محفوظ: المجامل على حساب الحقيقة!

يتوجّب عليّ القول، منذ البداية، أنني لم أرتح لنجيب محفوظ كشخص. لم أجده فناناً، كما وجدث مثلاً توفيق الحكيم ويحيى حقي. بل وجدت نفسي أمام quot;أستاذ وأب وموظف عريق تليدquot;. بل أمام رمز من رموز البيروقراطية المصرية، التي لعلّها _ من يدري- أول بيروقراطيات التاريخ.
حضرت له جلسات كثيرة، وكان واضحاً مدى ميله للمجاملة على حساب الحقيقة. وهو الأمر الري نفّرني منه غير مرة.
وقد أكون، في كل ما سبق، أسير نظرة ضيف لا يعلم بواطن الأمور، ويحكم عليها من خارجها .. أو شيء قريب من هذا. لست متيقناً. في الحقيقة لست متيقناً. فثمة من المصريين الأصلاء من كتبوا عنه، بعد موته، فخالفوني تلك النظرة. بل أتوا بنقيضها التامّ.
عموماً سأكتب عما رأيته وسمعته، وللقرّاء مهمة التأويل، من قبل ومن بعد.
ذات يوم قابلته، وكان الحضور قليلاً على غير المألوف. قدّمت نفسي إليه كقارئ معجب لا أكثر، أتى على جميع ما كتب، حتى على مقالاته العادية الضعيفة بالأهرام، قال:
_ الأخ عربي؟
قلت:
_ عربي فلسطيني. فجفل.
وحاول أن يتجاهل الموضوع، بالانتقال لحديث آخر مع شاب مصري. أوغل في مديح ما سمعه منه من قراءةٍ لقطعة أدبية دون المأمول.
لقد كانت هذه عادته: خلط الحابل الأدبي بالنابل.
ولكَم فعلها في مقابلاته الصحفية!
حين يُسأل عن أهم التجارب الشابة، يخلط المهمين بالتافهين. لمَ؟ لا أعرف. كان هذا طبعه، ولم يرقني هذا في يوم من الأيام.
شكوت لأحد الأدباء المحترمين، ما سمعت فضحك، وقال قولة لا أنساها ابدأ
_ لسا ياما تشوف وتسمع!
رحمك الله يا أصلان!
كان نجيب في لقاءاته بالأدباء في ريش وغيره، معروفاً بصفات ثابتة. منها الجبن، والتحفظ والكلام بحساب وحتى البخل. وكان أخشى ما يخشاه غضب السلطة عليه. لذا، كان يتهرّب لو سئل عن قضايا سياسية راهنة. عن هموم طاحنة يعاني منها المجموع.
لم يكن صريحاً مع حاله وحالنا إلا عندما يكتب. خارج الكتابة هو الصورة النمطية للموظف البيروقراطي. أو شيء قريب من هذا.
لذلك أفضل لك أن تقرأ نجيباً من أن تجالسه. أو كما يقول أهل العراق: تسمع بالمعيدي ولا تراه!
كان يبدو في جلساته، رجلاً متوسط الحال، ثقافة وسلوكاً، لا ذلك العبقري الذي تبهرنا كتابته.
وأظن أنه برع في وضع حواجز لا حاجز بين نصه وشخصه.
إن خيبتي بلقائه، ليست جديدة، فلطالما خاب ناس من قبلي. لكنّهم لم يكتبوا ذلك، خوفاً من المسّ بالأيقونة، أو اكتفاءً بأنهم كلّموه، وفي هذا ما فيه من مجد، وكفى.
الوحيد، فيما قرأت، الذي كتب دون خشية وحساب، هو الشاعر التونسي خالد النجار.
نجيب كان في السنوات التي اقتربت منه فيها ( 81، 82، 83) متواطئاً مع سلطة السادات. هذه هي الحقيقة. كان شديد الحرص، على ألاّ يختلف معها. على طلب ودّها. ومن يقرأ مقالاته الأسبوعية في تلك الفترة بجريدة الأهرام، سيعرف دون تمحيص وتعب.
ولعلّه يذكّرني بمحمود درويش، في هذه الناحية.
كلاهما من نفس الطينة. كلاهما حريص ألا يغضب السلطة. كلاهما، يصدر في ذلك، عن تربية تقليدية، ومنظور بطريركي رجعي. كلاهما نظر للسلطة، بوصفها الأب الأرضي الأعلى!
قابلته عدة مرات. ولم يبلّ ريقي في مرة.
كان يبدو دائماً، متوازناً، راضياً، لا ينقصه شيء. وهذه السيكولوجية مضادّة لطبيعة الفنان.
هل كان كل هذا قناعاً برع في وضعه على وجهه ولسانه؟ ربما لا وربما نعم.
لكن الأكيد، أنك لن ترى في جلسته مهما طالت، شبحَ الفنان أو نزق الفنان، أو ضعف الفنان، كما رأيت ذلك أنا عند حقي والحكيم رحمهما الله.
نجيب غيرهما.
نجيب له حسابات وتوازنات .
قد أكون مخطئاً.
قد أكون مصيباً.
قد أكون نصف نصف.
لكن هذا هو انطباعي الأخير عنه، حتى وهو ميت منذ سنوات.
طبعاً، كل ما سبق لا يقلّل قيد أنملة من قيمة أدبه الخالد. تلك الثلاثية الأجمل في الأدب العربي. والتي ما زالت الأجمل. تلك الحرافيش التحفة. وسواهما وسواهما.
رحم الله نجيباً النجيب.

إدريس: الصخب نهاراً، والاكتئاب ليلاً
هو الكاتب الذي يخدعك في انطباعك الأول عنه. بالأحرى: الكاتب الذي تظلمه لو ركنت إلى انطباعك الأول عنه.
أظنّ أنّ هذا هو تلخيص معقول ليوسف إدريس.
قابلته ورأيته مرات.
في 82 بمكتبه بالأهرام. بعدها بمسرح الطليعة بالعتبة، حين عُرضت مسرحيته: quot;المخططينquot;.
الثالثة في المقر الرئيسي لحزب التجمع، وكانت لمرور أربعين يوم على وفاة أمل دنقل.
أما الرابعة وغيرها وغيرها ففي مقهى ريش.
وفي المرات كلّها، كان يوسف هو هو: تحسبه زعيماً لا أديباً. رئيس حزب ثوري لا أبا القصة المصرية الحديثة في أبدع وأبسط تجلياتها.
كانت تلك الفترة من أسوأ فترات عمره كمبدع، وربما كذلك كمواطن.
كان يعيش quot;أزمة نضوبquot;، كما قيل. وكما صدّق هو ما يقال.
وكان يكابر، ويشاكس، ويفتح ألف مسرب للصخب، كي يغطّي على تلك الأزمة.
واليوم، إذ أعود لملابسات ذلك الزمن القاسي، وقد فهمت قليلاً ماذا تعني الحياة وماذا يعني أن تكون مبدعاً _ اليومَ، أقول: يا كم ظُلم يوسف إدريس. بل: يا كم ظلَم َهو نفسه!
ظُلِمَ: فقد كان بعض من حوله يتكلمون عن إفلاسه القصصي. وبعض البعض لا يخفي شماتته سواء كلاماً أو كتابة. وكأنّ المبدع، حسب وجهة نظرهم (يا ليتها مجرد وجهة نظر) ما هو إلا ماكينة تفريخ. ولا يحق له التوقف أو حتى الإفلاس. لقد نسوا أنّ ثمة كتاباً كباراً مقلّين. ومع هذا فهم كتّاب، وكبار أيضاً. فالمسألة ليست عَدّ ليمون، ولن تكون كمّاً بالمطلق.
وهناك عشرات الأمثلة، في أدبنا وأدب غيرنا.
أما يوسف، فكان قبل تلك الأزمة، قد كتب كل ما جعله يوسف إدريس. كتب كثيرة، تكفيه خمسة منها فقط ليتكرّس فاتحاً عظيماً للقصة القصيرة العربية.
أين الأزمة إذاً؟
لم تكن، وكل ما كان: عوار نظر فحسب.
وظَلَمَ نفسه: حين فتح ألف مسرب للصخب، وللتواجد في غير محلّه. مرة كمقدم ونجم تلفزيون، يستضيف مثقفين وسياسيين وفنانين. ومرة ككاتب مسرح. ومرة ككاتب مقالات أسبوعية كبيرة الحجم في الأهرام. ومرة كدون كيشوت، وأمور من هذا القبيل.
فلو كان اعتصم بالعزلة، والتجأ للصمت، كما يفعل كبار أدباء الغرب، لما كان حاله ساء على نحو ما حصل.
لكنْ من أين.. ويوسف حالة مصرية خالصة؟ من أين وهو مزيج من الصخب نهاراً، والاكتئاب ليلاً؟ نتيج الشمس الساطعة وطبع النيل الساطع؟ من أين وهو المصنوع من طين ساخن والمنذور لنجوميةٍ وكاريزما وأضواء، يموت لو ابتعد عنها؟ لذا ظلّت أزمته تمتدّ وتتواصل سنيناً حتى قضت عليه في العام 91. فانطفأ نجم القصة العربية، وخسرنا بموته أفضل قصّاصي زمانه.
أعود لتعرّفي عليه.
ولا بأس لو خلطت الملح بالسكّر. وفصلت بعض الأحداث والتواريخ عن سياقها.
في مقهى ريش، الذي حاز شهرة أكبر بكثير من حجمه، كان يوسف لا يجلس إلا ديكاً بين الجالسين. هو مركز الجلسة، والآخرون الأطراف. هو القطب، وسواه مريدون.
هكذا كوّنت انطباعي الأول عنه، فاستأت. والعجيب أنني، حين عرفته أكثر، أحببته وأحببت انطباعي ذاك معاً.
في ندوة ثانية حاشدة بمقر حزب التجمع، صرخَ مخاطباً أمل دنقل: quot;نحن أكبر من الدولةquot;. وكان يقصد بالدولة حسني مبارك ما غيره. ولن أنسى أبداً بعض تفاصيل ذلك المشهد: الجمهور يصفق بحماس. يوسف ينزل عن المنصة ويجلس في الصف الأول بجوار لويس عوض المكتئب جداً، والغائب عمّا حوله. ويوسف مأخوذاً لا يزال بصرخته: أنا أقوى من الدولة. ولويس ينظر حوله مستغرباً، كمن قام من نوم طويل ووجد نفسه في مكان غريب!
ويكون بعد ذلك أن يتصالح يوسف مع الرئيس، ويا دار ما دخلك شرّ.
أما في مسرح الطليعة بالعتبة، فأذكر جاءت نورا وبوسي لتحضرا العرض مع المتفرجين، فلزق بهما يوسف، وترك بعض ضيوفه من المثقفين وهات يا كلام.
لقد كانت النجومية هي مقتلته.
كان متنبي عصرنا لو جاز التشبيه. عين على الإبداع الباهر، وعين على المكانة الاجتماعية.
عين على الخلق، وعين على السلطة. فكيف يمكن الجمع بين نقيضين ومتضادّين ومتخالفين يتوازيان ولا يلتقيان؟
هو أراد للخطين المتوازيين أن يتلاقيا. يوسف أراد ذلك، وهنا بالضبط: كعبُ أخيلِهِ.
رحمك الله يا يوسف.
اليوم، حين أعود لمجموعاتك القصصية الباهية الباهرة، أقول لنفسي: أية موهبة! أيّ جبار قصصيّ! أيّة إشراقات ذهبت مع الذاهبين؟
وأية ثروة بدّدناها، وبدّدها صاحبها الجميل؟
يوسف أجمل من محفوظ في جلساته.
أطيب.
أصخب.
أحبّ.
ومرةً رأيت دمعته وهو يتابع أخبار حرب بيروت.
أي والله .. وهو يتابع تلك الحرب!

سركون: البوهيمي، الرائي والحقيقي
كنت ذهبت إلى بلدة لوديف، في الجنوب الفرنسي، لأحضر مهرجانها الشعري السنوي، دون أن أعرف أية معلومة عن طبيعة هذا المهرجان وحتى عن أسماء المشاركين فيه لهذه الطبعة.
ذلك الوقت، لم تكن لي أيما علاقة بالإنترنت. (وإن كنت اقتنيت كمبيوترأ وتعوّدت الكتابة المباشرة عليه منذ سنوات) ولعل هذا يكون سبب جهلي الثاني إذا أضفت إليه السبب الأول: عدم معرفتي اللغة الفرنسية.
هناك، كنت الضيف العربي الأول الذي يصل. ولم يكن سبقني في الواقع غير الشاعرتين الكنديتين الكريمتين دونيز بوشيه ودانييلا أويانيس.
المهم: بعد مكوثي يومين في نزل الورود La Roseraie))، الكائن على مرتفع جبلي هيّن، من تلك البلدة، عبرت ذات ظهيرة إلى بهو الإفطار، فإذا أنا وجهأ لوجه مع سركون بولص!
كان العدد الأخير من مجلة مشارف الحيفاوية، قد جمعني وإياه في ملف بين دفتيه.
صعدت لغرفتي في الطابق الأول، مجتازاً المطبخ، وصعد سركون، لنفاجأ سوياً بأننا جيران يفصل غرفتينا جدار رقيق مشترك. ونقف لفتح البابين على عتبة واحدة.
قلت له: أية مصادفة! جيران في مشارف، وجيران في نزل العاهرات هذا ! *
ومن تلك اللحظة، ابتدأت إلى أن انتهت علاقتي الواقعية بسركون بولص!
ابتدأت على مدار أيام وليالي (بالأخص: ليالي) هذا المهرجان اللذيذ. (في الحقيقة، لا أجد له صفة أفضل وأصدق من هذه).
سركون البوهيمي، الرائي، تجسّد لي، في هذا الجوار وهذه الرفقة، بأبهى وأنقى صوره.
ولقد كتبت عنه، هنا في إيلاف، فور عودتي من المهرجان، عام 2005. لذا لن أعيد ما كتبت.
يهمني الآن، وأنا أكتب هذه الكلمات، بعد سبع سنوات بالضبط، سؤال: ماذا تبقّى وتصفّى ورسب من تلك الأيام التي تبدو اللحظةَ بعيدةً؟
سأتكلّم عن أشياء حدثت. أشياء كنت كتبتها ولم تنشر لأنها ببساطة وجهل تكنولوجي: ضاعت من الكمبيوتر.
ومع أنه من المستحيل عبور النهر ذاته مرتين، كما يقول هيرقليطس، فأنني سأحاول.
ذات ليلة، سهرت مع سركون بصحبة الشاعر العزيز طاهر رياض. كنا ثلاثتنا وحدنا، وكان الجو من حولنا يعد بجلسة ولا أحلى.
سهرنا على ضفة نهير لوديف، وأوغل ليل الصيف، بجماله ولسعة برودته المحببة. وكنا، كما هي العادة في مثل هذه الجلسات، أسرفنا في الشرب والحديث.
ولسبب، لا أتذكّره الآن، تخلّف طاهر (رغم أنه يسكن معنا ذات النزل) عن العودة.
قال سركون شاكّاً: هل تعرف جغرافيا الشوارع الموصلة إلى المبغى؟
قلت: لا عليك! ولو ..!
كانت تلك (وأقولها صادقاً) أول مرة أثمل في حياتي. فالشرب ليس من العادات الاجتماعية في بلد محافظ مثل غزة. فضلأ عن أنّ البيرة غير متاحة فيه فما بالك بمشروب روحي أطول!
قمت عن الكرسي، وأنا لا أكاد أتبيّن موضع قدميّ.
خاف سركون وقال بلهجته العراقية الممطوطة: عيني! أنا لا أعرف الشوارع، متأكّد أنك تعرفها؟
_ يا زلمة، إمشِ بسْ .. ولو!
رددت.
كنت أحاول تطمين نفسي، كالخائف في العتمة.
تركْنا رياض، وتوجهنا لمقصدنا.
أعمى يقود أعمى، كما يقال.
في الطريق، على الشارع العام، بحذاء مقهى لواحد جزائري، وكانت الساعة تجاوزت الثالثة أو الرابعة فجرأ، رأينا خالد النجار، يقف وحيدأ على الرصيف، يتأمّل الفجر الوليد، والشجر الكبير الغامض في الحديقة المجاورة، فمازحته، بأمور من وحي الثّمل، ومضينا.
يكرّر سركون وقد دخلنا شارعاً مسفلتاً طويلاً: أمتأكد من أنك تعرف العنوان؟
_ يا زلمة عيب، إركن على صاحبك.
ونظل نسير، ثملاً محترفأ يستنجد بثملٍ غرّ (ثمل للمرة الأولى. أي والله)!
لكنني في آخر المطاف، أوصلته لبغيته، بسلام.
كيف؟ لا أعرف!
فيا سلام!
إنجاز لا غرو رائع من واحد سكران طينة، كما يقول أخوتنا المصريون.
لكنْ، هذا كله غير مهم. فالمرء (كما عرفت فيما بعد) يمكن أن يثمل، ومع هذا يظل جزء من عقله صاحياً.
المهم هو هذا: في الدروب الصاعدة إلى النزل، عبر تلك المتاهة التي لا خبرة لكلينا بها، في تلك الأزقة التاريخية العتيقة، كانت ساعتي قد حلّت.
أخرجني الثمل عن طوري الرصين، وأطلق مكنوني ومسكوتي. وفي إيٍّ؟ في اتجاه الرب تحديداً !
أسمعت سركون ما لم يسمعه في حياته (كما قال لي بعد يومين في جلسة أُنس)
يخرب بيتك! أكل هذا كان في لا وعيك!
من يراك .. ويلمس شغفك العالي بالعيش، لا يتوقع مطلقأ سوداويةً كهذه!
والحق، أنني لا أذكر. ذكّرني هو لكنني لا أعي.
ذكّرني بمخاطباتي لله، وكيف أنه لا يليق به صنع عالم على هذه الشاكلة، بينما حتى الشعراء المفلسون لا يقبلون به. فكيف وهو الأعلى والأعظم يقبل بمثل هذا الصنيع الرديء وينسبه إلى نفسه!
قال سركون: كنت أتثاقل وراءك في عتمة الفجر، وأستمع وأستمع، وأتخيّل نيتشه بُعث حيّاً.
قال: وأتمنى أمنيتين: لو لديّ مسجّلة، و .. انقضاء هذه الليلة على خير!
سألته: كيف يعني؟ فقال: كنت كمن في حمى شعرية. تخاطب الله وكأنك تراه!
والعجيب أنك كنت تخاطبه مثل من يقرأ من كتاب. لغة فصحى وتعابير شعرية وصور! ثم مرّ شرطي من أمامنا، فتوجّست شرأ، لكنه ضحك وقال مساء الخير، ومضى لحال سبيله.
كان سركون، الله يرحمه، كما تبيّن لي في تلك الليلة وما بعدها، من أولئك الذين بقال فيهم: quot;مصابون بعمى المكانquot;. بمعنى لا ينتبهون لعلامات المكان الفارقة، كي يعرفوا طريقهم بمفردهم إذا جدّ الجد.
والحق أنني مثله، وأعرف هذه الخصلة في نفسي من قديم.. فكيف أوصلته للنزل، وكيف فتحت الباب الرئيسي بمفتاح أعطتنيه صاحبةُ المكان .. لا أدري. لعلّها من محاسن الصدف!
والحق، أن ما قلته، مما لا يمكن كتابته هنا، بأي حال، لا يمكن سماعه قط إلا من فم سركون!

هذه واحدة.
أما الثانية والأخيرة، فكانت، في ليلتنا الأخيرة أيضاً.
كنا في المساء افتقدنا سركون، على غير عادته هو quot;سهّير اللياليquot; بلغة صلاح جاهين. سألنا عنه، ثم نسيناه في زحمة الليلة الكبيرة المفترجة ndash; ليلة حفل الاختتام.
وحين عدت للحجرة مكتئباً أننا سنسافر غداً، ونودّع عالماً على الأرجح لن نراه ثانية _ دخلت وتمددت على السرير القديم بملابسي، بلا نية ولا مقدرة أصلاً على النوم.
وهناك، سمعت أصوات فرح ومرح صادرة من غرفة صديقي الحبيب.
كانت امرأة فرنسية مع سركون. وعلى صوتها العالي نمت السهوتين اللتين قدر لي سرقتهما، قبل أن يحلّ الصباح وننزل للسيارة البيجو المنتظرة. (أتذكّر: استيقظت على طَرق رفيق إنما مُلحّ من قبضة صديقنا الشاعر محمد عفيف الحسيني وكان كَلّ صوته من طول النداء تحت).
في الطريق لمطار مونبيلييه، ركبت مع الشاعرة الكندية دونيز بمفردنا. وفي المطار أخبرني سركون _ وروحه مشرقة _ بقصة المرأة، وكيف أنه فضّلها على امرأة لبنانية ثانية، اجتمعتا عليه ذلك المساء، فاختار الأولى quot;لأنها لحوحة وأكثر صباquot;. وأنا سمعت هذا الكلام، وانبسطت لأن صديقي الستيني انبسط.

تلك الليلة كانت آخر عهدي بسركون.
وفي مطار شارل ديغول، رأيته مستعجلاً ليلحق بطائرته التي ستوصله لبرلين، حيث يقيم في شقة صديقه مؤيد الراوي الذي كان حدثني عنه طويلاً وعن زوجته الكريمة مدام فخرية.
تلك الصورة، صورته وهو يحمل شنطته على كتفه ويهرول بملامح ضائعة، ورأس كبيرة غزيرة الشعر، فوق قامة قصيرة مدكوكة، كانت آخر عهدي به.
رحمه الله.
سأظلّ أتذكّره بتينك الليلتين الطيبتين. وعلى هديهما، وهديِ شِعره المبهر، والرفقة الا تُنسى، سيظل عندي واحدأ من أكبر وأندر الشعراء الحقيقيين الرّائين، ليس في العرب فحسب، بل في العالم كله.


* La Roseraie))، كان طوال القرن التاسع عشر وحتى العام 26 من القرن العشرين ماخوراً للجنود الفرنسيين. ثم تحوّل، بقرار من بلدية البلدة إلى نزل من طابقين. لكن مازالت فيه لوحات إيروتيكية تذكّر بماضيه وتخبّر عن الذي كان.