اعداد عبدالاله مجيد: لا يُنصح ابدا بالحكم على مبدع في ضوء شخصيته رغم ان هذا خطأ يُرتكب في احيان كثيرة هذه الأيام. وقلة هي الأمثلة التي تصح عليها هذه النصيحة مثلما تصح على الموسيقار البولندي فريدريك شوبان الذي

عندما تتدفق إيقاعات quot;فالسquot; شوبان عبر أصابع ارثر روبنشتاين، تستيقظ الروح من عزلتها... وترقص في حنايا الذاكرة

يحتفل العالم في السنة المقبلة بمرور مئتي عام على ميلاده. ويتوقع مهتمون بالمناسبة ان يكون شوبان بطل 2010 الرومانسي. إذ تستعد الصالات لإحياء سلسلة متواصلة من الحفلات الموسيقية على شرفه وتتهيأ شركات التسجيل لإمطار الجمهور بوابل من الأقراص المدمجة لأعماله. ولكن جيسيكا دوكن تقول في صحيفة quot;الاندبندنتquot; ان عبقرية عازف البيانو والموسيقار البولندي التي لا يرقى اليها الشك جاءت بثمن باهظ دفعه القريبون منه أو مَنْ حاولوا ان يكونوا قريبين.
الأنكى من ذلك ان شوبان نفسه كان يعرف ذلك وكتب في عام 1839 يقول عن نفسه: quot;ليس ذنبي ان اكون مثل نبات الفطر الذي يبدو صالحا للأكل لكنه يسممك إذا التقطته وتذوقته متوهما انه شيء آخر. أعرف اني لم أكن قط ذا فائدة لأحد ـ بل لم أكن ذا فائدة تُذكر لنفسي ذاتهاquot;.
كان شوبان عظيما ولكنه كان ايضا معقدا، باردا، مغرورا، متعاليا، متعجرفا، كيديا، معاديا للسامية وحساسا حساسية لا تطاق، على حد وصف دوكن.
أمضى شوبان الشطر الأعظم من حياته في صراع مع مرض السل ونُسبت طبيعته العدوانية الى المرض الذي قتله في العام الأربعين من حياته. ولكن هذا لم يكن إلا تفصيلا صغيرا في اللوحة الأكبر.
افلام مغرقة في الرومانسية تصور شوبان شخصية رقيقة يسعل دما على مفاتيح البيانو أو ثوريا رومانسيا في وارسو. واكسبه المرض والمنفى تعاطفا واسعا لكن دوكن تذهب الى انه غادر بولندا هربا من الثورة وليس بسبب تأييده لها. وانه لم يكن بطلا رومانسيا بل ان الشاعر آدم ميتسكيفيتش الذي كان شوبان معجبا بعمله وعاش منفيا مثله، سمى الموسيقار quot;مصاص دماء اخلاقياquot; لتولعه بالارستوقراطية وموقفه ذي الوجهين من وطنه الذي كان يشعر بشوق حارق اليه، ناهيكم عن علاقته مع الروائية الأكبر منه سنا جورج ساند التي عاش معها تسع سنوات.
كانت علاقتهما حافلة بالمد والجزر وفي حين ان شوبان كان أضعف من ان يلحق بها أذى جسديا فان شخصيته النيقة وتذمره الدائم كانا شديدي الوطأة عليها. وسرعان ما وجدت ساند انها ممرضة أكثر منها عشيقة، وصبت سخطها وشعورها بالاختناق في بعض رسائلها التي تشكو فيها من غيرته المرضية. وكانت رواية quot;لوكريزيا فلوريانيquot; متنفسا لتفريغ احباطاتها. والحق ان جميع اصدقائهما اعتبرا الرواية تصويرا لعلااقة ساند وشوبان، لا سيما حين تشير بطلة الرواية الى انها quot;تُقتل بوخزاتquot; قبل ان تنهار وتفارق الحياة.
في النهاية افترق الاثنان بسبب الخلاف حول زواج سولان ابنة ساند الذي كانت الكاتبة تعارضه والموسيقار يؤيده.
كان شوبان يكره احياء الحفلات ويكسب المال من تعليم العزف بالدرجة الرئيسية. وسافرت عازفة شابة تدعى صوفيا روزنغاردت من بولندا الى باريس للتعلم على يده. ولكن دوكن تقول ان انطباعات روزنغاردت عن quot;هذا الرجل الغريب وغير المفهومquot; لا تقدم صورة لطيفة. إذ كتبت تقول: quot;لا يمكنكم ان تتخيلوا شخصا أبرد وأكثر لامبالاة بكل شيء من حوله. انه دمث بإفراط ولكن هناك الكثير من الخبث واللؤم الدفين فيه. والويل لمن يسمح لنفسه بالوقوع تحت سطوته... وُهِب سرعة بديهة وحسا سليما ولكن كثيرا ما تكون له سوراته الجامحة، البغيضة عندما يكون شريرا وحانقا، عندما يهشم الكراسي ويخبط الأرض بقدميه. يستطيع ان يكون مشاكسا مثل طفل أفسده الدلال، فظا مع تلاميذه وباردا مع اصدقائه. وتكون هذه عادة اياما من المعاناة أو الارهاق الجسدي أو المشاجرات مع مدام ساندquot;.
انتفعت موسيقى شوبان من حساسيته المفرطة ولكن هذه الحساسية ذاتها جعلته رجلا بائسا لحدة وعيه بكبر حجم أنفه، ونادرا ما كان ينزع قفازه ـ يفضله باللون الأبيض او اليلك ـ وربما كانت اعصابه تتحكم به أكثر من مرضه.
لعل روح شوبان الأنانية والعصابية كانت تتناغم مع المخيلة التي أنتجت موسيقاه الرائعة. فقد كانت اعماله تُصاغ الى حد الكمال بعكس شخصيته. ومع اقتراب ذكرى مرور مئتي عام على ميلاد شوبان تقترح دوكن ان نستمتع بأعماله الموسيقية وننسى كل ما عداها.