حميد عقبي: فيلم الدواحة للمخرجة التونسية رجاء العماري لا تكمن اهميتة في القصة او حكاية ثلاث نساء يعيشن في قبو لقصر فخم ومهجور ولا يربطهن الكثير بالعالم الخارجي خصوصا الرجال الفيلم غني بالكثير من الرموز والدلالات تم طرحها بشجاعة وفي قوالب سينمائية متمتزة لاثارة الجدل حول مسائل شائكة خصوصا ما يتعلق بالجنس والحرية.
بدية الفيلم ملفتة للنظر في اللقطة الاولى تصور الكاميرا وهي بداخل القبو منظر خارجي طبيعي لشجرتين ضخمة بالامام واخرى لا تظهر بشكل واضح وكانها محجوبة بقصد وان كنا نبحث عن الحكاية فهذه هي الحكاية بكل بساطة ام في الستينات لديها نوع من السيطرة تحكم مجموعة صغيرة هي ابنتها الكبرى بالثلاثين او اكثر من عمرها وابنة صغيرة مراهقة مليئة بالحيوية والانوثة والرغبة والفضول لكنها حبسية مراقبة ومكبوتة وكلما تحاول التخلص من جلدها الطفولي والتحليق في عالم الانوثة تجد الردع والزجر ويتم اعادتها لمحيط ضيق بكل قسوة وعنف دون الفهم بان هذه الفتاة اصبحت انثى عنيفة ولديها الرغبة لنيل حريتها وممارسة اللذة الجنسية.
الام الكبيرة يمكننا ان نفهمها كاستعارة للعادات والتقاليد البالية والقديمة والتي مازالت تحكم اغلب المجتمعات العربية واغلب هذه العادات هي اشبه بقضبان وسجن يكبت المراة ويحد من حريتها بل وانسانيتها للتحول لمجرد وعاء وجارية تلبي شهوات الرجل ونزواته، الاخت الكبرى لا تختلف كثيرا عن الام ويمكننا ان نزعم هي اسبه بالسلطة التنفيذية التي تحكمنا اليوم فهي تجعل من العرف والتقاليد قوانيين مقدسة وتحكمنا بها وتبيح لنفسها بعض النزوات وهي تخاف من الخروج وكسر قانون العرف القديم حتى لا تفقد السلطة، والابنة الصغرى موجود بعالمنا العربي محكوم ومقهور ومخنوق بسبب هذه القيود ويحاول التحرر ويبحث عن وسائل لكنه يشعر بالخوف وعندما تزيد قبضة القهر والكبت والتسلط تتحول المحاولة الى ثورة عنيفة ومدمرة.
يعجبني ان افهم هذا الفيلم على هذا النحو واستمتع بمشاهدته من هذا المنطلق ولا ادري هل كانت المخرجة تقصد هذا ام لا ? ولا اود فرض هذه الرؤية ويمكن لاي مشاهد ان يفهم هذا الفيلم ويتذوقه كما يشاء ومهما اختلفنا او اتفقنا حول هذه القضايا فهذا الجدل يضاف الى مميزات الفيلم وغيره من الافلام القليلة جدا التي تنتج حاليا بعالمنا العربي ومثل هذه التجارب بحاجة الى دعم ورعاية كونها تحاول التعمق في الروح واظهاره ولا تكتفي بالسطحي والظهر الخارجي الذي قد يكون زائفا في بعض الاحيان.
عائشة الفتاة المراهقة تعيش مع اختها راضية وامها التي لم نعرف اسمها، الثلاث نساء حبيسات قبو قصر فخم من الخارج وواسع ومهجور من الداخل وهذا القصر مملوك لاحد الاثرياء ويظهر ان الام كانت خادمة في هذا القصر ، الثلاث نساء يعشن من زراعة حديقة القصر التي تظهر احيانا وتمارس الاخت الكبرى والام الحياكة التقليدية وبيع الانتاج هو الدافع للخروج من هذا العالم للعالم الخارجي ولكن العالم الخارجي ياتي لاقتحام هذه العزلة من خلال حضور ابن صاحب القصر مع صديقته سلمى البنت الجامعية المدنية المتحررة او مع اصدقاء وصديقات لممارسة اللذة والمتعة.
في القبو النساء الثلاث محرومات من الجنس ويكون الحمام هو المكان المناسب السري لاظهار الرغبة الجنسية، نرى في احد المشاهد الاخت الكبرى تمارس العادة السرية وهي واقفة وبشكل سريع وتغلق الباب وترفض فتحة للاخت الصغرى التي تظل واقفة بالخارج وهي تعلم ما يدور بالداخل، وفي مشهد اخر نرى الام تحاول الكشف عن رغبتها بالوقوف امام المراة وتدخين سيجارة، اما عائشة فمن بداية الفيلم تنهض وتسرع بالصعود الى حمام الدور العلوي الاكثر اتساعا ويحوي بعض الادوات التي تحاول عيشة التعامل معها لاكتشاف انوثتها والتعبير عن رغبتها ولذتها الجنسية مثل احر الشفايف او زجاجة العطر او موس الحلاقة، وهذه الاداة الاخيرة تم استخدامها بالفيلم بطريقة ذكية ومتعددة فرغم ان هذا الموس خاص برجل الا انا عيشة تحاول استخدامة اكثر من مرة لازالة شعرساقها وتكون النتيجة جرحصغير في المرة الاولى، المرة الاخيرة تستخدمة كاداة لقتل وذبح اختها الكبرى في نهاية الفيلم وربما يتولد لدى البعض فهم حول هذه الاداة الذكورية بانها لا تصلح لاضافة جمال انثوي بل هي اداة تصلح للقتل ولو اردنا الاسهاب والتحليل في هذه النقطة فنحن بحاجة لموضوع خاص، و هذا ما يميز هذا الفيلم حيث الادوات فيه رغم بساطاتها الا ان لها دلالات متعددة واستخدمت بذكاء ووعي فمثلا حذاء الكعب العالي الاحمر التي تجده عيشة في الغرفة بالدور العلوي تحاول استخدامه وبعد ان تسير خطوتين بصعوبة ينكسر هذا الحذاء ومع قدوم الشاب الغني وصديقته تهرب عيشة وتعود للقبو وبعدها ترمي سلمي بهذا الحذاء فتعود عائشة لالتقاطة ولبسه وعندما تسير به في الحفلة نراها تسير وهي تعرج وبسببه تتعرض للتوبيخ والضرب من امها واختها، ونجد ان عيشه كلما تحاول الدخول للحمام والتعبير عن رغبتها الجنسية تاتي الاخت الكبرى لاخراجها وتعنيفها وتهديدها باخطار الام ويتم اعادة الفتاة المراهقة بقوة الى الغرفة ومنعها من الاستمتاع بلحظات سرية خاصة.
جزء من العالم الخارجي بمغرياته الحديثة يحاول اقتحام العالم الداخلي المعزول والصامت، جدل بين القديم والحديث والذي يتحول الى صراع دموي مرعب يكون نتيجته موت سلمى على يد الاخت الكبرى، وسلمى الفتاة الجميلة والجذابة تحاول تحرير عائشة من سجنها ولكنها تتحول الى مسجونة هي الاخرى ثم الى ضحية في نهاية الفيلم، هنا الانغلاق لاياتي بسبب خارجي مباشر بل بسبب داخلي تمثلة سلطة تقليدية هي الام والاخت الكبرى ولا تنجح سلمى في اقناع هذه السلطات بالتحرر وعلى الاقل منحها حريتها مع التعهد بعدم الكلام واخطار الاخرين، نجد عيشة كنموذج للجيل الجديد المقهور الاكثر قربا من سلمى وتحاول بكل وسيلة الاقتراب والاحتكاك الفيزيائي الجسدي المباشر معها وتصفها بانها جميلة وسلمى تنمي في عيشة فكرة الهرب ووصف العالم الخارجي الجميل والمدهش وان قلنا ان سلمى استعارة للذة والحرية للجيل المدني المتحرر الا ان لديها اسئلة عديدة حول الحب وصدق العلاقات الجنسية مع حبيبها الذي تركها ولا تعلم هل سيعود وهل مازال يحبها ام لا ?
الا ان سلمى العنصر الهام الذي سوف يحرك الثورة العنيفة بداخل نفس عيشة وتدفع حياتها مقابل هذا التدخل، ونجد في بعض المشاهد ان الاخت الكبرى هي ايضا معجبة بسلمى وتحاول الاحتفاظ بها والاحتكاك الجسدي المباشر وتظهر سلمى مع الاخت الكبرى بالحمام، تقوم راضية بغسل جسد سلمى ونرى الاخيرة عارية وهنا التعري لم يكن مجانا او تم تصويرة لاثارة عرائز سخيفة كحال بعض من الافلام العربية التي تستخدم التعري لجذب نوعية من الجمهور، هنا الجسد الانثوي العاري تم تصويرة باسلوب فني تشكيلي جيد، في مشهد اخر عندما تكون عيشة وامها واختها بالمدينة وفي محطة انتظار الباص نجد فتاة شابة متحررة وكانها تتحدث لصديق وعندما تجلس عائشة تحدق النظر في السيقان العارية والجذابة للفتاة وترفع ساقيها المغطاة وكانها تقارن بين وضعها ووضع الفتاة.
لا اميل كثيرا لسرد الفيلم كقصة او احداث، دعونا نحلق مع الدلالات مرة اخرى سواء الداخلية او الخارجية مظهر القصر بالخارج والذي تكرر لاكثر من عشر مرات في شكل لقطة عامة حيث مظهر القباب والابراج له ايحائات جنسية واضحة تقترب كثير من العضوء التناسلي للرجل قبتين وبالوسط برج او قبة بجانب برج اي دائما نجد شي مكور واخر مستقيم وعمودي.
فكرة السجن والانغلاق واضحة سواء في المشاهد الداخلية او الخارجية بالداخل تكررت لقطة اكثر من مرة لطائر محنط يمد جناحية ومجسم صغير تم عرضه اكثر من مرة لطائريين صغيرين، الاجواء بالداخل كئيبة والحوائط مهترئة والنوافذ في اغلب الاحيان مغلقة ورغم ان هذه النوافذ مصدر هام للضوء الذي ياتي من الخارج ووسيلة للاطلاع على العالم الخارجي مع قدوم اي سيارة او الشاب مع صديقته تحلق النساء الثلاث لمشاهدة ما يدور بالخارج ولكن الام في الاخير تفضل اغلاق النافذة وتمنع
عيشة من الاستمرار بالتحليق اكثر، وفي احد المشاهد مشهد الحفلة الصاخبة تتفاعل عيشة مع الايقاع الموسيقي وتعبر عن هذا التفاعل بتحريك قدمها بهدوء.
كانت المخرجة موفقة وتركت بعض الاسئلة بدون اجابة ولو انها اسرفت بالشرح والتوضيح لفقد الفيلم جزء كبير من جمالياته وقد لا يتفق البعض مع النهاية المرعبة والصادمة والتي كانت بمقتل الام خنقا والاخت ذبحا وخروج عيشة من عزلتها بثوبها الابيض المغري، وقد نلاحظ بقعة من الدم اسفل البطن فهل هذا الدم هو دم الاخت المقتولة ام ان عائشة تخلصت ايضا من بكارتها بعد الثورة ضد الاستبداد? مثل هذا الفيلم خطوة شجاعة لمخرجة سينمائية حاولت كسر بعض التابوهات وهذا الفيلم يستحق المشاهدة والتشجيع ونتمنى ان تجد مثل هذه الاعمال الدعم والرعاية والتي تحاول الكشف عن الدواخل والروح الانسانية وتدافع عن قضايا المراة العربية التي تعاني من العزلة والاستعباد وقد تكون النهاية صادمة ولكننا فعلا بحاجة الى هذه الصدمة العنيفة لاجتثاث النظم المتخلفة والتي مازالت تحكمنا للاسف الى اليوم وانا اتفق شخصيا مع اطروحات هذا الفيلم واقول الدواحة فيلم جيد بافكاره واسلوبه ودلالاته الفنية المتعددة.

هامش
الدواحة انتاج 2009 انتاج تونسي فرنسي سويسري قام باداء الادوار حفصية الحرزي - ريم البناء -سندس باحسن -هيام عباس وظافر العابدين

كاتب المقال سينمائي يمني مقيم بباريس