د.خالد السلطاني: اتوق (هل اقول أطمح؟!)، أن ارى العمارة الاسلامية في موقع يليق بها، موقع تستحقه فعلا وتشغل به مكانتها، ومكانها كاملاً في منتج المشهد المعماري العالمي وتنويعاته الاسلوبية، هي التى اقصتها طروحات quot;التمركزquot;؛ (التمركز الاوربي على وجه الخصوص)، الى مواقع مهمشة، بدت فيها، وكأنها لا يمكن لها أن تؤدي دورها الطليعي والهام في مهمة إجتراح إضافة معرفية للمنجز الثقافي الإنساني، أو إظهار تلك الإضافات في خطاب ذلك المنجز. سوف اتجاوز، هنا، سجالات إشكالية تحديد مصطلح quot;العمارة الإسلاميةquot; ذاته، ومدى دقته وموضوعيته. اذ أثار هذا المصطلح وما انفك يثير كثيراً من النقاش والجدل حوله؛ فيما اذا كانت ثمة عمارة quot;إسلاميةquot; فعلا، أم إن هذا المصطلح يتعين إيجاد بديل له،

لوحة مرسومة على جدران quot;قصير عمرةquot; لخليفة او أمير أموي، (711-715م)، بادية الأردن

يعكس بشكل وبآخر عمارة الشعوب المتنوعة إثنياً، وثقافياً، وجغرافياً التى انضوت تحت راية الإسلام. لكن هذا التجاوز، لا يتعين ان يفهم كذريعة لتغييب حضور ذلك النشاط المعماري الفعال؛ والذي بدء يتكوّن ويظهر بقوة ووضوح في عمارة كثير من البلدان، التى اعتنقت الإسلام ديناً، وجعلت منه مرجعاً ثقافيا وإجتماعياً وسياسياً، وهي المصادر اياها، التى بمقدورها ان تؤسس لظهور إتجاه معماري مغاير.
أشعر أن إهتمامي بموضوعة العمارة الإسلامية، يمليه عليّ واجبي المهني والنقدي؛ مضاف اليه ولعي الشخصي بها. اشعر ايضاً، ان هذه الموضوعة قد اسيء لها كثيراً، وأمست، أحياناً، quot;ثيمةquot; لتجاذبات مختلفة، قد تكون ذات أهداف غير مهنية، وبمقاصد غير موضوعية. لا يمكن، بطبيعة الحال، للمرء بمفرده مهما اوتي من نشاط، وأهتمام، وولع، ومهنية، أن ينهض لوحده في إعادة ألاعتبار لهذا المنجز الحصيف. يتعين الإقرار بان التعاطي مع تلك المهمة، يجب ان تكون فعلاً مؤسساتياً، يشترك بها كثر من المهتميين، كل حسب إهتمامه في رسم بانوراما حقيقية وواقعية لها. وقد يكون هذا الشعور، هو الذي دفعني مؤخراً، للإهتمام بموضوعة عمارة القصور الإموية، كاحدى تجليات منجز العمارة الإسلامية، وهو مجال رحب، تستوجب إعادة القراءة له مجددا، نظراً للاهمال، والإجحاف، والتغييب، والتهميش، التي لحق بها من قبل كثر من الدارسيين العرب، والدارسيين الاقليميين وغير الاقليميين على حدٍ سواء.
يهمني، بالطبع، عدم الركون الى يقينية quot;الثوابتquot; المعرفية، الرائجة والمتداولة كثيراً عن العمارة الإسلامية. يهمني طرح اسئلة شائكة (واحياناً مشاكسة!)، تستفز المألوف والمتعارف عنها، وبالتالي تحث الفكر على رفض التقوقع، ناهيك بالنأي بعيداً عن التمسك بالقراءة الآحادية لما انتج معمارياً. يهمني، ايضاً، تناول المسكوت عنه في العمارة الإسلامية، والمهمش، والمغيب، واللامفكر فيه، سعياً وراء تكوين مقاربة نقدية، توفر لي، قراءة quot;ثانيةquot;؛ استدل بها عن دلالات ما انتج سابقاً، وقيمة ذلك المنتج تصميمياً، والكشف عن ريادته لافآق معرفية ومعمارية جديدتين.
عندما نشرت مقالاً، قبل فترة، عن عمارة القصور الإموية، كاحدى ممارسات منتج العمارة الإسلامية والرائدة فيها، تفاجأ احد قراء مقالتي عن نشر صورة لأمرأة عارية موجودة على احد جدران تلك القصور. وقد كانت تلك الصورة، تمثل مع بقية الصور الآخرى، المزدحم بها الفضاء الداخلي للمبنى، قيمة تكوينية خلاقة، كرست خصوصية عمارة القصور الإموية ورفعت من تفردها في المشهد المعماري العالمي. وقد كتب معلقاً، في حينها، مبدياً شكوكه بوجود quot;..مثل تلك الصور معلقة او مرسومة...في قصر احد خلفاء بني أمية، ... لانه لا يمكن ان يتساهل المسلمون...مع الصور التى

تفصيل من اللوحة السابقة: إمرأة تغتسل (من المحتمل زوجة الامير او عشيقته)، ورجال ينظرون لها من شرفة عالية. (توثيق الفريق الإسباني، 1975).

حرموها عن بكرة ابيها (التأكيد لي. خ. س.)، فما بلك صور النساء، ومن ثم عراة او عريانات!!!!. ..لذلك اشك ان تخص هذه الصور lt;قصورgt; بنى امية او المسلميين... والا يجب ان يعاد النظر في كل ما كتب عن المسلمينquot;.
(رابط المقال مع التعليق في الآتي: اضغط هنا
)
ارى في تعليق هذا القارئ الكريم (وهو معمار، كما عرّف نفسه) نموذجاً يختزل ويعكس تصورات شائعة، منتشرة بصورة واسعة في اوساط متنوعة، بضمنها الاوساط المهنية. ولهذا ، فإني، طبعاً، أفهم شكوكه واقدرّها. ذلك لان الحديث عن quot;التحريمquot;: تحريم الصور او المنحوتات، هو حديث مترسخ في ذهنية الجميع، وهو حديث بذل الدارسون بضمنهم الغربيين، (وخصوصاً الغربيين!) قدراً كبيرا من الجهد في شيوعه وتكريسه، ما يجعل التشكيك بوجود مثل تلك الصور وتغييبها، امراً عادياً، ومنتظراً، وحتى... quot;واجباً!quot;. بيد اني، هنا، لا انوي الدخول في سجال حول هذه الإشكالية، فليس هذا مكانها (لطبيعة المقال وأهدافه). لكني اود ان اشير بان هذه الصورة (وغيرها كثير!)، ليست انتحالاً، كما انها ليست إفتراضية. انها صور حقيقية وواقعية لما هو موجود في quot;انتريرquot; القصور الاموية، (وفي غيرها من المنشآءات الاسلامية بمناطق مختلفة من العالم الاسلامي)؛ الأمر الذي يثير تساؤلاً مشروعا عن مدى صدقية quot;إطروحةquot; التحريم، المروج لها كثيراً. بل ان ثمة تساؤلاً (هو الاخر،اراه، مشروعا!)، يتبدى حاضراً، عن كيفية تمكن البعض في عرض قدرتهم على إسدال ستائر قاتمة من النسيان والتغاضي لما هو موجود واقعا وقائماً، ومن ثم quot;جعلناquot; نتباهي(!) بعدم تصديق ما تراه العين البشرية؟!.
لا يدخر وسعاً، الخطاب النقدي المعاصر في تقديم انواع مختلفة من الطروحات والمقاربات، المهتمة في الكشف عن الحدث/quot;النصquot;، وإعادة قراءته من زوايا مختلفة؛ فضلا على حضور التأويل (التأويل بمعناه الواسع)، كآلية توظف في مقاصد اثراء الفهم نفسه؛ الذي quot;..يسمح لنا بإعادة تعريف الأشياء ليتسع معنى الحقيقةquot;، كما يقول احد النقاد. فالنص المقروء، لا يتوقف عن كونه مجالا quot;لتوليد المعاني واستنباط الدلالات عبر عملية الفهم المنتجة من النص نفسهquot;. وهذا الامر، يحيلنا الى مقاربه تعتني باللغة، بكونها lt;بنية مولدة للمعاني، وأن المعنى نشاط لغوي أولا وأخيراgt;، كما يذهب، مثلاً، علماء الالسنية على وجه الخصوص. بيد إن التعاطي مع اللغة quot;المولدةquot; للمعاني، يتعين ان تمر عبر quot;مرشحquot; التصنيف الثلاثي للعقل العربي، كما يراه محمد عابد الجابري، وهو (البيان، العرفان، البرهان)، وكل منه، يمتلك نظامه المعرفي ومعاييره التى تحدد ميكانيزم عمله تجاه الحدث المدروس، ولاسيما البيان، كأداة معرفة، لا تنحصر مهمته في إطار اللغة، وأنما يتبدى quot;اساساً منهجياً للاستدلالquot;، يمتد تأثيره الى علوم آخرى. بمعنى آخر، ينظر الآن الى lt;اللغةgt;، ليست بوصفها مجرد quot;..صناعة خطابية وقوالب من المواضعات المنطقية الجامدةquot;، ..وإنما عملية إنتاج معانٍ، وإعادة فهم دائم لتلك المعاني المتولدة.
في هذا المنحى، فإن الكتاب الصادر حديثا، (2011) في لندن ونيويورك، لمؤلفه quot;محمد حمدوني علميquot; الباحث في جامعة بيركلي/ كاليفورنيا، بالولايات المتحدة، المعنون quot;الفن والعمارة في التقاليد الإسلامية: الجماليات، السياسات والرغبة في صدر الإسلامquot; M. H. Alami; Art and Architecture in the Islamic Tradition; Aesthetics, Politics and Desire in Early Islamrdquo; ، يعد نموذجا جيداً للموضوعة التى تحدثنا عنها تواَ. اذ ينشد المؤلف عبر اللغة، الى رؤية وتحليل الحدث المعماري الإسلامي في عصوره المبكرة. قد لا يتفق احد مع ما ذهب اليه المؤلف، ذو الاصول المغاربية، لكنه بالتأكيد يشير الى وسع الرؤى وتعددها، حيال ما انتج معماريا، وتحليل ذلك المنتج، وقراءته قراءة آخرى. فهو في هذا الشأن يضيف بعدا آخرا في مجال امكانية فهم وادراك العمارة الاسلامية أبان زمن التأسيس.
لا ريب، أن مؤلف quot;الفن والعمارة في التقاليد الإسلامية..quot;، تاق ان يكون كتابه مثيراً وطريفاً في آن. نظرا لمحتواه المميز ومنهجه في طرح المادة التى يستعرضها في كتابه. نحن، ايضاً، نشارك شعوره هذا، ونرى بانه كتاب مثير وطريف. وإعجابنا بالكتاب، لا علاقة له، بالخصوصية quot;المغاربيةquot; او quot;المشارقيةquot;، التى سعى وراء تأكيد حضور تباينها الذهني، مواطنه الجابري ذاته، (والذي نتحفظ على إطروحته هذه، ولا نقرّ استنتاجاته في هذا الخصوص)، هذا على الرغم، من اننا استشهدنا باحدى إطروحته قبل قليل.
إن طبيعة المقال، لا تتيح امكانية عرض وافي للكتاب، لكني ساسعى، في عجالة، الى التذكير، في الاقل، بفصوله ومحتواه. يهتم المؤلف بــ quot;الغموضquot;، أو بالاحرى quot;الشعور بالغموضquot;، ويعتبره احد المصادر لفهم العمارة في صدر الإسلام. ثم يطرح رأيه في مفهوم quot;العمارة واللغةquot;، ويتحدث عن الروابط والعلاقات والمصادر، التى يمكن بها ان تدرك العمارة عن طريق اللغة. ثم يتطرق الى مفهوم quot; المعنى والمبنىquot;. والى تشابك الفنون. ويرى ان هدف كتابه، يتمثل في طرح اسئلة مختلفة، ورسم متوازيات مع توظيف المصادر الادبية المتاحة، التى لم تستثمر كاملاً. يشير quot;محمد حمدوني علميquot; بان كتابه quot;يقدم برهاناً بان العمارة الاموية والعباسية اعتمدت على lt;طريقة عملgt; (او كما يدعوها، وفق العبارة اللاتينية quot;مودس اوبرانديquot; Modus operandi )، التى تغدو quot;الوظيفية الشعريةquot; فيها هي المهيمنة والسائدة. اذ تتلاقى الوظائف الدلالية والرمزية وغيرهما، في الاعمال المعمارية، لكن تأثيرها ما برح ان يظل معني في اظهار الابهام والغموض، كاحد الوظاف الشعرية الاساسية. وكما يكتب المؤلف، quot; بالضد من الاراء السائدة، التى تعتبر الغموض، كعقبة في إدراك المعنى الفني للعمارة في العالم الإسلامي، فان كتابي يلفت الانظار الى الدور الاساسي للغموض في شعرية العمارة بشكل عام وفي العمارة lt;الإسلاميةgt; بشكل خاص. من هنا فان مداخلتي تطور التوازي بين الشعرية العربية والنظريات اللغوية من القرن الثامن وحتى العاشر، وكذلك العمارة في الفترة نفسها quot; (ص. 27). ويضيف بان بحثه سيركز على خمس قضايا اساسية، كل منها يقود الى مسار خاص ينطوي على شبكة من الاسئلة المختلفة، الخاصة بتاريخ الفن والعمارة في القرون الإسلامية الاولى. quot;وعلى خلاف كثر من الاراء المتداولة في هذا الحقل، يكتب محمد علمي، فانا اسعى وراء تبيان بان المؤلفين الاسلاميين الاوائل طوروا نظرية إلادراك البصري، عبر تفحص مؤلفات مختلفة سواء كانت نظرية أو لاهوتية (دينية)quot;.
في الفصل الثاني، (بعد ان كرس الفصل الاول للتمهيد في كتابه)، يتناول المؤلف quot;المبنى والمعنىquot; في نظرية الجاحظ، ويمتحن مفهوم quot;البيانquot; المشار اليه في quot;كتاب الحيوانquot; وفي quot;البيان والتبيينquot;، والتى فيها تتمظهر العمارة (البنيان)، كوسط اساسي، مماثل الى الكلام والشعر. ان هذه الفكرة تدعم مفهوم الإهمية الكبرى للعمارة كمكوّن quot;للبيانquot;، في كلتا الحالتين: الجمالية الإسلامية، وبشكل اكثر اساسي، في الحياة المعاشة نفسها. وفي هذا الفصل

راقصتان مرسومتان على جدار قصر خليفة عباسي في سامراء، (منتصف القرن التاسع).

فان المؤلف ، يتوق الى اعطاء قيمة منهجية لنظرية الجاحظ quot;للبيانquot;، كما اتت في كتابه. في الفصل الثالث يتناول quot;العمارة والشعريةquot;. وفي الرابع، يتحدث عن quot; العمارة والحكايةquot;؛ الذي ينشد فيه تحليل الحكاية (الإسطورة) العربية للعمارة المهيبة ( وكما تجسدت في اعمال الهمذاني وغيره)، بغية إظهار الصفة الاساسية للغموض في الإدراك الإسلامي للعمارة والفنون. اما الفصل الخامس فخصصه الى موضوع quot;الجاحظ في مسجد دمشق: النقد الإجتماعي والمناقشات في تاريخ العمارة الإمويةquot;. وينهي كتابه بالفصل السادس المكرس الى quot;العمارة والرغبةquot;.


ويظل كتاب quot;الفن والعمارة في التقاليد الاسلامية..quot;، أحد النصوص، العابقة باريجها العطر والمميز، عند ضفاف quot;مجرىquot; القراءة الثانية للعمارة الإسلامية. والتى هي وغيرها من النصوص الجادة وغير النمطية، تجعل من مياه ذلك المجرى quot;المهنيquot;، أوسع رحابة، وأكثر صفاءاً، والأهم تبقيه ... زاخراَ بالحركة والطزاجة!.□□

د. خالد السلطاني
مدرسة العمارة / الأكاديمية الملكية الدانمركية للفنون

تخطيط مرمم، للتفصيل في اللوحة السابقة، (من عمل الفريق الفرنسي، 2007)