عبد الله كرمون من باريس: ظل رجلان يطاردان الشيطان طيلة حياتيهما القصيرتين، يتقمصانه تارة ويتحالفان معه تارة أخرى، حتى ضاعا في طرقات لابد أنه هو من شقها بنفسه خصيصا لهما: أولهما إدغار ألان بو وثانيهما هو شارل بودلير ؛ علمان على رأسهما نار، على أن الرابط بينهما فضْلا عن قصة الشيطان التي ذكرتها هو أن الأخير هو من ترجم الأول، وقدمه بالفرنسية لأول مرة. ولم يفت، تحديدا، أية مناسبة تتاح له كي يؤكد فيها: quot;لقد ترجمته لأنه يشبهنيquot;.
اجتمع الملعونان في شأن شيطان كان الأول يفك تعقيدات السر الذي يلفه بينما يأتي الثاني نفس الشيء وبكثير من الحذر في لغة أخرى طوّعها ما أمكن لقدسية التعزيم السحري الذي لا منقذ من شره متى فسد.
يتعلق الأمر بإعادة إصدار دار أليا الباريسية لنص quot;لاعب الشطرنج لصاحبه مايلزيلquot; الذي نشره إدغار ألان بو سنة 1836، وأخرج بودلير ترجمته في quot;العالم المصورquot; سنة 1862، قبل أن يضمها في كتاب مع أخريات لبُّو سنة 1865.
أتى إدغار على ذكر لاعب الشطرنج الآلي الذي صنعه فولفغانغ فون كمبلين سنة 1770(أشار بُّو هو إلى سنة 1769) كي يسلي به ماري تيريز إمبراطورة النمسا وقتئذ، وأطلق عليه اسم التركي الميكانيكي، لأنه اختار له هندام تركي جالس، وليس الأمر مجرد اتفاق عابر على ما يبدو. وقد عرض في باريس سنة 1783 وبزّ في اللعب بنيامين فرانكلين سفير أمريكا في فرنسا حينئذ.
ولدى موت كمبلين حصل عليه ميكانيكي يدعى جوهان مايلزيل وعمد إلى عرضه في عدة عواصم أوروبية. وقد تمكن إدغار ألان بو من الحضور لمشاهدة التركي يلعب الشطرنج في أمريكا عدة مرات، بعدما فر إليها مايلزيل سنة 1826.
سوف يتاح لإدغار أن يصوغ فيما بعد شخصية روائية انطلاقا من اللاعب الآلي، غير أنه سيكتفي في النص الذي نحن بصدده بهتك ستر الشيطنة الكامنة خلف آلة تتقن لعب الشطرنج.
يقدم كمبلين التركي على أنه مجرد آلة صنعت خصيصا لذلك الغرض بإيعاز من عبقرية خالصة، في حين يتردد مايلزيل هو في إعطاء جواب شاف حول الموضوع كلما سئل عنه.
لهذا قرر إدغار ألان بو أن يتصدى للموضوع، بعدما وقف على عجز الذين حللوا الظاهرة من قبله في النفاذ إلى عمقها. ذلك أن أغلبهم خُدعوا بالآليات الفعالة التي حرص مايلزيل على توظيفها من أجل إخفاء خدعته. لكن بُّو هو لجأ إلى التحليل المنطقي مردفا بقوة الملاحظة، من أجل تعرية الحيلة المدبرة وكشفها للعيان. ابتداء من إثارته الانتباه إلى كون الشطرنج لا يستدعي الانتظام والتسلسل في اللعب مثل البرهنة الرياضية لأنه ميدان الفعل ورد الفعل، لذلك لا يمكن التكهن مسبقا بالحركة التي سوف يأتيها الخصم، ما يجعل ضبط التركي الآلي للعب الشطرنج في نظره أمرا مستبعدا.
ثم ألح بُّو على أن الصندوق الضخم الذي جعله منضدة وكرسيا للاعب الآلي مكمن لرجل آخر يدير اللعب مكان التركي وليس حيزا تشغله الآلات المحركة للاعب حسب صاحبه. أفادته ملاحظته الثاقبة في التكهن بمواطن انزواء الرجل المفترض أنه يتخفى فيها، كلما قام مايلزيل بالكشف عن أحشاء صندوقه بدربة هائلة، كي يؤكد للناس بما لا يترك مجالا للشك بأن الصندوق لا يشتمل سوى على الآلات اللازمة وأن التركي في نهاية الأمر محض آلة.
ركز كذلك على عناصر أخرى تفضح استراتيجيات الرجل لمن يحسن أن يلحظ ويتمعن، من قبيل كون مايلزيل لا يفتح أبدا الصندوق برمته دفعة واحدة. لأن بُّو لا يشك لحظة واحدة في تدخل الإنسان في العملية، غير أن ما يهمه كما أسلفنا، ما قد يختلف عليه اثنان هو كيفية ذلك فقط. لأن مايلزيل كان يحرص أشد الحرص على إتيان الحركات اللازمة لفتح أجزاء الصندوق تباعا وفي تناوب متفق عليه مسبقا بين الطرفين، كأن ينبهه بإعمال المفتاح في قفل قبل أن يفتح جانبا، كي يوفر للرجل المتواجد في الداخل فرصة الانتقال إلى جانب آخر من فضائه دون أن تباغته أعين النظارة المرتابة. أما حيلة استعمال مايلزيل للشموع لإنارة داخل الصندوق فتبقى مجرد حيلة، لأن ضوءها الخافت لا يمكّن في الواقع من تمييز ما يتواجد بالخلفية.
غير ذلك فقد فسر بُّو بدقة وبتفصيل كيف يعمد الرجل إلى كشف محتويات الصندوق، وما هي الأجزاء التي يريها قبل غيرها، وهو الترتيب نفسه الذي يحافظ عليه بروتينية كل مرة، وحده الباب ذو المصراعين مثلا يُغلق دائما قبل الدرج، فيما يخص فتح الصندوق.
هناك أيضا الشموع العديدة التي يصففها قدام التركي الآلي، والتي يتفاوت طولها وذلك حسب موقعها من اللاعب أو من الجمهور، لأن تلك الترتيبات ليست اعتباطية إذ رأى فيها بُّو حرصا من مايلزيل على أن يتمكن الرجل المتخفي داخل هيكل الآلي من أن يبصر الرقعة جيدا من خلال النسيج الشفاف الذي غُطي به صدر التركي، كما تعمل الأخريات منها على خلق إئتلاق يبهر عين النظارة.
أما قعود الخصم، الذي يتم اختياره عفويا من بين الجمهور، على مبعدة من التركي وبشكل جانبي فقد تم تبريره بجعل النظارة لا يفوتهم أي جزء من العرض، بينما يرى بُّو أن في ذلك تحسبا لدرء كل تنصت للخصم لأنفاس الرجل المتواجد داخل هيكل اللاعب الآلي. أما لغز لعب التركي باليد اليسرى فهو مثير للفضول، غير أن السر في ذلك هو أبسط مما يمكن توقعه، ذلك أن من اليسير على الرجل المختبئ داخل الآلة تحريك اليد اليسرى للدمية بيده اليمنى التي يمررها بمحاذاة صدره.
هي ملاحظات كثيرة وذكية أتى إدغار ألان بُّو على ذكرها، تفند فكرة كون آلة ذكية تلعب الشطرنج، بأن تتبع مواطن الضعف في نسيج أحبولة مايلزيل، بل التي ورثها عن صانعها. هناك أمر مثير للشكوك، متعلق بالرجلين، لم يكن الناس يرون حقا كونه له علاقة وطيدة بالتركي الآلي، وهو أن البارون كمبلين كان يلازمه دائما رجل إيطالي لا يفارقه أبدا، إلا أنه لا يُرى له أثر أثناء عرض لعبة الشطرنج تلك، ولما أصيب بمرض توقف العرض. سُجل نفس الأمر، فيما يتعلق بمايلزيل، إذ أن رجلا يدعى شلومبرجر كان يرافقه ويساعده في تحضير الآلة وجمعها، ولا يعرف له حضور أثناء العرض أيضا.
لا يعني في خضم التقدم التقني الذي يشهده العالم اليوم أن مثل هذه الافتراءات لم تعد تنطلي على الناس نهائيا، وإنما تغيرت الأساليب، واتخذ الدجالون لهم برك صيد أخرى، غير متوقعة أحيانا.
إن نص إدغار ألان بو هذا يوري للذين يعرفون فقط قصصه الغريبة أن للرجل وجوها أخرى، لا تكتمل عبقريته الفذة إلا باستحضارها جميعها، إضافة إلى أن ملكة التحليل والاستنباط التي يشهد عليها هذا النص جديرة بجعل الرجل من بين مصاف الكتاب الذين يفكرون وليس فقط الذين يكتبون، لأنه شتان ما بين الأمرين.
بغض النظر عن التذكير بهذا التركي الآلي لاعب الشطرنج وما أثير حوله من جدال، فإن كتابة إدغار ألان بو عنه، وترجمة بودلير للنص، أمر جدير بمقارنته بمقاضاة الشيطان أو باللعب بالشرر معه، غير أن الأنكى في الأمر، كما كتب بودلير، هو إذا أقنعنا الشيطان نفسه بأنه غير موجود!
[email protected]