذا يحقق تراكل المبدأ الأساسي لقصيدة النثر: اللاغرضية التي تلعب دورا كبيرا في قصائده النثرية. فمثلا، موضوع قصيدة quot;ليلة في الشتاءquot; مستمد من حادث عاشه، بعد أن قضى ليلة تخللها شجار في حانة قرب انزبروك، مشى الليل الشتائي كله سكرانا تحت هطول ثلج عاصف باتجاه انزبروك، فوجدوه في الفجر نائما في كومة الثلج أمام باب بيت صديقه لودفيك فون فيكر الذي سكّنه عنده. قوة تراكل انه حول هذه التجربة الليلية المريرة الى قصيدة تتجاوز الشخصي الى بعد كوني؛ الى قصيدة نثر بامتياز تلبي كل مطالب قصيدة النثر النموذجية من إيجاز، توتر ولا غرضية.
تساؤل
مات تراكل قبل ان يضع ماكس جاكوب في مقدمته الشهيرة لكتابه quot;رمية نردquot; مقومات واضحة تميز قصيدة النثر عن النثر الشعري وبقية الاتجاهات الشعرية المستحدثة آنذاك. لو كان حيا لكان أول المطلعين عليه،خصوصا أنه (تراكل) طلب نسخة فرنسية من quot;استناراتquot; قبل بضعة أشهر من موته.لكن التساؤل الأكثر منطقيا، ماذا كان يحدث لو اطلع تراكل الذي كان مهووسا بقضية الشر حد استخدام كلمة الشر في عدة عناوين نثرا وحرا ووزنا، على كتاب لوتريامون quot;أناشيد مالدورورquot; الذي لم يكتشف الا في عشرينات القرن الماضي، أي بضع سنوات بعد وفاة تراكل. لا أحد يمكنه الإجابة عن هذا السؤال، لكن، من خلال قصائده النثرية هذه التي تتناول ّالشرquot; حيث الموت يدخل المقام بخطى متعفنة، يمكن الحدس بأنه لكان للبشرية مزمور شعري ثانمكتوب بلغة تراكل العميقة.

جورج تراكل: حلم وخَبَل
ترجمها عن الألمانية صالح كاظم

مساءا تحّول الأب شيخا. في غرف مظلمة تحجّر وجهُ الأم، وعلى الصبي حلّت لعنة ُ النَسْل المشوّه. أحيانا كان يتذكرُ طفولته، مليئة ً بالأمراضِ والرعبِ والظلام والعاب مختلفة في حديقة النجوم أو انه كانَ يُطعمُ الجرذان في الحوشِ عند غروب الشمس. من المرآة الزرقاء أطلـّت صورة ُالأخت النحيفة فسقط مثل ميتٍ في الظلام. في الليلِ انفتحَ فمَه مثل فاكهةٍ حمراء وسطعتْ النجوم عِبرَ حزنه المعقود اللسان. احلامُه ملأتْ بيتَ الآباء القديم. في المساء كان يستمتعُ بالتجوال في المقبرةِ الخربة، أو التطلع في قاعةِ الموتى المظلمة الى الجثثِ التي ترك التعفّنُ آثارا خضراءَ على أياديها الجميلة.عند بوابة الدير طلب قطعة ً من الخبز، ظلُ حصان أسود قفز من الظلام أفزعه. وحين كان يستلقي في سريره البارد كانت تتملكه دموع ٌ لا إسم لها. ولكنْ لم يكنْ هناكَ من سيضع يده على جبينه. وحين جاء الخريفُ مشى مثل عرافٍ عند الشاطئ البنّي. أوه يا ساعات الإنبهار العنيف مساءا عند النهر الأخضر، غاباتُ الصيد. أوه ايتها الروح التي غنت بصوتٍ منخفض أغنية َ القصب الذابل: ورعٌ ناري. بسكون ولفترة طويلة تطلـّع في عيون الضفادع الممتلئة نجوما، وتلمّس بيد مرتعشة برودة َ الحجر القديم وتحاوَرَ مع الحكاية المقدسة للينبوع الأزرق. أوه الأسماك الفضية والثمار التي تسقط من الأشجار المتزاحمة فيما بينها. إيقاعاتُ خطواته ملأتهُ بالفخر وبإحتقارِ البشر. في الطريق الى البيت وجد قلعة ً خالية. ثمة آلهة متداعية في الحديقة تستغرق في الحزن مساءا. بدا له: هنا عشت سنواتَ منسية. كورال يرافقه الأورغ ملأه بالخوف الإلهي. ولكنْ في نفق مظلم قضى أيامه، كذ َبَ وسرقَ وأختفى، ذئبٌ يلتهبُ أمام وجه الأم الأبيض. أوه ايتها الساعة التي سقط خلالها بفمٍ متحجرٍ في حديقة النجوم، محاطاً بظل القاتل. بجبهة قرمزية مضى الى المستنقع وغضبُ الإله ينهالُ ضربا على كتفيه المعدنيين. أوه شجر البتولا في العاصفة، الحيوان المبهم الذي تجنب طرقه الخَبلِة. الكراهية أحرقتْ قلبه، الشهوة حين اعتدى على الطفل في خضرة الحديقة الصيفية، إذ تعرف في توقـّده على وجهه المخبول. مؤلمة ٌ الأمسيات عند النافذة، حيث من الزهور القرمزية جاء الموت جمجمة مخيفة. أوه، ايتها الأبراج والنواقيس، وسقطت ظلال الليل أحجارا عليه.

لم يكن له محّبٌ. رأسه أشتعلَ كذبا وفجورا في الغرفِ المظلمة. الخشْخشة ُ الزرقاء لثوب إمرأة جَعَله يتجمّد مثل عمودٍ وهيئة ُ الأم الليلية وقفت عند الباب. عندَ رأسه برزَ ظلّ الشر. أوه ايتها الليالي والنجوم. مساءا سار مع المعاق قرب الجبل، عند القمة الثلجية انتشرت حمرةُ المساء القرمزية وهي تسطعُ وقلبه دقّ هادئا عند الغروب. ثقيلة ً أنحنتْ أشجارُ الصنوبر العاصفة عليهما وخَرجَ الصيادُ الأحمر من الغابة. حين حلّ الليل تهشّم قلبه مثل البلور وضرَبَ الظلامُ جبينه. تحت أشجار صنوبر عارية خنق بيديه المثلـّجتين قطة ً وحشية. على يمينه ظهرَ ملاكٌ أبيض يتشكى. وفي الظلام طالَ ظل المعاق. أما هو فقد التقط حجرا ورما به المعاق الذي هرب وهو يبكي، متحسرا توارى وجهُ الملاك العذب في ظل الشجرة. أستلقى طويلا على الأرض الحجرية وتطلع مستغربا الى خيمة النجوم الذهبية. ملاحقا ً من قبل فئران الحقول جرى بإتجاه الظلام. في الحوشِ شربَ مثل حيوان وحشي من الماء الأزرق للينبوع حتى تجمد. محموما جلسَ على الممر الجامد، متعجلا مواجهة الرب، إذ قد يموت. أوه، ايها الوجه الرمادي للرعب، أذ نظر الى رقبة حمامة ذبحت. متعجلا عبر سلالم غريبة التقى صبية يهودية ومد يده نحو شعرها الأسود وقبل فمها. ثمة عدو يلاحقه في أزقة مظلمة وأذناه تنشقان محدثتان صوتا حديديا. مرورا بجدران خريفية لاحق على هيئة شماس بسكون القسيس الصامت، تحت أشجار عارية أستنشق ثـَمِلا حمرة َ ذلك الرداء المقدس. أوه، يا قرص الشمس المتداعي. بقايا معاناة لذيذة تزين لحمه. في بيت مهجور له مدخلين جاءه متجمدا بسبب الضرر مزدانا بالدم. عميقا أحب الأعمال المبجّلة للحجر: البرج الذي يهاجم ليلا بوجه جهنمي سماءا زرقاء مليئة بالنجوم، القبر البارد، حيث يُحْفظ ُ قلب الإنسان الناري. يالشقاء الإثمِ الشديد التي تكشف وقتها هناك. ولكن في حين كان يفكر بما يشعّ نارا، إذ كان يمضي على طول النهر الخريفي تحت أشجار عارية ظهر له في معطف من الصوف جنيٌ يحترق، أخته. عند اليقظة أنطفأت النجوم فوق رأسيهما.


أوه أيها النَسَل الملعون. حين يُختَتَم أي مصير في الغرف الملطخة يدخل الموت البيت بخطوات متعفنة. أوه لو كان ربيعٌ في الخارج وفي الشجرة المزدهرة طير يغرد. غير أن ما تبقى من الأوراق الخضراء على نوافذ الليل قد أصابه الجفاف الرمادي والقلوب المدماة تتوجس شرا. أوه أنها تحيط الطرق الربيعية للمستغرق في أفكاره ساعة الغروب. وهو يبتهج بالأجمّات المزدهرة، والبذور الطرية التي يزرعها القروي والطائر المغرد، المخلوق الرقيق للرب، وكذلك ناقوس المساء وتجمعات البشر الجميلة . أن ينسى قدره والشوك المغروز {في جسده}. حرا يخضّر الجدول، حيث يحط قدمه، وشجرة تحكي تضّج فوق رأسه المخبول. إذ ذاك يرفع بيد نحيفة الأفعى وفي دموع نارية يذوب قلبه.

جليلٌ صمت الغابة والظلام المخضّر والمخلوقات المطحلبة التي ترّف بأجنحتها حين يحل الليل. أوه ايها الرعب، حيث يعرف كل من يمضي في طريق شائك إثـْمَه. هكذا وجد في غابة الأشواك هيئة الطفل البيضاء، مدمىً بعد معطف عريسه. غير انه وقفَ أمامهامختفيا في شعره الفولاذي صامتا ومتألما. أوه أيتها الملائكة المضيئة التي تنشرُها ريحُ الليل القرمزية في الفضاء. عاشَ طيلة الليل في الكهف البلوريّ وعلى جبهته نما الجُذام الفضي. مثل ظل هبط الطريق الضيق تحت نجوم خريفية. سقط الثلج وامتلأ البيت بالظلام الأزرق. صوت الأب القاسي طرق آذان أعمىً مستحضرا الرعب. يا لمشهد النساء المحنيات الظهر. تحت أيد جامدة تـَلـَفتْ الفاكهة وألادوات أمام عيون النسل المرتعب. ذئبٌ خطف المولود والأخوات هربن َ الى الحدائق المظلمة للإحتماء بجماجم لشيوخ. عرافٌ معتوه غنى لهم عند جدران خربة والتهمت صوته ريح الرب. أوه يا شهوة الموت. أوه يا أطفال نسلٍ مظلم. فضية ً تسطع زهور الدم الشريرة بين عينيه، والقمر البارد في عينيه المدمرتين. أوه للقادمين ليلا، أوه لمن حلت عليهم اللعنة.

عميقة ٌ هي القيلولة في سمومٍ مظلمة، مليئة بالنجوم والوجه الأبيض المتحجر للأم. مريرٌ هو الموت، وجبة َ المثقل بالذنوب، في الأغضان البنية للشجرة سقطت مبتسمة ًالوجوه الترابية. غير أن ذاك غنى بصوت منخفض في الظل الأخضر للبيلسان، حين أستيقظ من كوابيسه. كصديق لعوب عذب اقترب منه ملاك وردي، بحيث انه، مثل وحش رقيق، نام ليلا. ورأى النقاء المغطى بالنجوم. ذهبية ً أنحنت زهور عباد الشمس عبر سور الحديقة، حين حل الصيف. أوه يا مثابرة النحل والأوراق الخضراء لشجرة البلوط والعواصف العابرة. فضيا أزدهر الخشخاش كذلك، حاملا في كوزه الأخضر احلامنا الليلية بنجومها. أوه كم كان هادئا البيت، حين توجه الأب نحو الظلام. قرمزية ً نضجت الثمرة على الشجرة وحرك الفلاح يده الغليظة. أوه ايتها الإشارات المشعرة في الشمس الساطعة. ولكن بهدوء التحق ظلّ الميت مساءا بحلقة أحبابه الحزينين وكان أيقاع خطواته بلوريا على المُرج المُخضر امام الغابة. انهم يجلسون صامتين حول المائدة، موتى يجلبون لهم الخبز المدمى بأيد شمعيّة. يا للعيون المتحجرة للأخت، إذ أطـّل جنونها أثناء الطعام على جبهة الأخ الليلية، حين تحول الخبز تحت يد الأم المتألمة الى حجر. أوه للمتعفنين، حيث صمتت السنتهم الفضية عن الجحيم. كذلك انطفأت الأضواء في الغرفة المتفحّمة ومن خلال أقنعة قرمزية نظر أناس يتألمون الى بعضهم بصمت. طيلة الليل هدر المطر وأنعش الممر. في وحشة مليئة بالأشواك يتبع الداكنُالطرقَ الصفراء المحاطة بحقول الذرة، وأغنية القنبر والسكون الرقيق للغصن الأخضر، لكي يخلد للراحة. أوه أيتها القرى والسلالم المطحلبة، منظر يشع نارا. ولكن الخطوات تتأرجح عظمية عبر أفاع نائمة قرب حدود الغابة والأذن تتابع دائما صرخة العِقاب المتعجلة. مساءا وجد نفسه في فراغ حجري، مرافقون لميت في بيت الأب المظلم. غيمة قرمزية أحاطت برأسه، بحيث سقط فوق صورته ودمه بصمت. مثل وجه قمري يسقط في الفراغ متحجرا، إذ في المرآة المهشمة على هيئة صبي ميت تظهر الأخت، ويبتلع الليل النسل الذي حلت عليه اللعنة.