رواية حوراء النداوي
(تحت سماء كوبنهاغن)، طبع ونشر دار الساقي / لندن، سنة 2010!


غالب حسن الشابندر: (حوراء النداوي) عراقية غادرت الوطن منذ سنوات الطفولة مع أهلها هربا من بطش النظام... نشأت ودرست في الدانمارك، ولم تكن كغيرها من المهاجرين، حيث لم ترتض لنفسها أن تكون رقما سائبا في المجتمع الجديد، بل صممت أن تكون شاهدة على تجربتها في المهجر التي هي محنة أبناء وبنات جلدتها ولغتها ودينها ممِّن شاركها هذه الرحلة المضنية المخيفة، وقد ترجمت ذلك عبر جهد روائي شاق مضن، جاء بعنوان (تحت سماء كوبنهاغن)، مستوحية كل معالم وغرائب وتناقضات ومفارقات وجزئيات هذا البلد الاسكندنافي البارد لتنفذَ من خلال ذلك إلى داخل المُغتَرِب، ترصد ما يزخر به هذا الداخل من عواصف نفسية وروحية ومعنوية، يجهد صاحبها على إخفائها مكابرة ونفاقا، فيما هي تصوغ هويته الزائفة، وكأنه لا يشعر، أو لا يشعر بذلك فعلا، وبالتالي، كان العمل بمثابة فضح وتعرية وتجريد، حيث استطاعت (حوراء) أن تضع (المهاجر / المُغتَرِب) أمام نفسه عاريا.
هذه التجربة النوعية الحية تسري داخلها تجربة أكثر كثافة، تلك هي تجربة (حوراء) ذاتها، تجربتها مع المحيط القريب، ومع المحيط البعيد، تجربتها مع لغتها الام ولغة العالم الجديد، تجربتها مع جسدها وجسد الآخرين، وكان السرد في قسم من مناشئه هو التداخل بين هاتين التجربتين الكبيرتين.
الرواية تنتمي إلى فن التقنية المألوف، بداية وحبكة ونهاية، تعتمد فن التوازي بين الاحداث، السرد متعادل بين طرفي الحدث الأم، ولكن تفاجأنا بقفزة تقنية يبدو إنها كانت محسوبة بدقة، إنها تتحدث عن استعجال الحبكة (هل أحسستم بشيء من المرارة لاني استبقتُ الاحداث ونشرت بين أيديكم ما يفضِّل ساردو القصص أن ياتي تباعا،وبطريقة أكثر تشويقا من المباشرة التي أقترفتها تواً؟)
إن هذا الاختراق التقني جاء رغبة في إعلان النتيجة قبل آوانها، لأنها كانت تلح على كشف الحقيقة، وعلى إزالة كثبان التغطيات المزيفة التي شوهت الحقيقة الجميلة بحد كونها حقيقة مع أنها مرّة وقاسية وشاقة.
لم يكن هناك شيء واحد يؤلم (هدى) ويؤرِّق ضميرها، بل كل شيء، لأن الهجرة من الوطن كما يبدو بمثابة ضياع كامل، خاصة إذا كانت الهجرة هروبا من الموت، وهذا يفسر لنا خصوبة الإثارات في الرواية، فلم يهدا السرد أبدا على موضوع واحد، بل هو متوزع، ينتقل من مشكلة لأخرى، من مفارقة لاخرى... غربة... ضياع... عزلة... نفي... تصاغر... هجانة... خوف... تناقض... خواء... إكتئاب... استلاب... وكل مادة من هذه المواد كانت بمثابة حبكة تسطع بالحضور الحي، ولكن من دون حل (قوقعة عن الوطن،تعقبها قوقعة عن أبناء الوطن، قوقعة عن الافكار والمعتقدات والمباديء. كل شيء في غربتنا هذه متقوقع على ذاته، حتى نفسي متقوقعة على نفسها، فاصلة ذاتي عنها، فلا تدري هذه بتلك) / 128 /
ترى هل هذه الغربة القاتلة هي التي حفزّت (هدى) أن تجاهد دون أن يتهاوى أخوها (عماد) بالمرّة في أحضان مدرِّسته الدانماركية حيث اجتذبته بمهارة إلى سريرها الخادع؟
هل نحن أمام عقدة أوديب ولكن بصياغة جديدة؟
بدل أن يتقاتل الأبناء مع الاب في سبيل الاستحواذ على الام تتقاتل الاخت مع زوجة الاخ (الدانماركية) من أجل الاستحواذ على الاخ؟
هل هو صراع حضارات، أم هو صراع إرادات؟ هل هو صراع بين رغبة الجسد وبين رغبة الروح أم هو صراع من أجل المصير، وكان (عماد) هو المنقذ، منقذ واقعي حاضر في حياة الزوجة الغريبة، ومنقذ منتظر في حياة أخت تعاني من غربة وطن، وغربة قيم، وغربة مجتمع؟!
وهل هذا التقاتل سيجد مشروعيته بل وجوده بالاساس لو أن (عماد) كان من حصة واحدة من بنات جنسه ووطنه ودينه؟
لم تتخذ (هدى) ذات الموقف من صديقة (عماد) العربية في النتيجة، كان هناك تفاوت في الموقف، تفاوت جزئي، فهل يحق لنا هنا أن نقول أنه التفاوت المتحدر من اختلاف الانتماء؟
لم تكن تعرف حتى (هدى) نفسها خفايا هذا الصراع (لا ادري لماذا أخصص كل هذه السطور للحديث عن أخي، لا أدري، لم أتعمد ذلك...) / ص 44 / وهذا الاعتراف بالعجز عن الدافع هو الذي يحفز على مثل هذه التساؤلات.
إن جذور المحنة تكمن في هذ ه الغربة الوطنية، (ليتني كنت في وطن أملكه، أفرض فيه شروطي، وأُقصي كل من يتهمني بالاختلاف،أكون أنا السيدة فيه... فهذا وطني وأنا أقرر... أنا احكم... لكنني لست كذلك... أنا التي عشت جلّ حياتي أشتهي وطنا دافئا، وابتغي عمرا جديدا فيه ذلك الوطن، يا إلهي! ما هذه الاوطان التي تُلْفظ؟ تلقي بك على قارعة غربة ضيقة، بينما ترفل هي في مساحات شاسعة من وطنيتها) / ص 98 /
الوطن إذن ليس كمية تراب همل، بل هو مشروع... فكرة... هو مصير... سيادة... ومن ثم... هو تأصيل للذات والوجود... فأنت بلا وطن يعني بلا هدف واضح، بلا مصير مشخص، و(هدى) تحكي هذه التجربة لا لتخبرنا بمعاناتها، بل لتؤسس لنا رؤية عن الوطن، فطالما تغنينا بالوطن كملجا، وحاضن، ومكان نتدثر في دفئه، فيما الوطن مصير، عقيدة، رؤية...
الروائية (حوراء النداوي) تعتمد في سردها على التزاوج بين الحوار الخارجي الموضوعي، والحوار الداخلي، وفي هذا التزاوج تظهر براعتها اللغوية، خاصة على صعيد الوصف، وبالاخص وصف المقتربات الانثوية، لأنها أنثى قبل كل شيء، الانثوية كادت أ ن تتحول إلى عقيدة في سردها الروائي هذا، وفيما تستغرق في وصف جزئيات الواقع الخارجي، نجدها تتفنَّن وبشكل مذهل في وصف خفايا الانوثة، وقد كانت تجول في عالم جنسها البعيد، لتعلن عن خميرته الخالصة، لتعلن أن هذا العالم قائم بذاته، وليس عالما هامشيا، ليس عالما جيء به صدفة، وإلا لماذا كان مستقلا؟ ومن هنا تحاول أن تثأر لانوتها عندما تجد نفسها صريعة نغم يغلب عليه الايقاع الذكوري (لست أ دري كيف أمكن لأغنية فيها كل هذا الايقاع الذكوري، أن تكون مفضّلتي!) ص 199 /
الغزارة في حوادث ووقائع االمُنجَز الروائي ينتظمها خيط رفيع، حاد، ذلك هو الحب، سواء كان الحب بمستوى البيع والشراء، أو الحب النابع من فطرة الحياة، فقد كان للحب المصلحي المؤقت بين (عماد) و(هايلدن) قدرته على خلق الزمن الخاص به، حيث مكَّن هذا الحب الزائف الروائية من خلق واكتشاف الكثير من المفاهيم والافكار، فالروا ئية العراقية (حور اء) هنا لا تريد أن تمر على ظاهرة الزيف دونما تشرح الظاهرة على صعيد قدرتها في تشويه العالم، فالزيف ليس قيمة هامشية في صلب التاريخ، بل له آثاره المدمرة، فلم يكن السلب في روا ية ا لنداوي قضية عابرة، بل ربما احتل مساحة جوهرية، ومن هنا لا نستغرب تزا يد الأرقام السا لبة في هذا العمل، عماد، زينا ــ التي يتغالب داخلها شر وخير بشكل حرج ومضطرب ــ مدرسة اللغة الدانمراكية، رضا، نكلا س وأخيه، كل هذه العينات وغيرها تعبير عن سلوب متنوعة الهوية، كا نت تعبر عن بشاعة وجودية، وما رست بشاعتها بعنف اخلاقي مخيف، وشراهة غير طبيعية للتدمير، وفيما يمارس الحب المصلحي دوره الباهت في صياغة واقعٍ ما، ينتصب حب الفطرة ليؤدي دوره الرا ئع، كانت ا لرواية هي أ حد ثمرا ت هذا الحب، بل هي التي أ تمت المشر وع، وارتفعت به إلى مستواه الذي وصلت إليه، فـ (رافد) يتلقى رسالة من (هدى) ترغب فيها أن يترجم عملها الروائي من العربية إلى الدانماركية ــ وهو الشاب المتزوج من (شذى) أحد بنات جنسه ودينه ووطنه وربما حتى مذهبه ــ لانها كانت تعرفه تفصيلا، يتجابه (رافد) مع صدفة متشعبة الحيرة، فهو لا يجيد الترجمة، ولم يلتق صاحبة هذه الرسالة مسبقا، وفيما تنهمك (هدى) في ترجمة هذه التجربة بكل تفاصيلها ودقائقها، كان (رافد) ينهمك بذات العمل على الطرف الآخر، تجربته هو، وبهذا تم إرساء الخطوط العريضة لهيكل العمل، وهو و إنْ كان عملا ينتمي إلى المدرسة الكلا سيكية في التقنية الروائية، ولكنَّ وقائعه المتشعبة، وسيل الافكار العميقة، و الصور الصارخة خاصة ذات التجاذب الجسدي يجعل من العمل صورة فنية مشرقة، ومتحركة، بحيث ينسيك رتابة التقنية الكلاسيكية وفنها التقليدي، ويدعوك إلى السير معه حتى النهاية.
لم يكن العمل عبارة عن خا مة ساذجة، بل هو عوالم تتوازى وتتداخل وتتقاطع، جغرافية وجنس وجسد وتاريخ، ولكن الناظم هو الحب...
الحب بكل ما يعنيه من شمول!
حب الوطن...
الحب كما هو تجاذب روحي بين جسدين...
حب الاهل...
حب الحب ذاتها...
الحب المعجون بعبق الشرق الذي ما زال يطعِّم منا فذ جسدها بالمعاني الواضحة الصريحة، توابله التي سخنّت فكرها ليتجلى بادي البشرة الروحية، شمسه التي ما زالت تعصف في داخلها بولع الذكرى المخزونة في ذلك العالم الخفي (اللاشعور)!
فليس غرييا أن يكون هناك حديث عن معارج دجلة وتقلباته الهائجة، وعن هدوء الفرات وانسياب مائه بهدوء، ولكن لم ينتهي أي شيء بهدوء، بل كان لقدر الغربة القاسي أن يحطم كل شيء... كل شيء..